نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

يا حَبّةَ القَلب

بقلم : عدنان كنفاني












يا مدينتي العصيّة على الغياب..

أيتها الموّشاة بعشق من بنوك حجراً حجراً، من سيّلوا في مسالكك ماء وجودهم، من زرعوا تلالك ووهادك، فأثمرتِ عنباً وتيناً وزيتونا..

كاد الزمن المسيّج بأسلاك الوهم أن يغفو على جراحك، أن يكفّن ذاكرة الناس ببريق خُلبيّ يمسح فضاءات النغم، ويبدّل أعشاش النوارس إلى "شاليهات ويخوت" تعبر في كل يوم من أمام مرايا المتجذّرين بأرضك.

يا مدينتي الساكنة بوّابة التاريخ والوطن..

ما زالت مئذنة "جامع الجزّار" تردد نداء الله أكبر، وطقوس "الشاذليين" تصعّد نداءاتها إلى السماء.

ما زالت مقبرة "النبي صالح" تحتضن رفات الصابرين المنتظرين إطلالة الفجر.

يخرج الحفيد بعد ستين سنة من قلب الرماد الكتيم.. جديداً، ممتشقاً جمر الحقيقة، ليعلن للعالم المذهول، قيامته، يقول: أنا هنا.. في أرض عكا، وتراب عكا، وضمير عكا.

ستون سنة عجاف، وتأبى نقطة الزيت "العكّاوي" أن تتحلل بالماء.!

حاصروا أهلك، صادروا أراضيهم وأملاكهم، وأغلقوا مدارسهم ومساجدهم، وحشروهم بين جدران تتآكل يوماً بعد يوم، ومارسوا أبشع صنوف التعقيم..

منعوا عنك فسحات العلم والنور والبياض، تارة بالترغيب، وألف تارة بالترهيب، لكن المتجذّرين في الهوى الكنعاني صمدوا..

يتآكل جدار، فيرفع "العكاوييون" من عظامهم قوائم تحميه، ومن بيوتهم مدارس تورّث اللغة والتقاليد، وشكّلوا دوائر حب وجمعيات ونشاطات ثقافية واجتماعية تحتضن أبناءهم.

ستون سنة من البطش والحقد والاستفزاز والشراسة لم تزحزح إيمان أهلكِ يوماً بأنهم عرب فلسطينيون.

عكا يا حبّة القلب، يا مدينتي الصامدة الصابرة..

ما زلتِ حاضنة لعشرات القرى المرشوشة حولك.. وحيّ "الرشيدية" يستقبل قطار حيفا، والمستشفى الوطني صار حكراً لغير أبنائك.. أما السور العظيم فهو الشاهد على مسيرة التاريخ.

ستون سنة يا عكا وتنهضين صبيّة على جبينك وشم الغار، وفي يديك حنّاء البقاء، تقولين للعالم المذهول: نعم أنا عكا، بعد ستين سنة من الطمس والتغييب أعلن بقائي.

أنا عكا قلب فلسطين، ورمز فلسطين، وضمير فلسطين، فكيف يتسلل عابث ليقرر مصيري ويسلخني عن جسد فلسطين الأم.؟

أنا عكا، جدّي كنعان، ولغتي العربية، وتاريخي تاريخ المنطقة، وأهلي حواضن البقاء والصمود والاستمرار.

أهلي هم حفظتي، سكنوا حدائقي وترابي، وتنفسوا نسيم فضائي، فكيف يعبث بمصيري العابثون.؟ ومن فوّضهم يتكلموا باسمي.؟

ستون سنة وأنا أعضّ على الجرح، وأحفر بأظافري إيوان بقائي، فهل يستطيع العالم، كلّ العالم، أن يمنع عني حفرة في الأرض تحتضن رفاتي.؟

ستون سنّة وزيتي يأبى أن يتحلل مع أي سائل غريب.

ستون سنة وأنا أكرّس لُحمَة التواجد في المكان، أورّث الذاكرة لأبنائي وأحفادي كي يقبضون على جمر البقاء، وأسرّب العدوى إلى كل المدن والقرى الفلسطينية كي نَهِب الحياة معناها وقيمتها.

وسأبقى عكا العربية الفلسطينية، فاحفظوا عني هذه الحقيقة البيضاء..


ـ ـ ـ