قصة من المجموعة:
.................

صورة عمتي

بقلم: حسني سيد لبيب
......................

كلما زرت عمتي، شدني البذخ الذي تعيش فيه، قياسا إلى المعيشة المتواضعة التي يحياها أبي. اضطره دخله الضئيل إلى حياة الشظف والتقشف. كلما اشتد ضيقي وتبرمي أهرع إليها فآكل أكلة هنيئة، طبق المرق الساخن، وسَلَطة الخضار، واللحم المشوي، والفاكهة. لا تنسى أن تنفحني مبلغا "محترما" أستطيع تدبر شئوني به، حتى تحين زيارتي التالية، بعد أسبوع أو أكثر. كلما نفد ما معي من نقود، أهرع إليها..
يعجبني وفاءها لأبيها وأخيها، اللذين توفيا في سنوات خلت. لا أعرف متى بالتحديد. يتمثل الوفاء في وضع صورة لجدي على الجدار داخل إطار مذهب، وثانية في إطار مماثل لعمي، رحمهما الله. لم يهتم والدي بوضع مثل هذه الصور في بيتنا المتواضع، ربما لا يملك ما يدفعه ثمنا للإطار المذهب.
عشت سني الشباب مترددا على عمتي، واعتمدت عليها فيما لا يستطيع والدي توفيره لي. أحببت بنت عمتي، إلا أنه حب في السر لم أكاشف به أسرتي، التي لا تبارك مثل هذه الزيجة، ولا أملك البوح بمشاعري لبنت عمتي، لفقري وغناها! عانيت الإحباط من الفارق الاجتماعي الذي يقف حائلا بيني وبينها. تراود مخيلتي أفكار ضبابية عن اقتراني بها، مالكا لثروتها. أصبحت حالي تصعب على الكافر، أفكر فيها وأتجاهلها، وأضع بيني وبينها حاجزا وهميا.
كنت قريبا من عمتي.. التي تحكي لي مشاكلها، وكيف تتصرف في تربية الأولاد. هذا القرب شجعني على زيارتها في فترات متقاربة، وألبي طلباتها، وأشتري لها كل ما تحتاجه. إلا أني أواجه متاعب في الاقتراب من ابنة عمتي "الدلوعة"، وأصطدم بالفارق الطبقي بيننا.. كلما اقتربت منها، أحسست بنار تلسعني..
أنهيتُ دراستي الجامعية، والتحقت بعمل.. شغلت بالأعباء الجديدة، فما عدت أزور عمتي إلا كل شهر أو شهرين.. خطبت "الدلوعة" لشاب غريب عن العائلة، فقررت تمزيق صورة "الدلوعة" التي تعيش في خيالي..
شغلتني الحياة.. العمل ومواعيده الصارمة، ومشروع الزواج الذي تخايلني صورته من حين لآخر، إلى أن وفقني الله وعقدت قراني على زميلتي في العمل.. ما عدت أزور عمتي إلا كل عام، مرة أو مرتين. توفي زوجها، فزادت أعباؤها في تربية البنات الخمس والابن الوحيد. من سنة لأخرى تأتيني دعوتها لحضور عقد قران إحدى بناتها.. انشغل أبي أيضا بتزويج أخواتي ـ خمس بنات أيضا ـ ولكن شتان الفرق بين الأفراح التي نقيمها لأخواتي، وتلك التي تقام لبنات عمتي..
أدبر شئون زواجي بنفسي، وأساعد والدي بمساهمات قليلة. وبعد الزواج، زادت الأعباء. لم يعد أبي في حاجة لمساعدتي، فقد زوّج كل البنات، ويتقاضى معاشا يكفيه هو وأمي.. كان أبي يحتاج إلى من يسأل عنه ويزوره. يفرح لزيارتي. في جعبته حكايات كثيرة عما يصادفه في معيشته، وعن أحوال أخواتي في بيوت أزواجهن. بدأ وضعنا الاجتماعي يتحسن تدريجيا.. أما عمتي، فقد قل دخلها بعد وفاة زوجها التاجر الكبير. لم يحرص ابنها الوحيد على مواصلة أعمال التجارة الواسعة التي تركها أبوه.
كلما زرتها، أرنو إلى صورة جدي وعمي، رحمهما الله. وفاء العمة للراحليْن من أرق ما عرفت. لم يتزحزح البروازان عن مكانهما في الصالة الواسعة. تتوسطهما آيات من سورة يس. كلما رنوت إليهما، أتطهر من آفات كثيرة، وأكبر صورة عمتي في فؤادي. يا لها من سيدة عظيمة. تحاول أن تسأل عن والدي وصحته وأحواله. دائما تزور مقابر العائلة، تتصدق وتتلو القرآن، وتنفح اللحاد ما تجود به من مال وفطائر وفاكهة وبلح.. وحين قلت مواردها ظلت تدخر مبلغا للصدقة ومقررات الزيارة. وإن اقتطعت من قوت يومها. شجعتني على زيارة المقابر معها. أما أولادها فلم يطاوعها أحد في تلك الزيارات. في عنقي دين كبير لعمتي، أسدده بلمسة وفاء تسعدها. ولا مانع من تخفيف العبء المالي لهذه الزيارات عن كاهلها. لكنها ما زالت تعطي وتتصدق من حر مالها، وإن حرمت نفسها من طعام وعلاج.
إني أكبر عمتي إكبارا لا يعادله شئ في الدنيا. أنا أعلم بحالها ومروءتها. نلت في الصغر الكثير من برها وعطفها، في وقت كنت في أمس الحاجة إلى من يمد لي يد العون.
زيجة آخر بناتها كلفتها الكثير، إن لم يكن كل ما ادخرته في الزمان الخئون. اتفق عريس ابنتها على السكن معها في الشقة الكبيرة. صرفت المال الكثير من لحم الحي ـ كما تقول ـ لتؤثث البيت الجديد. لم يدفع العريس إلا القليل. انزوت في حجرة صغيرة من الحجرات الخمس الواسعة، راضية بما قسم الله لها. ولما دهس زوج ابنتها الشقة، حرصت أن ترفع البروازين وتضعهما في حجرتها الصغيرة. حزنت لحالها.. النظرة الكابية لعينيها تعكس عمق القهر الذي أحسته، رغم أنها تقيم في بيتها، إلا أن إحساسا تولد لديها بأن البيت انتزع منها، وعاشت فيه كالغريبة. ليست صاحبة بيت كما تعودت، انتزع منها الملْك والعالَم والذكريات الجميلة. لا يُطلب رأيها في شئ. تعمل على توفير الراحة للسكان الجدد. مالت ابنتها إلى زوجها، تعطيه حقا لا يملكه، ربما من قبيل الإبقاء عليه. في بداية الوضع الجديد، كانت الصالة قاسما مشتركا لهم.. إلا أن زوج ابنتها لا يحلو له مقام إلا في الصالة.. ليل نهار.. فأحست عمتي بالحرج حين تخرج من غرفتها لتعبر الصالة إلى المطبخ أو الحمام، فحرصت على تقليل نوبات خروجها. تتنهد وهي تبوح لي بأنها تتنصت على هذا الغريب ـ المسمى زوج ابنتها ـ حتى تعرف متى يترك الصالة لشأن من شئونه، فتهرع تعبرها إلى المطبخ أو الحمام، وتقضي حاجتها وتنهي شئونها في عجالة.. كثيرا ما تقع في المحظور، حين تعود فتجده اضطجع من جديد على كنبة الأنتريه، يشاهد التلفاز.. فتلقي عليه التحية وهي مرتبكة، وتدخل غرفتها! كم تتعذب، في وقت هي في حاجة إلى الراحة. لو بيدي الأمر لصنعت لها تمثالا.. لو بيدي، لطوقت عنقها وجيدها بوسام عظيم..
مضت أيام العز.. مضت تلك الأيام الهنيئة التي كانت تنفق فيها عن سعة، وتغدق العطاء لكل من يقصد بابها من الفقراء والمحتاجين. ما قصدها امرئ وردته خائبا..
اليوم، تدهور حالها والكل لاه عنها. انفض السامر من حولها، وانطوت في غرفة ضيقة، لا يسأل عنها أحد، حتى أبناءها وزوج ابنتها الذي احتل الشقة الفخمة. اعتبر سكنها في الغرفة تفضلا وتكرما منه! ابنتها لا تلوم زوجها ولا تلطف من العنت الذي تشعر به أمها، خوفا من بطشه وسلاطة لسانه.
في أيامها الأخيرة، صارحتني بأنها ادخرت مبلغا من المال لدي ابنها، في إشارة منها إلى أنها ستموت مستورة ولن تكلف أحدا قرشا واحدا! وأعطتني وثائق ومستندات تخص العائلة، أوصتني ـ بعد موت أبي ـ أن أحتفظ بها.. شهادات ميلاد ووفاة، قسائم زواج وطلاق، قوائم أثاث تخص بناتها، وأخريات من العائلة لا أعرفهن جيدا.. وصور تذكارية لناس أعرفهم وآخرين لا أعرفهم. اقتربت من عمتي أكثر. تعمدت أن أذهب إليها، وأطيل الجلوس.. كانت تفرح بي كثيرا. متعتها الوحيدة أن تحكي لي حكايات عن أحوال عائلتنا التي تشتت شملها، وجهودها كي تلم الشمل وتوصل ما انقطع.
وفي إحدى الزيارات، رفعت البروازين من مكانهما، وأعطتني إياهما، وأوصتني أن أضعهما في شقتي.. برواز لصورة جدي، وآخر لصورة عمي، رحمهما الله..
وكانت آخر زيارة لي، إذ ماتت بعدها بأيام قلائل. كأنها أحست بدنو الأجل. ذرفت عيناي دموعا حارة، تأثرا لحالها وإجلالا لشموخها. بذلت جهدا غير عادي مع ابن عمتي، حتى تشييعها إلى مثواها الأخير، وتقبل العزاء. إلا أن زوج صغرى بنات عمتي، فال لأخيها على مسمع مني، ونحن عائدين من المقابر:
ـ اجمع عفش وكراكيب أمك عندك.. حتى أدهن الغرفة وأستعملها..
قالت زوجته:
ـ أصل الشقة ضيقة علينا..
عملا بوصيتها، علقت البروازين في شقتي. نظر ولدي إليهما وهو يرنو إليهما. كان يضع اللمسات لشقته التي سيتزوج فيها بعد مرور أربعين يوما على وفاتها، طبقا للتقاليد.. قبل الموعد المحدد بأسبوع، ذهبت معه لأرى ما ينقص الشقة. أبديت بعض الملاحظات في أماكن وضع الأثاث، وما ينقصه من أدوات وأجهزة. طلبت منه الحرص على تركيب كالون متين للباب الخارجي. لفت نظري في الصالة حيث ثبّت على الجدار بروازين مذهبين، أحدهما لصورتي، والثاني لصورة جده، يتوسطهما برواز لآيات من سورة يس. بالله عليك يا ولدي.. كيف حصلت على هذه الصورة النادرة مكبَّرة ؟ نفدت هذه الصور من عندي. ابتسم ابني الذي فهمت منه أنه عرف اسم محل التصوير، المطبوع خلف الصورة.. وكانت مفاجأة أسعدتني. ربتّ على ظهره، شاكرا صنيعه. قلت وأنا أوسع ذراعي لأضمه إلى صدري:
ـ الله يرحم عمتك..
كان البروازان في مكانهما الصحيح..