طب النانو.. وجوو الرمادي!!

27/11/2001
طارق قابيل


خلية دم بيضاء تهاجم البكتريا

تعد التطبيقات الطبية لتكنولوجيا المنمنات من أهم التطبيقات الواعدة على الإطلاق؛ فقد يتم علاج الإنسان مستقبلا من خلال التحكم في خلايا جسده، أو عن طريق إدخال آلات دقيقة داخل الخلايا لعلاجها؛ حيث ستتمكن تلك الآلات المجهرية من أن ترمم الأجسام المعتلة من الداخل، وستقوم أجهزة دقيقة مزروعة في الجسم بتشخيص المرض ومكافحته، وإجراء بعض التحسينات على الآلية الجزيئية التي تدير الخلايا وتتحكم في عملها.
وأول استخدام طبي للتقنية النانوية يثبت جدارته حاليا في التجارب، بعد أن نجحت "تيجال ديساي" من جامعة "إلينوي" الأمريكية في تطوير جهاز مهندس بالتقنية النانوية يزرع في الجسم، بحيث يغني الأشخاص المصابين بالسكري عن استخدام حقن الأنسولين، وقد مضت عدة أسابيع على الفئران المصابة بالسكري ولديها هذا الجهاز مزروعا في أجسادها من دون أن تحتاج إلى حقن الأنسولين، أو تبدي أي مظاهر تدل على رفض الجهاز المزروع.
وتَعد تطورات كهذه بتغيير طريقة تناولنا للدواء، وتوشك الأجهزة الذكية التي تزرع في الجسم لإعطاء الأدوية بدقة لدى الحاجة إليها، أن تنزل إلى الأسواق، وفي الطريق حاليا أجهزة إلكترونية تأمر الخلايا بإفراز هرمونات محدودة عندما يحتاجها جسم الإنسان، ومولدات للكهرباء ومحركات تجمع نفسها داخل الخلية، وتستغل مصادر الطاقة الخاصة بالخلية لاستعمالها.
ولكن هناك بعض المخاوف التي تتعلق بهذه التقنية الجديدة؛ حيث إنها مثل عبارة "ذري" في الخمسينيات تبدو مشحونة بوعود وتخوفات تكاد تكون خيالية. كما أنها ما زالت مثقلة بسوء الفهم، وما زال بعض العلماء ينظرون بعين الشك لهذه المستجدات العلمية الحديثة التي قد يسخرها الإنسان للشر، وتكون أداة لهلاكه بدلا من سعادته. وسوف نعرض في هذا المقال لأهمية هذه التقنية ومستجداتها في المجال الطبي، كما سنحاول إلقاء الضوء على بعض من هذه المخاوف.
محرك جزيئي حيوي

محرك جزيئي حيوي

يعكف علماء جامعة "كورنيل" على تصنيع آلات يمكنهم إيلاجها إلى داخل الخلايا، ويطمح العلماء إلى جعلها تقوم بصنع العقاقير وتوليد الكهرباء. ويقود هؤلاء العلماء العالم "كارلو مونتيماجنو" الذي قام ببناء محرك جزيئي حيوي فاعل يبلغ حجمه أقل من خُمس حجم خلية دم حمراء. ويتكون هذا المحرك من بروتين من البكتيريا المعروفة باسم "إشريشيا كولاي"E. Coli موصول بمحور دوران من النيكل وداسر بعرض بضعة نانوميترات. أما طاقته، فتأتي من الوقود البيولوجي "إيه تي بي" الموجود في كل خلية حية، وهذا المحرك ما هو إلا خطوة واحدة على طريق تحقيق رؤية طموحة طويلة الأجل، ويسعى العلماء لتصميم محرك بيولوجي دقيق للغاية، يستطيع تجميع نفسه داخل خلية حية معينة. ويقول "مونتيماجنو" في هذا الصدد: "نريد أن نحصل على اندماج تام بين الآلات والأجهزة الحية".
ولعل الأمر سيصبح ممكنا من خلال مجموعة واسعة من التحسينات على الآلية الجزيئية التي تعمل بها هذه المحركات، وفقا لتصورات مجموعة متزايدة من مهندسي التقنية النانوية الذين يعملون على تصميم الآلات الدقيقة للوصول لذلك الحلم.
ثور متناهي الصغر بحجم خلية دم
حقق العلماء اليابانيون نجاحا مهما في عالم التقنية النانوية؛ إذ تمكنوا بعد أربع سنوات من البحث من نحت "ثور" يمكن اعتباره أصغر منحوتة في العالم؛ بحيث يمكن وضع 30 من أقرانه في حيز لا يزيد قطره عن قطر النقطة. وقد صنع هذا الثور، وهو نموذج – تجريبي- مجسم يمتد بالأبعاد الثلاثة، بارتفاع يبلغ 7 أجزاء من ألف من المليمتر (7 ميكرونات)، ويمتد طولـه إلى 10 أجزاء من الألف من المليمتر (10 ميكرونات)، واستخدم علماء جامعة "أوساكا" الذين نحتوا الثور الصغير شعاعي ليزر؛ للتلاعب بجزيئة منفردة في قطرة من الصمغ، بحيث تم تجميد كمية دقيقة جدا من الصمغ ملاصقة لنقطة تركيز الأشعة. ونشرت نتائج أبحاث العلماء هذه في مجلة الطبيعة "نيتشر" العلمية. وقال الطبيب "هونج- بو صن" عضو الفريق: "يمكننا أن نصنع أي شكل نريد، باستخدام هذه التقنية يمكن إنتاج جسم متناهي الصغر". وأضاف "أن الهدف هو إنتاج عربة متناهية الصغر لنقل الأدوية إلى خلايا محددة لاستخدامها في الجراحة الخليوية أو إصلاح خلايا الدم".
الجزيئات المشجرة
أما الشيء الأكثر تعقيدا الناجم عن هذه التكنولوجيا فهو الجزيئات المشجرة أو ما يسمى بـ "دندرايمرز"، والتي جرى تصميمها على يد "جيمس بيكر"، مدير مركز التقنية النانوية البيولوجية في جامعة "ميتشيجان"، وهذه عبارة عن جزيئات كروية، تم تشكيلها بعناء طبقة تلو الأخرى من جزء مركزي. وتعمل هذه الجزيئات كأدوات متعددة الأغراض للتعامل مع الإصابة والتلف اللذين يحدثان داخل الجسم نتيجة للإصابة بأمراض قاتلة كالسرطان مثلا، ويمكنها أن تُعلم النسيج المريض بصبغة معززة للصورة، وتعطي الخلية المؤذية جرعة قاتلة من عقار معين.
ويمكن للأطباء بعد ذلك أن يتأكدوا من نجاح هذه العملية عن طريق استخدام "دندرايمز" يصبح "فلورسنتيا" في غياب الأنزيمات التي تطلقها خلية مصابة إصابة قاتلة. وبتسليط ضوء ليزري ذي أشعة فوق بنفسجية على المنطقة المصابة وتسجيل الضوء المنبعث ينكشف مدى نجاح العلاج.
قنابل نانوية لتفجير الخلايا السرطانية
طور علماء من مركز السرطان "ميموريان-كيتيرنج" الأمريكي قنابل مجهرية ذكية تخترق الخلايا السرطانية، وتفجرها من الداخل. استخدم العلماء بقيادة "ديفيد شينبيرج" التقنية النانوية في إنتاج القنابل المنمنمة، ومن ثَم استخدامها في قتل الخلايا السرطانية في فئران المختبر.
وعمل العلماء على تحرير ذرات مشعة من مادة "أكتينيوم-225" ترتبط بنوع من الأجسام المضادة من "قفص جزيئي"، ونجحت هذه الذرات في اختراق الخلايا السرطانية ومن ثم في قتلها. وأكد "شينبيرج" أن فريق العلماء توصل إلى طريقة فعالة لربط الذرات بالأجسام المضادة ومن ثَم إطلاقها ضد الخلايا السرطانية. واستطاعت الفئران المصابة بالسرطان أن تعيش 300 يوم بعد هذا العلاج، في حين لم تعِش الفئران التي لم تتلقَّ العلاج أكثر من 43 يوما.
وتوجد في كل "قنبلة" خلية ذات عناصر إشعاعية قادرة على إطلاق ثلاث جزيئات عند اضمحلالها. وكل جزيئة من هذه الجزيئات تطلق ذرة "ألفا" ذات الطاقة العالية؛ لذلك فإن وجودها داخل الخلية السرطانية يقلص من احتمال قيام ذرات ألفا بقتل الخلايا السليمة. وتم تجريب الطريقة على خلايا مستنبَتة مختبريا من مختلف الأنواع السرطانية التي تصيب الإنسان، مثل الأورام السرطانية في الثدي والبروستاتة وسرطان الدم. وستجرَّب الطريقة أولا في مكافحة سرطان الدم بعد أن تأكد العلماء أن التجارب على الفئران سارت دون ظهور أعراض جانبية.
الجراحة الروبوتية والمحولات المرئية
قامت شركة "كورفس" بصناعة محولات مرئية شاملة، لكنها حافظت على التكنولوجيا التي تستعملها في سرية تامة، ويُتوقَّع أن تكون هذه التكنولوجيا عبارة عن آلات مجهرية مزودة بالعدسات والمرايا المتناهية في الصغر. وحسب فريق "كهنر إنستات" لأبحاث التسويق فإن سوق المحولات التي تعتمد على التكنولوجيا الدقيقة سوف تتخطى المليار دولار بحلول سنة 2004. وهذا سيعزز بدوره ما يُسمى بالأنظمة الكهروعلاجية للسكتة الدماغية باستخدام الخلايا، وسيكون هذا أول عمل حقيقي للتقنية النانوية يفتح طريقا للإنتاج التجاري.
كما أنه من المرجح أن تبدو الآلات المصنوعة على المقياس النانوي -باستخدام أجزاء بحجم الجزيئات الصغيرة- بمظهر مختلف تماما عن الأجهزة المألوفة لدينا، ويقول "مورو فيراري"، مدير الهندسة الطبية البيولوجية في جامعة أوهايو ستيت-: لن تكون هذه الآلات نسخًا مصغرة لما نصنعه في عالم الأمور الصغيرة؛ فلن نرى رافعات وملاقط صغيرة وصمامات، وسيكون هناك أفكار متشابهة، ولكن فيزياء مختلفة تماما؛ لأن الميكانيكا لا تعمل بنفس الطريقة عند ذلك المقياس، ومهما يكن الشيء الذي سينتهي به الحال إلى التجوال في جسم الإنسان، فلن يكون شيئا شبيها بالغواصة المصغرة في الفيلم السينمائي "رحلة رائعة".
ولا شك في أن الآلات بدأت تتسلل إلى أدق مظاهر الحياة البيولوجية، وأن الأمور تسير بوتيرة سريعة على نحو لا يُصدَّق في الوقت الراهن، وأن أساليب الجراحة الروبوتية الدقيقة قد باتت في حكم المعقول، وفي ظل وتيرة تطور الأمور الحالية يمكن الانتقال من الخيال إلى الواقع في غضون عشر سنوات من الآن.
مخاوف من جوو الرمادي!!

الهليكوبتر المجهرية

مما لا شك فيه أن منتجات هذه التقنية الساحرة التي تطرقنا لبعضها في هذا المقال والمقالات السابقة تقارب الخيال، وترتبط هذه التقنية بأفلام الخيال العلمي مثل فيلم "الرحلة الرائعة" عام 1965م الحائز على جائزة أوسكار، والذي صور رحلة داخل جسم الإنسان يقوم بها بعض العلماء المتخصصين في أفرع الطب المختلفة، على متن غواصة ميكروسكوبية، بهدف إذابة إحدى الجلطات داخل جسم أحد المرضى، وفي فيلم "الفضاء الداخلي" للمخرج الأمريكي الشهير "إستيفن سبيلبرج" في الثمانينيات؛ حيث يتم تصغير أحد العلماء وحقنه في مركبة ميكروسكوبية للقيام بجولة داخل جسم الإنسان.
لم تظهر التطورات الفعلية في هذه التقنية الواعدة إلا في السنتين الأخيرتين؛ حيث مكنت بعض الاكتشافات الجادة من إظهار النظرات الخاطفة على منتجات واحتمالات حقيقية. وهذا ما ساعد على تقوية صورتها، ودفع الاستثمارات لمختبرات التكنولوجيا الدقيقة في الجامعات، مثل "رايس" و"كورنال".
وجاءت هذه التقارير المتسارعة بالإجابة العلمية على العديد من التساؤلات المحيرة لتبدد المخاوف من هذه التقنية، بعد أن وصمها "بيل جوي" المؤسس المشاركِ لشركة "سان ميكرو سيستمز" بأنها تقنية مبيدة عديدة المخاطر، ولقد حذر "بيل" من هذا التقدم التقني الذي سيؤدي إلى ظهور "جوو الرمادي" إذا لم يتم إيقاف الأبحاث العلمية في هذا المجال.
فمن هو "جوو الرمادي"؟
الإجابة تتلخص في الآتي: يُعد "جوو الرمادي" مخلوقًا خرافيا اصطناعيا، تحدث عنه "إيريك دريكسلير" في كتابه المنشور عام 1986م عن المحركات المتناهية الصغر، وتخيل "دريكسلير" أن هذا "الجوو" عبارة عن آلة متقدمة تكنولوجيا، دقيقة الحجم تستطيع استنساخ نفسها كما تفعل الكائنات الحية الدقيقة، كما تصور أن هذه الآلات ستتحول إلى جحافل من التجمعات الآلية الصغيرة تقتلع أي شيء في طريقها وتبيد كل أشكال الحياة على وجه الأرض.
ويُجمع كل العلماء الذين يشتغلون بالتقنية النانوية تقريبا على أن أكثر تخوفات جوي مبالغ فيها، لكن الآمال الكبيرة المعلقة عليها يمكن أن تشوبها المبالغة أيضا؛ ولهذا بدأ المستثمرون في وادي السيليكون يبحثون عن آفاق جديدة لاستعمال النانوتكنولوجيا.