قراءة في مجموعة


عطش الماء
للأديب الكبير: سمير الشريف




بقلم/ شوقي عبد الحميد يحيى

تثير كتابة سمير الشريف العديد من القضايا التي يأتي في بدايتها مشكلة الحدود للأنواع الأدبية ، وهل من فاصل بينها ، أم أن الأنواع تداخلت واختلطت حتي لم يعد


ثمة حدود بين القصة القصيرة والرواية ، أو بين القصة القصيرة وشعر النثر ، أو بين القصة القصيرة والخاطرة الأدبية ........ الخ .
وأؤكد من البداية أنه ليس هناك حدود فاصلة قاطعة لأي من الأنواع الأدبية ، يمكن أن يقال أنها تنصب في هذا القالب أو ذاك ، والخروج عنها يخرج العمل من جنة النوع الأدبي ، ورغم ذلك يظل لكل نوع - في نظرنا - خصوصيته التي تميزه عن غيره من الأنواع الأخري ، وبتجاهلها يختلط الحابل بالنابل ، ويصبح لكل من يخط بعض السطور أن يدعي أنها هذا النوع أو ذلك ، وإنما هو مجدد ويأتي بما لم يأت به الأولون ، وهي الخواص التي يتعارف عليها جمهور النقاد استخلاصا من إبداع المبدعين الذين درسوا تراث النوع الأدبي وتمرسوا به ، ثم من خلاله أضافوا أو حذفو ، بما تسمح لهم به موهبتهم التي يتفق عليها النقاد والقراء المتمرسون بالقراءة المتفحصة والدارسة .
فإذا ما تجولنا داخل مجموعة " عطش الماء " ، وعلي قناعة بما سبق ، نستطيع استخلاص الرؤي العامة التي تؤكد بأن سمير الشريف كاتب يملك إسلوبا شاعريا ، ذا نكهة خاصة ، تتميز بالجمل القصيرة الموحية ، يعتمد التركيز و الإيحاء في الكثير من قصصه ، كما يعتمد الوصول للهدف بالطريق المباشر في الكثير من القصص ، والاستبطان في القليل منها . تتمركز قصصه - بصفة عامة - حول ويلات الحرب والغارات ، وانعكاساتها علي الفرد والأسرة ، وما تسببه من تدمير معنوي ، خاصة للأطفال ، الذين ينعكس عليهم الفعل بصور أكبر تأثيرا من الكبار . ولا يحدد لنا الكاتب أي حرب علي وجه التحديد ، وإنما يترك الأمر منفتحا علي ويلات الحروب والغارات كمبدأ عام . - وأحب هنا أن أرفض نظرية موت المؤلف ، التي تنظر للنص بمعزل عن المؤلف ، إذ أن معرفة المؤلف ومعرفة البيئة التي ولد فيها النص ، لا بد تضفي معرفة أوسع بالنص والمؤثرات التي تفاعلت لإنتاجه - . لا يتخذ الحكي وسيلة للسرد ، وإنما يغلب عليه الرسالة المباشرة المستخدمة لضمير المتكلم ، يخاطب بها آخرون ، الذين رغم وجودهم ، إلا أنهم في أغلب الأحيان غير مرئيين ، لذا بدا في الكثير من الأعمال كمن يهذي ، أو أنه يخاطب الوهم حتي يصل حد الجنون ( كما في قصة " ثرثار " ) .
تتراوح مجموعته القصصية " عطش الماء "[1] بين القصة التي لا تتجاوز الصفحة الواحدة ، والتي تتجاوز الصفحات الثلاث . متأرجحة بين القصة ، واللوحة ، والرسالة المباشرة ، الأمر الذي يؤكد أن القصة القصيرة ليست قصيرة بالحجم والمساحة الكتابية ، بقدر ما ترتبط بالعناصر الفنية لها . ولنبدأ في دراسة ذلك علي واقع المجموعة في أولي قصص المجموعة ، تأتي ق . ق . ج . ( كما يحب أصحاب القصة القصيرة جدا أن يسموها ، هي قصة " محاكمة" حيث يأتي تسلسل ، أو تطور الولد من سن الخامسة وحتي سن الخامسة عشر تسلسل جميل ، اعتمد علي الأيحاء دون تصريح ، قالت القصة قليلا ولكنها أوحت بما هو أكثر . ولكن القصة هنا أصبحت قصيرة من حيث الحجم والمساحة الكتابية فقط . لكنها تناولت حياة ممتدة رأسيا ، منذ كان الطفل ابن الخامسة ، حتي صار ابن الخامسة عشر . فما الفارق بينها وبين الرواية إذن . عشر سنوات - وأقل منها - يمكن أن تصنع رواية . وقد كان بالإمكان من نفس الفترة الزمنية ، ونفس الأحداث خلق قصة قصيرة أيضا . لخصلت القصة مأساة الطفل حتي رفع السكين علي رقبة أمه بعد أن وعي ما تفعله . أما القصة القصير فهي فن التكثيف ، فن تفجير اللحظة ، و لولا اصرار الكاتب علي كتابة القصة القصيرة جدا ، ككتابة جديدية ، لكان للقصة شأن آخر .
وحول نفس الفكرة تدور قصة ( غضب ) التي تنتمي بالفعل - أيضا - للقصة القصيرة ، غير أنها لم تترك هذه المساحة للقارئ ، فقدمت كل شئ ظاهر واضح . فالمشكلة إذن لا علاقة لها بالمساحة الكتابية . غير أن القاص ، في ذات المساحة الكتابية ، يقدم قصة أخري - تنتمي أيضا لل ق ق ج ، هي قصة مصير ، قصة مكتملة فنيا . استطاع فيها أن يقدم رؤية لوقائع الحرب بكل أبعادها في ذات المساحة القصيرة مقدما قصة من أبدع قصص المجموعة .
رجل كتبت السنين والحرب خطوطها علي كيانه ، مصدر رزقه ( دكان ) لكن الحرب جعلت رفوفه فارغة ، ولم يزد الكاتب عن القول { وجد رفوفه فارغة } و إذا ما وضعت الجملة بجانب { إستدار مرسلا نظراته داخل دكانه الذي رش ساحته ببقايا ماء وضوءه } وجدنا الكاتب قد ترك لنا العنان في تصور وقع ذلك علي إحساس الرجل وتأثيره النفسي علي وجوده ، أي أن الكاتب غاص في كلمات قليلة في أعماق النفس ، واستبطن الشخصية لخلق بعد داخلي بها ، مما زاد من مساحة القصة ، مساحة غير مرئية ، وأعطي قدرة وتميز للقاص في التعبير الموجز الموحي . ثم ، هذا الرجل المسن القابع أمام دكانه ، عندما هجمت الغارة الجوية ، لم يفكر في نفسه ، لم يتذكر سوي رفيقة دربه ، لم يشغله سواها ، بينما الرصاصة تداهمه وتنهي حياة رجل مسالم ، في واحدة من ويلات الحرب ، القاتلة لسلم وأمان البشرية .
وإن كانت هذه القصة ( مصير ) قد تميزت عن غيرها كثيرا في ترك فضاءات بالقصة ، تركت القارئ يهيم فيها . وفي إطار القصة القصيرة جدا - أيضا - يقدم سمير الشريف هذه المقطوعة التي نثير السؤال ، إذا ما تأملناها ، بماذا تفترق عن النص الشعري الحداثي ، وما فيها من حركية القصة وتوغلاتها وانحناءتها وتداخلاتها ؟ نزف
قالت بفرحة يسرج الحزن نبض حروفها…
هذا الذي بيننا ، شوق الطفولة للمهد والأرض للماء والفراشة للورد..
هذا الذي يحتوينا ، قبلة يفرشها الوجد عند انبلاج الصباح..
ما نحن فيه اكبر منا جميعا ..
يقين المنطق الفج ..
الحسابات السخيفة..
توقا إلى الأبدية نزرع الحلم بأيامنا..
لماذا ونحن نطّير وهم الهناء ،تولد جرثومة الهمّ
ويزعجنا شعور مهيب من قادم الخوف؟
لماذا يصير القريب بعيدا الحبيب غريبا ؟
لا تقولي أين الذي دعيناه وهما ذهب.
المس في غصة الصمت بوح وفي البوح عويل رياح .
أخاف على الدرب أن تذيع الخطى
ويطفئ القلب أشواقه
أوجس قول الذي لا يقال
سلبتني لون حزني أخرست فيّّ مشاريع بوحي
فهل آن وقت اقتراح الرحيل؟ ...................................
القصة الطويلة ( نسبيا )
وكما قدم الكاتب القصة القصيرة جدا ، كذلك قدم القصة القصيرة الطويلة ( نسبيا ) ، إلا أن ( لجام ) فرس الكتابة الذي يمتطيه الكاتب يبتلعه الفرس ويجمح في فضاء ما له من ملامح . ففي قصة " بوح " نري تهويمات يتوقف الزمن بها عن الحركة ، والقصة هي الحكي ، والحكي إبحار في الزمان ، فلا خطوة إلي الأمام ولا إلي الخلف .
وفي قصة " بلا عنوان " تتوقف القصة عند الخاطرة ، لحظة يأس من الكتابة وعدميتها ، تفتقد القصة أيضا الحركة ، النمو ، لتقف عند تسجيل اللحظة تسجيلا خارجيا . وفي قصة " دائرة الصمت " تتعدد الضمائر بما لا يحتمله حجم ومساحة القصة القصيرة ، فيتوه القارئ ، ولا يستطيع القبض علي اللحظة أو الفكرة . ف { قالوا كنت تحب فتاة سمراء } ( المخاطب ) , { ركضنا خلفك } المتكلم الجمعي ، و { ُعد تُ مع جدي } المتكلم الفرد .
نوع ثالث من كتابات سمير الشريف ، وهونوع أقرب لفن الكولاج ، لقطات متنوعة تشكل في مجملها صورة كلية ، يأتي ذلك في قصة " الحائر " وفي أخر أعمال المجموعة " صور " وهي حقا صور ، لتعرية بعض سوءات المجتمع ، وبعض نماذجه البشرية ، يرسم فيها صورة شخص يعيش عالة علي الآخرين ، حيث لا عمل ، لقطات متنوعة ، لكنها في النهاية ترسم صورة كلية ، أي أن الكاتب يستخدم فن الكولاج في تجميع اللقطات ليشكل منها لوحة كلية ، فالكاتب هنا إذن يسعي لرسم الشخصية ، وإن كان نجاحه في رسم تكوين وأبعاد هذه الشخصية ، يؤطر حياة ويكثف وجودا ، الأمر الذي يضعها في مجال تجديد القصة القصيرة ومحاولة الإضافة إليها .
يمكن القول إذن أن سمير الشريف ، لديه ثلاث أنماط من القصة القصيرة ، هي القصة القصيرة جدا ، والقصة القصيرة ، والقصة الكولاج ، يحاول حفر بصمة خاصة به ، وإن كانت المحاولة تجنح في بعض الكتابات لتبتعد وتقترب من القصة القصيرة ، يعتمد علي ضمير المخاطب في أغلب القصص ، يتناول الموضوعات من حيث انعكاساتها الظاهرية ، غير أن لديه الرغبة والقدرة علي عطاء المزيد والمتطور من الأعمال القصصية .



منقول عن صحيفة السيادة