هبت رياح الموضة فاغتنموها....تفاصيل حياتية تدخل الموت السريري في دير الزور نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي المصدر : ياسر العيسى 02/12/2008
“هذه ليست الدير اللي أعرفها” بهذه الجملة عبر محمود عن دهشته بعد قضائه عدة أيام في ديرالزور، وهو العارف ببواطنها وطياتها وكواليسها، قبل أن يغادرها منذ بضع سنوات فقط بقصد العمل.
.

دهشة (محمود) دفعتنا للسؤال والاستفسار عن الأسباب الحقيقية الدافعة إلى التغيير الجذري على عادات ومفاهيم وتقاليد أبناء البادية الذين عرفوا ببعض الصفات المتميزة وتمسكهم بها لسنوات وعقود طويلة، بل وتعنتهم ورفضهم المساس بها أو الاقتراب منها، ولم تستطع جميع العوامل والمؤثرات سابقاً دفعها خطوة واحدة، سواء إلى الأمام أو الخلف، وكان منها السلبي المرفوض، والإيجابي المرغوب والمحمود.

الطعام والشراب واللباس وطريقة الحديث والاهتمامات خير الأمثلة التي يمكن طرحها في هذا المجال، ولعل فئة الشباب من أكثر الفئات التي تستحق الذكر والعناية والاهتمام، والسبب أن أغلبية ركاب سفينة التغيير هذه من الشباب، لكن هذا لا ينفي وجود أصناف عدة من الفئات، والمثال الأوضح هنا “العباءة الديرية” التي تعيش حاليا مرحلة الموت السريري، وتكاد تختفي تقريبا وأصبح من النادر جداً رؤيتها حتى بين النساء الطاعنات في السن، وهي أحد رموز المحافظة منذ زمن طويل، أما “الجلابية” حسب اللهجة المحلية، والتي كانت تميز الرجل “الديري” أيضا، تخصص لبسها حالياً في أيام الجمع فقط، لتختفي بشكل شبه كامل في أيام الأسبوع الأخرى.

بقعة ضوء لابد منها

كل من يقوم بجولة ميدانية في شوارع وحارات وأسواق مدينة ديرالزور يلاحظ بوضوح الانتشار الكبير لمطاعم الوجبات السريعة بأنواعها وأصنافها الغريبة عن طبيعة المنطقة، بل وأصبحت تنافس بقوة “الفلافل” التي تتصدر قائمة الطعام الشعبي دون منافسة، ولوحظ توجه الكثير من مطاعم الفلافل إلى الوجبات السريعة، ومن لديه رغبة في افتتاح مطعم ما، ستكون الوجبات السريعة حتماً من أكثر الفرص القابلة للنجاح والاختيار، وهذا ما خلق عدداً كبيراً من مطاعم الوجبات السريعة، والشارع العام وزميله شارع “سينما فؤاد” من أوضح الأمثلة التي تستحق الذكر في هذا الإطار.

الخضوع للواقع كان الجواب المشترك لأصحاب بعض هذه المطاعم، والذين أكدوا لـ “بلدنا” أن اللجوء إلى أنواع الأطعمة الغربية كان حسب رغبة الجمهور، وهذه الإجابة تنمو من العقلية التجارية لهؤلاء، وبحسب لغة التجارة والمال، يعد هذا التفكير مشروعاً لا يمكن رفضه وتجاهله.

محال الألبسة بدورها كانت لها تغيراتها الجذرية الملحوظة، خاصة ما تعلق منها بالألبسة النسائية التي تحاول السير إلى جانب الموضة المتجددة دائماً ضمن فترات قياسية لم يسبق لها مثيل، وسوق “ستة إلا ربع” الشهير يعبر بوضوح عن حال شباب وصبايا ديرالزور، وبعض أشكال الألبسة الدارجة حالياً، لم يكن باستطاعة أي شاب أو فتاة لبسها إلى ما قبل سنوات معدودة فقط، ويتذكر ماهر الصالح هنا معاناة بعض أبناء المحافظات الأخرى الذين كانوا يقصدون المحافظة في تلك الأوقات للدراسة فيها، وكيف تعرضوا للمضايقات والاستهزاء والتقريع من أجل لباسهم الذي لم يكن بسوء ما يلبس حالياً، مضيفا أن أصدقاءه الذين تماشوا مع موجة الموضة الجديدة غير مقتنعين بها أصلاً، لكنهم يشعرون بأنهم خارج التيار، إذا لم يمتثلوا للموضة، مهما كان نوعها وشكلها وحجمها، وهذا التيار ركبه أيضا أصحاب محلات الألبسة الذين “تماشوا” مع رغبات زبائنهم.

تساؤل مشروع

بعيداً عن وصف الحال القائم حالياً، سواء في الطعام أو اللباس أو تصنع الكلام عبر بعض المفردات الأجنبية أو تسريحات الشعر أوغيرها، نتساءل عن الأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب الجذري خلال فترة قصيرة جدا، خاصة وأنها جاءت في مجتمع يعد من المجتمعات المتمسكة والمتشبثة بعاداتها وتقاليدها وأنماط معيشتها، كانت تغلق الأبواب في وجه كل من يحاول الاقتراب منها، كما ذكرنا بداية.
عمر الذي تجاوز العقد الرابع من العمر قال، إن التغيرات الحاصلة ليست سلبية تماماً فبعضها يمكن وصفه بالإيجابي، لكن السلبي هنا هو الاهتمام بالأمور السطحية التي تميز بها العديد من الأشخاص، خاصة أصحاب التعليم المتدني، لكن جوهر الشخصية بقي كما هو، سواء أكان هذه الجوهر سلبياً أم إيجابياً، ونحن نشهد حالات لبعض الشباب الذين يلبسون أحدث الموضات، بينما بدت تصرفاتهم وكأنهم يعيشون في عصر الجاهلية، وفي المقابل هناك بعض الشباب لهم موضة مضحكة لكن ثقافتهم وأنماط تفكيرهم متقدمة جداً.
(أبو عزت) الذي يرفض المشي مع الموضة أياً كان نوعها انتقدها بشدة، وهو يشير إلى أن ضحكاته تعلو باستمرار عندما يرى بعض المناظر الشاذة – حسب رأيه- ويطرح على ذلك أمثلة عدة من بينها الشاب الذي يصادفه في الأسواق ساعات المساء وهو يلبس النظارة الشمسية، والفتاة التي تريد الإحسان إليه لكثرة “الرقع” على ملابسها، لكن يحز في نفسه، كما يقول بعض أبناء ريف ديرالزور الذي ركب الكثير من الموجة بـ “غباء” على حد تعبيره.
إيناس سفان (أمين تحرير الثقافة في صحيفة الفرات الرسمية) وقفت موقف الوسط في الموضوع المطروح، وعبرت عن ذلك بالقول: من حق أبناء المحافظة الانفتاح على الواقع ومواكبة العصر، ونحن لا ندعو ونؤيد التقليد لمجرد التقليد فقط، فالأشياء الإيجابية نشجع على دخولها في وسطنا دون أن تمس بجوهر شخصيتنا وثقافتنا، والذي يحصل في ديرالزور أن التغيير حصل في النماذج والأشكال لكنه لم يغير كثيراً في أنماط التفكير، وهي تؤكد بأن الانغلاق الزائد في المجتمع “ الديري” ساعد على سرعة التأثر بكل نسمة قادمة من الخارج.
(سفان) عدت الإعلام المتهم الرئيس في التغيير، إضافة إلى بعض العوامل الأخرى مثل افتتاح جامعة الفرات، وقدوم عدد كبير من أبناء المحافظات، سواء للدراسة أو للعمل، ناهيك عن أبناء ديرالزور الذين يدرسون في الخارج، مضيفة أن الإعلام يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تغيير الكثير من العادات المجتمعية السلبية التي نحاربها منذ سنوات عدة، وعبرت أخيراً عن ثقتها بجيل الشباب الذين طالبت بعدم النظر إليهم بسوداوية، مشيرة إلى أن هذا الجيل يتقبل الإيجابي كما يتقبل السلبي، لكن الذي يحصل أن أكثر ما يعرض عليه يحمل الصفة السلبية أكثر من الطابع الإيجابي


عن جريدة بلدنا