سكّان الضباب
قصة – رضا السمين
وقت العتمة، كنت نائما ورأسي تحت المخدّة فهزّني أحدهم وهو يسأل ويلهث متى؟ كيف؟ ماذا وقع؟ فتح التلفاز وبقينا مشدودين. خرجوا من تحت الأرض. أو ظهروا من وراء العمى.
لم يعد أحد يتكلّم العربية من زمان وهؤلاء لغتهم الغريبة تشبه الفصحى أو لهجة سكان ماء القاع.
حاصروا المدينة أو خرجوا من قاعها أو من تحت أحيائها وفتحوا المغاليق، عيونهم حديد، صدورهم شدّة، وأسلحتهم خفيفة قاتلة، أخذوا الولاية بقوّة.
لم يفهم أحد الأمر. مجانين أم أشباح؟ أرواح هائمة أم أحفاد س.. نزلوا من غبار المعارك؟ كم عددهم؟ في أوّل هجوم قتلوا ثلاثين شرطيا وأربعة عساكر، الجثث ملقاة على شاشة التلفاز. قال راكب في الحافلة أنّ الشرطة ليست بشر. 99 فاصل يكذّب هذا الكلام، والخابزة تكشف أنّ قارئ الكفّ زائدة دودية. مثل سكّان المدينة، أفهم ولا أفشي. جاء وقت الشائعة والهمز، ومن ينتصر سيقول القول الفصل. ويشهد الناس أنّهم كانوا معه قبل انتصاره. سيرمون رائحة المهزوم بحجارة الحلف ويسبّون أصله. ولكن الآن، الفرجة حياد لا إثم ولا عقاب. إذاعة الأبواب الثلاثة، قالت أنّ الجرحى استعدّوا لهذه الأيام منذ عشر سنوات.. وأكّد ذلك العطار القريب من زنقة بوج. التاريخ يظهر من جديد وهذه المرّة بوجه الدّم القاني. القنوات لا تعرف، بعد خمسة أيام من القتال، كيف تفسّر رغم الطاعة. الحمد لله لا نشكو في المدينة من قلّة الهمس ولا من حجب إذاعة قالوا.. والمصدر الموثوق، بعد الخبز والبصر، نعمة يحسدنا عليها أرباب الحكومة. اللّهم لا شماتة.
وجدتُ على حافة الطريق بقية جريدة يومية، دفعت للوقت بعض الفراغ، ووقفت أقرأ شطرا ممزّقا "...ولكنّها لن تأتي. فهي كسيحة ككلّ طبقات هذا العالم غير قادرة على الحراك". "وزارة الداخلية أقرّت، بعد الخلاف الذي حصل في وزارة التعليم، أنّ موضوع الفلسفة لامتحان الباكلوريا هذه السنة: دخلتَ ما خرجتَ، صِفْ ما رأيتَ. يوافق مستوى البرامج" "النازلة هيفاء تشتري دموعا من الشمع، وتخيّر خطيبها بين حليب النفط أو... بشرط توقيع مَن يهمّه الأمر" "الحفلات الجماعية تدعّم الإنتاجية، وا... يدخلن دون دفع المعلوم" "فريق الكرة كرة كوره كوركورة". طردني متسوّل من مكاني وطارت بقايا الأخبار.
استنفرت الدولة عشرة آلاف جندي منذ الأيّام الأولى للقتال وتواصل عدد المروحيات في ارتفاع وحمّالة الصّدر والمصفّحات والطّائرات وكلّ المشتريات. قُصفت أحياء وقرى، قُتل أطفال وفقراء، اهتزّت الصور على الشاشة وأعلن العسكر انتصاره. عرفنا من اللهجة أنّ المعارك مستمرّة.
قوى اليمين، واليسار طبعا، وأصحاب الاعتدال، أجمعوا في وطنية مشهودة على صواب مطالبهم القديمة سدّا للذرائع والمغامرة وأشياء أخرى لم نفهمها. عطست الحكومة وأعلنت الحداد لليالي. أعلن رئيس أجنبي "أنّ الجميع..."، لم يتوقّف الهاتف عن الرّنين، الجداري والمحمول، فضاع كلام الأجانب.
قال لي صديق، عالِم أحياء يعرف قيعان المدينة، مثالنا مثل الخليّة في صندوق، لنفترض أنّ لها 20 دقيقة مثلا لتنقسم على نفسها: من منتصف النهار إلى منتصف الليل تكون انقسمت على نفسها 68 مليار مرة، في العاشرة ليلاً تكون الخلايا قد انتشرت على 1,5% من المساحة، ولكن في الساعة 23:40 على نصف المساحة!! لنفترض أن "خليّة" ذكيّة وناشطة اكتشفت اقتراب خطر الاختناق وضيق المكان فقامت بتجنيد قوى كثيرة، وبدأت على الساعة 23:20 بالبحث عن علب أخرى واستطاعت أن تجد ثلاث علب جديدة وهي نسبة تبدو لا بأس بها إذ تضاعف المساحة الموجودة أربع مرات.. وبالرغم من ذلك لم تربح الخلايا إلاّ 40 دقيقة!! إذ على الساعة 00:40 تختنق الحياة في المستعمرة. نصف ليلنا قد اقترب...
واصلت الطائرات القصف. أشدّ المعارك ضراوة وقعت قرب أكواخ بيطاري . خطابات كالعادة عن الظلام والحداثة، ومداهمات وتعذيب وأمن. ننام ونصحو مع الأرواح الهائمة والعقول الهاربة والصرخات المعلومة والأجساد المكومة. قرأ أحد قادة الملثّمين بيانا بلهجة مدنية متعلّمة، ظهر فيه أنّ "ما فعله الاستعمار الجديد ودولة الفساد والمسخ هو جعل بلادنا.. معاقة معالة تعيش على المعونات.. واستيراد القمح والأدوية وكلّ شيء.. وتدمير القوى الإنتاجية هي عملية مخططة ومموَّلة حتى يدوم تطويعنا واستعبادنا: هذا هو التدمير. تحويلنا وكأننا شعب من العجزة الموظفين.. والمعوّقين غير القادرين على العمل والكسب.. وتحويل دولة-المسخ من "فساد الإدارة" إلى إدارة الفساد! الواقع اليوم يحتكم إلى عناصر القوة والحرب.. لا إلى الأدبيات والتمنّي، فلا بدّ من "إرادة حديد". تكتّل أفراد وقيام حركة، والله غالب على أمره. الحكم اﻹسلامي = القرآن وما صحّ من السنّة + السّلاح بأيدي النّاس + الدّفاع العملي عن الحقوق الخمس (حقّ النّفس، حقّ الدّين، حقّ العقل، حقّ العرض وحقّ المِلك) + إقامة العدل والشّورى + إعادة بناء قيم الحقّ والخير والجمال ضدّا على الظّلم والشّرّ والقبح. وتحقيق المؤاخاة.. والتّعارف. التـشهّد بـ" لا إله إلاّ الله " معناه صراع النّاس مع آلهة العصر وما يكبّل حرّيات المجتمع الأهلي، وإثباتٌ على بصيرة لعبادة اللّه سبحانه وتعالى والعمل بالقرآن، تحقيق الإيمان والتّوحيد الفردي والجماعي ضدّ الظّلم –أُسوة بالأنبياء– وضدّ الشرّ والاكتناز والعنصريّة والطّبقيّة والقهر... نُصرة لدين الله ولرسالة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم وحماية لمصالح النّاس العليا. حكم اﻹسلام هو أنّ للنّاس حقوقا... هي الحدّ اﻷدنى الّتي يكون بها الإنسان إنسانا { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى. وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } (طه 118-119) فالحياة الكريمة حسب القرآن لها دعامتان هما اﻹطعام من جوع، واﻷمن من خوف... { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا البَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِن خَوْف} (قريش 3-4) وحين يُستكبَر على الحقّ ويتقاعس النّاس عن الجهاد.. يصيبهم العكس ويذيقهم الله : {... لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (النحل 112)."
شيئا مختلفا، جديدا، يحمله هذا القتال. الجميع أحسّ بذلك، إلاّ "قناة استحمل" قالت هذه الحرب لقيطة بنت حرام. ملوك روما طلبوا نسخة من النظرية الخلدونية وسألوا آخر الأقمار عن الفرق بين مدينة الصحراء ومدينة الوسط والمدينة المفتوحة. يدورون حول مخازن الحبوب لنهبها. الدوّارين...!! أرسلوا أيضا سفنا مقاتلة وحاملة طائرات ومستعربين ومتبربرين وحسابا جاريا من قنابل شديدة التدمير خفيفة الظلّ وعتادا لرؤية الليل والحرمات، ودخانا كثيفا. قالت راقصة مشهورة إذا مدّ الإنسان العون لغلامه انتصر الإنسان. فهمنا.
قال جاري يا بشر... إنّ ظهر الحمار قصير. ثمّ بكى على متاحف بغداد ومكتباتها الجامعية وذاكرة القدس وصغار قانا2، وكره أن يقع هنا ما حصل هناك. وزّعت علينا زوجته البصل دفعا للأقاويل وسوء الظنّ.
يخرجون من الضباب، مثل بلاد الحروب الصغيرة، هل هم مجانين أم أشباح؟ قيل أنهم كانوا يتدرّبون في مجاري المدينة وأحراشها، شاهد واحد منهم أخته تموت بوباء منقرض، وأخرى تُغتصب على أيدي الميليشيا، وآخر سُجن لأنه طلب دفتر رعاية صحّية لأولاده، وآخر شاهد أبناء جاره يموتون بمرض بسيط وبالصرف الصحّي، وآخر مات أبوه كمدا وحسرة بعد سلب النهّابة لأرضه، وآخرون رفضوا العدوان على الإسلام باسم نحوم ونوحن وحربهما على الإرهاب، وناسٌ أفسدَ السماسرة، ماركة أمريكاني، بيئتهم وقلعوا أشجارهم وباعوا بلادهم لشركات وشركات... من جديد صدحت الإشاعة ورنّ الهاتف في كلّ البيوت. تململ المجتمع الأهلي فدعت الحكومة على عجل خبراء الحرب-المضادّة فوزّعت هنا وهناك أسمدة وشو..كلاطة وبرامج تأهيل وقروضا صغيرة وخرفانا ومخابرات فلاحيت وعسكر "اقتل وابتسم، ... ماركة انجليزي" لحماية الأمن والاستثمار.
زهق المنبّه!! فقمت من تحت الوسادة.