السلام عليكم

هذه دراسة نقدية للمبدع الصديق د . مصطفى عطية جمعة وفيها يتناول التجربة الشعرية للصديق د. جمال مرسي الشاعر الجميل
وهذه الدراسة منشورة في ملتقى الأدباء والمبدعين العرب وفيها الجهد الذي قدمه الأخ د. مصطفى جمعة واضح وجلي
سأقدمها هنا على أمل التعرف على اسلوب المميز د . مصطفى جمعة وايضاً التعرف على الشاعر د. جمال من خلال تجربته الإبداعية .
وشكراً لكم مقدماً ... ( علي جاسم ) ....




قراءة نقدية في التجربة الإبداعية للشاعر " د. جمال مرسي " :


تطور الرؤيا والتشكيل الجمالي في شعر جمال مرسي
دراسة في الخطاب الشعري

د. مصطفى عطية جمعة

ملحوظة أولية :
هذه هي الدراسة النقدية التي قمت بإعدادها في ندوة الخميس 16 /8 / 2007 في بورسعيد ، وهي سترسل للنشر لمجلات وصحف أدبية في مصر والخليج العربي إن شاء الله .
* * * *
يعد الشاعر " جمال مرسي " من الأصوات الشعرية التي تسترعي الانتباه ، لاعتبارات عدة ؛ فهو شاعر يمثل حلقة وصل بين أجيال شعرية عدة ، بدءا من شعراء السبعينيات ومرورا بتجربة جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ؛ كما أنه شاعر يحظى بكثير من التواجد في الساحة الأدبية منذ عدة عقود ، تواجد يمتد من الإقليم ( محافظة كفر الشيخ ) ، مرورا بالعاصمة (القاهرة) إلى بلد العمل والإقامة المستمرة منذ سنوات ( المملكة العربية السعودية) ، حيث ينشط في العمل الثقافي العام ، من خلال حركة دينامية ، لا تعرف السلبية ، ولا تستسلم للتنائي الجغرافي ، فتركن إلى الدعة والكسل ، بحجة أن الإبداع مرتبط بمكان محدد ( الوطن ) . فهو كثير التواصل بين مبدعي إقليمه باختلاف أعمارهم، ومع أبناء جيله في مختلف ربوع مصر ؛ نفس الدور الذي يقوم به في الغربة (الاختيارية ) حيث يتواصل بشكل حميم مع مبدعي العربية السعودية ، في دور مهم من التواصل مع المبدعين العرب ، يدحض به ما هو دارج بين البعض من كون الغربة محرقة للمبدع وعزلة إجبارية له ، وهي مقولة تعبر عن بحث عن عذر أمام النفس يبرر استسلامها لتيار البحث عن المادة . في الوقت ذاته ، الذي استطاع أن يعزز تواجده في الفضاء الإلكتروني ، عبر مساهمات مستمرة في المواقع الأدبية والثقافية ، وتبني الكثير من المواهب ، وهذه صورة أخرى للتواصل والعمل الثقافي العام ، وهذا ما أعطاه حضورا قويا في منتديات النت ، مما جعله أحد الوجوه البارزة في العالم الإلكتروني الفسيح ، الذي صار رافدا مهمًا لتغذية الحياة الأدبية العربية بشكل عام ، والذي دعّم التواصل بين المبدعين العرب، وعمق الكثير من المشترك بينهم ، داخل أقاليم العروبة أو خارجها مع أدباء المهجر .
إن هذه الدراسة تسعى إلى الوقوف على أبرز معالم التجربة الشعرية لجمال مرسي ، من خلال دراسة مظاهر التطور في الرؤيا والتشكيل الجمالي في الخطاب الشعري لديه ح بغية تحديد أبرز ملامحها ، ومدى الثبات والتطور في هذه الملامح . وتنطلق هذه الدراسة من الأعمال الشعرية التي صدرت للشاعر سواء في النشر الورقي أو النشر الإلكتروني ، بعيدا عن الرؤى النقدية والانطباعية التي تقف عند قصيدة ما أو عدة قصائد ، فهذا يتيح رؤية أشمل ، وأكثر اتساعا ورصدا في مستويات الخطاب ، وحسنا فعل الشاعر أن وثق تجربته من خلال حرصه على النشر .
تحولات الرؤيا في الخطاب الشعري :
تدل تجربة جمال مرسي على أنه شاعر ملتزم ، طبقا لمفهوم الالتزام بمعناه العام ، الذي يشمل التمسك بالثوابت الأخلاقية والدينية والوطنية ، والتغني بها . وهذا ما عبّر عنه ديوانه الأول المعنون بـ " غربة " (1)، وواضح أن الديوان صدر في مرحلة عمرية متأخرة نسبيا ، ولكنه يمثل وثيقة مهمة في التطور الإبداعي لشاعرنا ، فهو يعبر عن الحلقة الأولية التي يهرب منها كثير من الشعراء الآن ، حيث يفضلون نشر تجاربهم في التفعيلة أو قصيدة النثر ، ويتناسون في ذلك أن كل عمل أدبي – ضعف أو عظم - يمثل ملمحا من ملامح الإبداع لديهم .
وقد اتبع شاعرنا في ديوانه الشكل العمودي في القصيدة ، ويمثل الديوان تجميعا لأهم القصائد التي تعبر عن المرحلة الأولية في تجربة جمال مرسي . وربما اتسق الشكل العمودي مع طبيعة المضمون المطروح والذي دار في دوائر دلالية متجاورة :
الدائرة الأولى : القضايا الدينية كما في قصائده : " الإسراء والمعراج ، العودة إلى الله ، وليمة رفضت تناولها أعشاب البحر ، لا للوهم ، لا للمخدرات ، يا شباب اليوم .
الدائرة الثانية : قضايا الوطن العربي الكبير كما في قصائده : " انتفاضة الأقصى، صوت من القدس ، فلسطين الحبيبة ، أفراح الجنوب اللبناني ، شاهد على الغدر.
الدائرة الثالثة : صلة الرحم كما في قصائده : يا والدي ، هذا بري بوالدي ، أتلمس وجه أمي ، رد الجميل .
الدائرة الرابعة : الذات الشاعرة وهمومها ، كما في قصائده : عاشق الكنانة ، غرقت قلوعي في بحار هواك ، عيناك ، صراعات نفس ، غربة ، الرزق الحلال.
وقد رتّب الشاعر قصائده في الديوان بدءا من الذاتي وانتهاء بالقومي العربي والديني الإسلامي ، وهو ترتيب يعبر عن طبيعة مفهوم الدائرة الدلالية الذي يحصر النص في دلالة واحدة ( مفهوم الغرض القديم ) ، وجاء الترتيب من الجزء ( الذاتي ) إلى الكل ( العربي والديني ) .
وإذا كان الديوان يمتاز بالخطاب الشعري المباشر ، الذي يتجلى في عناوين القصائد ، وهي عناوين تمثل ملخصا للتجربة ، وبعبارة أخرى : ثمل العنوان الرؤية الشاملة للنص كله ، وهي سمة جمالية ستظل ملازمة لشاعرنا فيما بعد ، مع المزيد من التشكيل فيه .
ونستطيع أن ندرك أن الدوائر الدلالية الأربع المتقدمة تعبر عن ذات شاعرة شديدة الانتماء ، تحمل الكثير من القيم والهموم المشتركة، وهي رؤى تعبر عن ذات شاعرة شديدة المثالية ، تعيش الحلم في أعماقها ، وتواجه الحياة اليومية بالطريقة الاعتيادية ، ولكن تظل المثل سحبا تتمنى اقتناصها . وربما لم يأت عنوان الديوان " غربة " اعتباطيا ، وهو قد حمل في نفس الوقت التصور العام لرؤية الشاعر في الحياة ، حيث يقول :
أمشي على شوكِ القتادِ تقودني قدماي صوب الأحمر الممنوع
أجتاز حــدّ الانهزام وأعتلي مــوج التحدي سابحا بقلوعي
أطوي دياجي حيرتي وتغرّبي وأضيء رغم الانكسار شموعي(2 )

تشير الأبيات السابقة إلى الرؤية المتقدمة ، فالذات الشاعرة تنظر للحياة كلظى مشتعل ، تحاول أن تتعامل بمثالية ، ولكن الواقع دجى ، يدعو للانهزام ، ولكنه سيظل سائرا في خضم الحياة ، معتليا الانكسار ، حاملا شموعه .
كما تدل الأبيات السابقة على ملمح مهم في الحلقة الأولى لشاعرنا ، فهو ثري القاموس اللغوي ، مبدع في تراكيبه ، لديه مقدرة فنية في تكوين الصورة ، جامعا فيها ما بين المادي واللامادي ، فنرى شوك القتاد والأحمر الممنوع ، وحد الانهزام والسباحة في موج التحدي . وهي صور تبدو متأثرة بجماليات القصيدة العمودية ، حيث الصورة المعتمدة على الإضافة ( حد الانهزام ، شوك القتاد ) والنعت ( الأحمر الممنوع ) والترادف ( أمشي ، تقودني قدماي ، حيرتي وتغربي) وفيها الكثير من المباشرة المعنوية ، التي تتسق مع طبيعة التجربة في المرحلة الأولى ، الذي لا يزال الشاعر واقفا فيها عند مفاهيم الشعر العربي العريق ، وهو ما عبّر عنه في مفتتح ديوانه ، حيث يقول :
هو الشــعر يرقى بأحلاميه أحقق فيه مُـنى ذاتـيه
هو البر إن أنت رمت النجاة هو العطر فـاح بأياميه
وأنهل منه سـلاف الحـياة وأقطف أزهاره الزاهيه ( 3 )
فالشعر تجربة وجدانية ذاتية ، يعبر عن رؤى الإنسان البسيط : حلما وعشقا ونسيبا ومدحا هجاء ، وهو تصور أولي بلا شك ، تم تدارجه في التجارب الإبداعية اللاحقة .
* * *
" شرفة القمر " ديوان مشترك لمجموعة من الشعراء العرب ( 4 )، وقد ساهم فيه الشاعر بأربع قصائد وهي : شذور ، لأنك أنت ، في المقهى ، أبهى قصائد شعري. وبالنظر إلى تاريخ صدور الديوان ، نجد أن الشاعر آثر التمهل ، حتى تكون النقلة التالية نوعية في مستواها ، وهذا ما نجده في قصيدتين من القصائد الأربع ، حيث التحول من الشكل العمودي إلى شعر التفعيلة ، وتعميق الرؤية وشمولها لمختلف جنبات الذات التي تعيش عالما شديد التعقيد ، تتعاور فيه القيم مع المباذل، القوة والضعف ، الشيئي ( المادي والمخلوق ) والمعنوي ( الفكري والنفسي )، وهي ما يميز قصائد التفعيلة وتمثل أحد تجليات مفهوم الحداثة الشعرية . وهذا نجده جليا في قصيدة " شذور " حيث يقول في مقطع بعنوان " فراشة " :
حلّقت ...
حول مصباح غرفة نوميَ
مدبرةً ، مقبلةً
كنت أحسبها قد أتت
كي تؤانسني
فإذا بها جاءت ..
لكي تسقط القنبلةْ ( 5 ).
إننا إزاء موقف درامي ، يقترب من بنية القصة القصيرة جدا ، حيث تنشغل الذات الشاعرة بالفراشة المحلقة في فضاء الغربة ، تدبر وتقبل ، يظن أنها جاءت لمؤانسته ، ثم يكتشف أنها حاملة قنبلة . إنها بنية المفارقة ، حيث يتحول الفراش (شيئي ) إلى طائرة حربية مغيرة . وهذا خطاب عالي الشاعرية ، يشي ولا يصف، يلمّح ولا يصرّح ، فقد دلنا على ذات منعزلة تكتوي بالهوان العربي ، وتلوذ بأي جديد في فضائها ، ويأتي الجديد " فراشة " حشرة جميلة الشكل والألوان، تافهة الحجم ، مسالمة ، نفس ما يردده أعداؤنا من قيم السلام والتعايش والحرية ، ثم تتحول الدعوة إلى هجمة ، مثلما تحولت الفراشة إلى طائرة مقاتلة.
في حين جاءت القصيدتان العموديتان : حلقة وسطى بين التجربة السابقة بمعطياتها الجمالية ، وبين قصيدة التقعيلة ، ففي قصيدة " في المقهى " يقول :
في مقعد هادئ في ركن مستترِ نأى بعيدا عن الفوضى عن النظرِ
فهو يرصد ما قبل وصول المحبوبة ، بعدسة حسية بطيئة الزمن ، حركتها مقلة العين السارحة في جنبات المقهى ، ومناجاتها مع النادل ، مسترجعا الأوصاف الحسية للمحبوبة ، فيقول :
شعرٌ تدلى على أكتافها مَرِحًا يزهو بسمرته يزدان بالدررِ
كأنه موجةٌ تجري وتتبـعها أخرى فتهرب للشطآن والجزرِ
والوجه واحة فلٍّ في تأنـقه والخد روضة كرز باسم نضرِ( 6 )
تقف القصيدة عند الوصف الحسي للمرأة ، ولكنه وصف دال على تألق الصورة لدى الشاعر ، فقد تخلص من بنية المضاف إليه والنعت ، وتحول إلى بنية الإسناد في الجملة الخبرية : " شعر تدلى " ، " الوجه واحة " ، " كأنه موجة"، " الخد روضة " ، وجوهر الصورة الخبرية الثبات ، ولكنه ثبات متحرك بفعل إيحاء الألفاظ : تدلى ، موجة ، روضة ، واحة ، إنها أوصاف مسندة تحمل حركية وجمالا وسعة ، فالروضة ليست مكانا جامدا ، وإنما لوحة متحركة باهتزاز الأشجار وطيران الفراشات والأطيار ، كما أن اللفظ المنتقى يحمل كلا لا جزءا ، فالواحة والروضة والموجة ، ذات كلية جمالية ، ثم يلحقها بجماليات تابعة ، فالكرز فاكهة يانعة الحمرة ، وهّجها الشاعر بالبسمة والنضرة ، وهي تتبع الروضة ، لأنها جزء منها .
إذن ، جاءت قصائد هذا الديوان المشترك كقنطرة واضحة في التحول الفني والرؤيوي للشاعر .
* * *
" أصداف البحر ولآلئ الروح " ( 7) التجربة الثالثة في النشر لجمال مرسي . ونطالع فيه الإهداء المعبر عن الانتماء والعرفان إلى : الوالد والوالدة ( القدوة والمثل ) ، وإلى الزوجة ( رفيقة الدرب ومليكة القلب ) ، وإلى محمد الشهاوي ( الشاعر الأستاذ ) . فالشاعر محافظ على دوائره الدلالية المتقدمة في ديوانه الأول، وأشار إلى العروبة والدين بالوالدين ، الحب بالزوجة ، والحداثة الشعرية بمحمد الشهاوي ، أحد أبرز شعراء جيل الستينيات والسبعينيات ، الذين ساهموا بثورة كبرى في بنية النص الشعري ، متجاوزين الرؤى التقليدية الجمالية ، إلى فضاء رحب ، فالنص واحة شاملة لكل ما يملأ الذات المبدعة : سياسي واجتماعي وجمالي وتراثي .
وهذا ما أبانه الشاعر في مطلع الديوان ، حيث يقول في قصيدة " هو الشعر" مقدما تصورا جديدا يخالف التصور التقليدي الذي افتتح به ديوانه غربة :
كسوتُ القوافي من حرير مودتي
وجرّدتُها إلا من الحق والهدى
فكانت لظى في النائباتِ وفي الوغى
وكانت حمامات إذا السيف أُغمدا
...
وما غابت الأوطان..
عن شعري الذي نسجتُ ،
ولا الإحساس يوما تبلدا
....
جعلت رضا الرحمن همّي وغايتي
فحققت ما أصبو إليه مؤيدا( 8)
تطور المفهوم الشعري من الدوائر الدلالية المتجاورة ، إلى الدوائر المتداخلة الممتزجة ، وهو ما مزجه في النص السابق ، فكأنه يعيد تأكيد ما سلف ، ولكن سيكون التطور الرؤيوي هو المزج بين كل هذا في بوتقة شعرية نصية واحدة، لا تعتمد الجزء المتجاور المتتابع ، بل الكل الذي يحوي الجزئيات ويمزجها ، مع تواصل التجديد في الجمال النصي ،مع الحفاظ على موسيقية النص العالية .
لعل أول ملامح هذا التجديد ، تبدو في التناص ، فيقول :
ملهمتي
وأكذبَ الشعرَ إن لم يرتجل فيكِ
وكيف تشرب ماءَ الصدق قافيتي
ما لم يكن نبعها الصافي قوافيكِ
وكيف أرضى لأمواجي
وأشرعتي ، مرافئا
لم تكن يوما مرافيكِ ( 9 ) .
" أكذب الشعر " تناص مع مقولة تراثية : " أجمل الشعر أكذبه " ، وهنا نرى توظيفا جديدا ، فهو يعترف بالمفهوم التراثي ، وهو مفهوم لا يضاد الصدق الفني، ويدعم الكذب ، بل هو داعم للصدق ذاته ، فالكذب هنا يعني عمق التخيل ، وهذا ما بنى عليه شاعرنا توظيفه ، فأكذوبة الشعر ( بدلالة جماله الفائق الخيال ) ، وقد مزجها هنا بخيال شديد الخصوبة جمع صورة الشعر المؤنسن " كيف نشرب ... قافيتي " ، مع العاطفي المحسوس " ماء الصدق " ، مع الشعري الرحب " أشرعتي، مرافئا ، مرافيك " ، وترافق مع الموسيقى الجلية ، موسيقى اللفظ من خلال التكرار اللفظي الموظف بالكلمات " قافيتي ، قوافيك ، مرافئا ، مرافيكِ ".
والملمح الثاني : التوظيف للتاريخي والأسطوري ، حيث يقول :
هل كنتُ أقبلُ ألقابًا ..
يرددها ، من كان قبليَ
يا قمراءُ أهديكِ ؟
وأنتِ أنتِ أيا بلقيس مملكتي
أميرةٌ ، والحنايا من جواريكِ ( 10 ) .
فبلقيس ملكة سبأ ، ذكرت قصتها في القرآن الكريم ، وقد خاطب الشاعر المحبوبة بالمنادى " أيا بلقيس " وهو أسلوب يوسم المخاطبة باللفظ المنادى ، وتجاوز في ذلك البنية التقليدية بأن يسند " بلقيس " إلى المحبوبة ، ثم أضافها إلى " مملكتي " لتصبح المحبوبة أميرة مملكته الرحبة ، ولاحظ أنه لم ينعتها بالملكة شأن بلقيس قديما ، وإنما آثر أن تمايز بلقيس التاريخية إلى بلقيس ذاته الشعرية ، فأنزلها درجة في اللقب ، إلى أميرة ، ثم جعل حنايا مشاعره جواري في بلاطها .
ولا يغيب عنا التكرار اللفظي " أنتِ أنتِ " وهو يدعم هنا موسيقية المقطع ، مع توكيد دلالة التعظيم للمحبوبة .
والملمح الثالث : المزج بين الشخصي والقومي العروبي : حيث نلمح تحولا في الخطاب يخالف فيه ما يتوهمه المتلقي ، يقول في قصيدة " مروة " ، مخاطبا ابنته:
يا مروة الحسناءُ
قولي ..
بالذي سواكِ حلوه
....
وكبرت أكثر يا بُنيّه
فسألتِ عن حال القضيه
ما لليهود يدمرون ويقتلونَ
بلا رويه( 11) .
فالقصيدة كانت خطابا أبويا شديد الرقة للابنة ، ولكنه ارتبط بقضية فلسطين ، تسأل الابنة الأب عن القضية ، واليهود ، والتدمير ، نفس السؤال الذي سأله الشاعر للآباء ، فكأن القضية باتت متلازمة زمنية تتناقلها الأجيال من الجد إلى الأب إلى الابنة . ويسترعنا هنا أصداء من التجربة الأولى حيث نرى الإلحاح على لون من المباشرة في الخطابية ، وهي تعبر عن رغبة الشاعر في تعميق الخطاب وإيصال رسالته ،ولو على حساب الجمالي ، فنرى الإمعان في الترادف فيقول : مروة الحسناء ثم يتبعها بالحلوة ، ويقول : يدمرون ويقتلون ، ودلالة الفعلين تقترب ، خاصة أن " بلا روية " تعد زائدة نوعا للقافية ، وهو تركيب شعري من المتداول الشعري القاموسي .
الملمح الرابع : عنونة القصائد : وهي تيمة نراها واضحة في الديوان الأول ، وهي ظاهرة العنوان الملخص ، الذي يقدم الرؤية مسبقا ، وهنا نرى الشاعر يمعن في هذه الظاهرة ، فتأتي العناوين مكررة في مطلع النص بنفس لفظها ، مثل قصيدة : " لا .. لن أحبك" ، فيقول :
لا لن أحبك فاستريحي
يا نسمة الصبح الصبوحِ
يا غادتي الحسناءَ
قد منيتني ، فأذبتِ روحي( 12) .
النص كما هو واضح من عنوانه ومن مطلعه ، مناجاة رومانسية رقيقة ، وقد جاء العنوان مكررا في المطلع مؤكدا على هذه العاطفة المشبوبة ، وهي تقع ضمن دائرة الذاتي الوجداني ، وتتسق مع ما تقدم في الإهداء إلى مليكة القلب. ونفس الأمر يتكرر في قصائد :" لأنك أنتِ " ، " بدر أطلَّ " ، " المفترق " ، ما عدت حتى خائني " ، " لا تعتذر " ، " ضمدت جرحي " . وتتخذ شكلا آخر في قصيدة " غيرة" ، فالعنوان يشي بعاطفة الغيرة ، وقد تم توكيده في المطلع :
تغار عليّ فاتنتي
لأني أذوب صبابةً
في مقلتيها
وأغرق في بحار من أريج
وألتمس النجاة على يديها (13 )
فجاء العنوان ممهدا للوجداني في النص ، وإن اكتسب دلالة جديدة وهي أن الغيرة متجهة إلى الحبيب الممعن في الصبابة ، الغارق في الأريج ، وليست الغيرة بالمعنى التقليدي بأن هناك امرأة أخرى قد تستحوذ عليه . ونرى جمال التصوير في " أغرق في بحار من أريج " فالعاطفة تعطرت بالأريج ، وسبح العاشق في البحار ، وحين خشي الغرق سعى للتعلق بالمحبوبة ، صورة جديدة ، أن يتحول المائي إلى عطري ،والعاشق إلى غريق فيما هو مشموم .
وهذه ظاهرة جزئية ، فقد أجاد الشاعر في عنونة كثير من قصائده ، وإنما أشرنا إليها لأنها تمثل ملمحا أوليا له ، فهناك قصائد ذات عناوين مبدعة إلى حد الإدهاش ، كما في قصيدة :" بكائية على أبواب مدينتي " ، " صباح النجف " ، وهي قصيدة تعالج الوضع في مدينة النجف العراقية ، والعنوان وإن كان واضحا دالا ولكنه موظف بدرجة عالية ، في النص ، ولو افترضنا غيره ، لخسرنا دلالة التحريض التي يبثها النص ، يقول :
صبح بحجم الفجيعة
حجم المعاناة
حجم الجراحات قلب نزفْ
ويمعن في السخرية السوداء بقوله :
على رقص نانسي يموت الكثير
وفي سحر نانسي يموت الضمير (14 ) .
الخطاب الشعري مباشر ، ولكنها المباشرة الموظفة ، الهازئة ، التي تحرض المتلقي بالوعي ، وتدفعه للفعل .
إن العنوان هو عتبة النص الأولى ، وكلما كان رامزا موحيا معطيا بعض الدلالة ، ورحيق الإحالة ، كان ذلك دافعا إلى الولوج في النص ، لاستكمال الرؤية وتعميق الدلالة .
الملمح الخامس : بنيتا الاستفهام والنفي :
وهي بنية تتخذ السؤال الاستفهام وسيلة لإثارة الفكر ، وتتخذ بنية النفي معولا لهدم المستقر في الوعي ، وهي تتسق مع كون الشاعر ساعيا إلى فعل التحريض والوعي ، وتكاد تكونان تيمة أسلوبية مشتركة في كثير من مقاطعه ، يقول :
قالت : أتهجر هكذا يا شاعرُ
وإلى النجوم النائيات تسافرُ
...
أو لا تروقك
هذه الأرض التي دبت خطاك بها
وهام الناظر؟ (15 )
جمع المقطع السابق بين : الاستفهام والنفي ، وهو يتسق مع العزف على وتر الغربة ، ولكنها غربة مكتسية بالهجرة إلى الكوني " النجوم النائيات " ، ومن هنا كان الحوار في النص بين الذات الشاعرة ونفسها ، حوار يعلل الغربة والهجرة ، ويسعى إلى تبرير المكوث في الأرض .
ويقول :
ما عدت حتى خائني
ما عدت تسكن في فؤادي
ما عدتَ نبضة خافقي
كلا
ولا رعش الأيادي ،
ما عدتَ شمسا نورت يومي
ولا أنت اتقادي ( 16)
تكرار النفي بما ولا وكلا ، يعطي دلالة التكرار الأولية المدعمة للنفي ، وتتسق مع جوهر الرؤية النصية ، التي تتوهج برفض العاشقة المتقلبة ، التي أشقت الشاعر بتبدلات عاطفتها .
يمثل هذا الديوان نقلة نوعية في مسيرة جمال مرسي ، وهو جامع ملامح من ديوانه الأول ، والتطورات الجمالية التي أزادها في تجربته .
* * *
ولنقدم مثالا تطبيقيا على إحدى قصائده التي تمثل المرحلة الثالثة في تطوره الإبداعي ، وقد حظيت بالنشر الإلكتروني ، وهي قصيدة " البنفسج يرفض الذبول"( ) فهي تمثل نقلة نوعية على مستوى الرؤيا والتشكيل .
فمن العنوان الذي هو عتبة النص الأولى ، نعلم حجم الدلالة الجديدة ، "البنفسج يرفضُ الذبول " فالبنفسج زهرة تحوي لونا متماوجا ، يشي بالأمل والحياة ، ويأبى الذبول / السقوط / الاستكانة . فالخطاب زهري ، معبأ بالإنساني العالي . كما يقول في المطلع :
للزهورِ التي نَبَتَت في حِياضِ فؤاديَ ،
للنرجسِ الجَبَليِّ ،
لعصفورةٍ صَدَحَت فوقَ أغصانِ عُمريَ
رقَّ لها الفجرُ..
فَانتَصَبَت شمسُ يومٍ جديدٍِ
و هَبَّت نسائمُ هادئةٌ من صعيدِ البلادِ
بعطرٍ فريدٍ .

إننا هنا أمام عالم نباتي ، والنباتي يعادل البشري ، فالشاعر أقام قلعة شعرية أساسها الزهور ، تساوي البشرية ، وبدا واضحة وشيجة العلاقة بين الإنساني والزهري في : فؤادي ، عمري ، ليعلمنا الشاعر أن الخطاب ذو صلة مباشرة بين العالمين ، وليكون اللعب عطريا في الزهور وعالمها الشامل العصافير والفجر . إن توسل الشاعر بالعطري والنباتي يعبر عن الأمل الخفي ، الذي افتقده في عالم البشر ، فراهن عليه في النبات ، وهي حيلة ترجع إلى توغل الطبيعة في أعماق الشاعر ، وأنه يلوذ بها دائما . والمقطع السابق معبر عن هذه الروح .
قال البنفسجُ لا تقتلوني ،
دعوني على شجر البوحِ
إني سئمتُ الأيادي تَخَاطَفُني ،
تخنقُ العطرَ في زحمةِ الأوجهِ الكالحةْ.

هنا نجد مستوى من السردية الشعرية ، بين مقولة البنفسج ، ولتظهر عيانا أنه معبر عن روح الأمل ، الشعب ، المستقبل ، الذي يرغب في الخلاص والحرية (دلالة البوح ) ، والعطر هنا المعادل الشمي للأمل ، مثلما البنفسج معادل بصري للأمل أيضا . .

في شوارعَ داست على حُلُمي ،
لم تدع للقطا فرصةً للهديلِ
تذكَّرتُ ما قال جَدِّي و بَشَّت له جَدَّتي
حينما كنتُ أمتصُّ ثديَ العذوبةِ و الطهرِ
كان يحدثني عن بُطولاتِ أجدادهِ
و رُعونةِ أحفادهِ


مواصلة الحوار السردي والقصة ، وقد انتقلت بخيط خفي أساسه الـتأمل الفكري في عالمنا ، فالحلم مداس ، بينما الجد ( دلالة الماضي التليد وعظمة تاريخنا ) يعاتب الأحفاد ( رعونتهم ) وهم قد أهملوا هذا الماضي الجميل ، وما أجمل الصورة في البيت الأول : حيث نرى الشوارع ( مكان) معبر عن الوطن الذي داس على أحلام الشاعر ، والشعب والمستقبل ، فالشوارع حملت السلطة والناس والإهمال في دلاتها النصية .

فبكيتُ ، و أمي تحاولُ أن تُسكتَ الطفلَ
تخرجهُ من أساهُ
بتعنيفهِ تارةً ، أو بتدليلهِ تارةً .
كَبُرَ الطِّفلُ أصبحَ نيلاً فراتاً ،
يُلازمهُ طيفُ أمٍّ و نُصحُ أبٍ
و طرائفُ أجدادِهِ الـ..كلما زارهم في المقابرِ
يقرأ " ي~سَ " و الفاتحةْ .
و يُزيُّنُ قبرَهُما بالبنفسجِ
ثم يُولّي إلى حيث تأخذهُ خُطواتُ الإباءِ
يقولُ :
سأثبتُ عكسَ الذي ظنَّ أجداديَ البارحةْ .
يَكبُرُ الحُلمُ
يَغدو كما رَوضَةٍ و البنفسجُ فارسُهَا
و هْو يصنعُ من حُلمِهِ مشمشاً
و سفرجلةً .

المقطع السابق شديد الروعة ، ويكمل الرؤية المهمومة بالمستقبل ، فما أكثر التباكي على هذا الحاضر ، وما أقل التبشير بالمستقبل ، وقد أجاد الشاعر بتناص عالي مع القرآن إلى أساس النهضة حيث الإسلام والأصالة ، مع التسلح بالعلم . وتأتي لفظة مشمشة معبرة عن الثمرة المرتجاة في دلالة جديدة للمشمش ، تعاضد دلالة البنفسج / الأمل ، وهي الثمرة المتوقعة ( المشمش (
نص رائع وقفزة كبرى في الجمال ، مع تأكيد على وضوح الرؤية ، وهذا أضعه على قمة نتاج شاعرنا ، لرهافة النص وروعته ، وجدة أسلوبه .
* * *
إن جمال مرسي ظاهرة إبداعية وثقافية وحركية ، من المهم التوقف عندها بالدرس فهو يمثل التقاء لتجارب شعرية عدة ، جمعت أشكالا شعرية مختلفة الاتجاهات والرؤى والجماليات ، مزجت الهم الذاتي بالهم العام ، وسعى الشاعر إلى تطوير جمالياته عبر مواصلة الإبداع ، الذي يبدو متجددا مضيفا في كل مرحلة إبداعية .

الهوامش :
1 ) ديوان غربة ، صادر عن مطبعة هشام في مدينة كفر الشيخ ، في العام 2001 م ، والشاعر من مواليد كفر الشيخ في العام 1957م .
2 ) ديوان غربة ، ص45 ، 46 .
3 ) السابق ، ص7 .
4 ) شرفة القمر ، مجموعة من الشعراء العرب ، صادر عن سلسلة كتاب المرسم ، دار إيزيس للإبداع والثقافة ، 2005 .
5 ) شرفة القمر ، ص41 .
6 ) أصداف البحر ولآلئ الروح ، صادر عن سلسلة كتاب المرسم ، دار إيزيس للإبداع والثقافة ، 2005 .
7 ) السابق ، قصيدة هو الشعر ، الصفحات : 6 ، 7 ، 9 .
8 ) ص18 .
9 ) ص 22.
10 ) قصيدة مروة ، ص113 ، 114 .
11 ) ص38 .
12 ) ص59 .
13 ) ص105 ، 107 .
14 ) ص42 ، 43 .
15 ) ص86 ، ص87 .
16 ) نشرت في منتدى : " ملتقى الأدباء والمبدعين العرب " ، www.moltaqaa.com .