بين
قدسية الفكرة
وهبوط الأسلوب

وباء النقد ، كلمتان بسيطتان ، تعبران عن نفسية الإنسان العربي والمسلم ، العادي والمثقف ، على حد سواء ، وما الاستثناءات سوى خيط صغير قصير ، يمر في الشخصية العربية مرور مُذنَبِ يمر بالكون دون أن يلحظه إلا بعضا من عيون تصاب بعدها بالرمد .

ذلك لأننا امة ما زالت تعتنق الفكرة السامية ، اعتناق الإبل لمساحات الصحراء ، لكن الإبل ، تمر بالصحراء فتترك فيها أثرا يعرفه التاريخ ، أما نحن فنعتنق الفكرة ، بحماس سلبي ، يقودنا نحو التمحور والتقوقع والتجمد على عين الفكرة وسموها ، دون أن نملك الأدوات والقدرات التي من شانها أن تصنع من الفكرة السامية واقعا متسقا بالجمال والروعة ، بل نزيد على ذلك بالتأثير السلبي على نقاوة الفكرة ، إلى حد تبدو مهلهلة بالية ، بل وممجوجة إلى حد ما .

والسبب البين الواضح ، من خلال التجوال بين الكتب والرائي والمذياع ، وبصورة اخص ، المواقع والمنتديات المنتشرة على الشبكة العنكبوتية .

فالكتابة عن الوطن ، أو الشهداء ، تعتبر من الأفكار السامية ، لكنها بالضرورة ، وبالمنطق ، وبالجبر والكره ، تحتاج إلى أسلوب يستطيع أن يرتفع إلى مستواها ، وان يجلو حقائقها ودواخلها ، جلاء المتمكن القادر ، على أن يجمع بين سموها وبين الأسلوب الذي يرتقي إلى ذاك السمو ببراعة العقل والأسلوب .

فما بالك إذا كانت الفكرة مقدسة ، بل هي الفكرة المقدسة الوحيدة التي نملك كعرب وكمسلمين ، وهي الرسالة السماوية وكل ما يتعلق بها من عبادات وأصول وأحكام ، وما يتعلق بأهلها الذين سبقونا وضخوا دماءهم وعرقهم وإيمانهم وعلمهم ومعرفتهم بكل حناياها ، لتنمو وتكبر وتمتد ، لتصبح الصورة المشرقة والوحيدة التي نملك خاصية التباهي بها ، رغم الهوان والضعف الذي يحيط بنا من كل جانب .

نحن ما زلنا ، لا نعرف شيئا عن اللغة والحروف التي تتحدث عن الأسلوب ، بل نرى بالفكرة السامية المقدسة ، الهدف والأسلوب ، دون أن نمتلك أدوات التفكيك والتمحيص ، التي من شأنها أن تجعل الفكرة والأسلوب جوهرا خالصا لا يمكن الفصل بينه من حيث الإبداع والرقي المصاغ بعمل أدبي أو عمل فكري .

وما زلنا نقيم للعلاقات الشخصية والمهنية مقاما حين نود أن نتناول عملا بالنقد والتحليل ، لتمتزج العلاقات بالفكرة المقدسة ، وبالكرم العربي الذي ندعيه ، حتى يتحول النقد إلى مجموعة من الجمل المجاملة الخجولة ، وربما تصل إلى حد التغني والاستفاضة بالتمجيد ، من اجل هذه العلاقة ، وتلك الفكرة المقدسة ، علما بان الموضوع المطروح لا يساوي في فنية الأدب واحترافه سوى محاولة يمكن أن يحاولها أي طفل طموح ، أو أي طالب في المدرسة الإعدادية أو الثانوية ، يود أن يستعطف محبوبته ومعشوقته ، بطريقة الأدب والبيان .

واعتراضا – وقبل الاسترسال بالموضوع – أود أن اذكر حادثتين مهمتين بتاريخ الأدب الروسي ، حتى أستطيع من خلالهما الدخول بالموضوع الذي أود انبش أعماقه بنوع من الإسهاب والتفصيل .

الحادثة الأولى ، أن أنطون تشيخوف ، وتوليستوي ، قررا الانسحاب من رابطة الكتاب الروس احتجاجا على القرار الذي صدر من الرابطة بمنع الكاتب مكسيم غوركي من الالتحاق بها ، بحجة انه لا يحمل شهادات أكاديمية تؤهله لدخول الرابطة .

وقامت الدنيا ، وكثرت الحوارات والمشادات ، لكن الأدباء الذين التحقوا بركب تشيخوف وتوليستوي رفضوا وبشكل قاطع ، أن يعودوا إلى الرابطة ما لم يتغير القانون الذي يمنع غوركي من الالتحاق بها ككاتب يستحق أن تحترمه بلده ، ويستحق أن يكون ضمن الذين امتلكوا الإبداع الذي يؤهله للوصول إلى المرتبة التي تتناسب مع قدرته وإبداعه .

وفعلا ، تم صياغة دستور الرابطة من جديد ، وعاد أنطون وتوليستوي وغوركي إلى الرابطة ، عادوا بعد أن نجحوا في فرض رؤيتهم الإبداعية على قانون النشر والكتابة والرابطة ، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة تعتمد الإبداع ولا تعتمد الشهادة .

واستطاعوا بزمن مبكر جدا ، أن يرسوا مفهوم النقد الإبداعي ، محل النقد القائم على المركز والعلاقة والشهادة .

الحادثة الثانية : زارت مجموعة من دور النشر المتخصصة في روسيا فلسطين يوما ، وحين التقينا بهم سألتهم سؤالا طالما تمنيت أن أساله ، لماذا تأتي الرواية الروسية بكل هذا العلو والسموق ، إلى حد أنها أصبحت الرواية الأولى في العالم ، من حيث غزارة الإنتاج وطول النفس ، والقدرة الفذة على معالجة الأفكار والقضايا التي يعجز العالم عن معالجتها بنفس الطريقة ؟

كانت الإجابة متفرعة إلى أكثر من جانب ، لكن الجانب الذي يهمني توثيقه ، أنهم قالوا : نحن لا نضع مقاييس للراوي وشخصه ، فلا يهمنا إن كان الراوي فلانا أم فلان ، وإنما تهمنا الرواية بما تملك من أسلوب وفكرة ، وبما تملك من قدرة على وصف الناس والأفكار والأحداث بطريقة تتناغم مع العمق والمتانة ، فان أتانا كاتب مشهور ، ووضع بين أيدينا رواية ، واتانا كاتب مغمور أو مبتدئ ووضع بين أيدينا رواية ، فإننا نقرأ هذه وهذه ، ونختار الرواية الناجحة ولو كانت للمغمور والمبتدئ ، ونرد الرواية الأخرى وان كان كاتبها من أعلام الأدب الروسي .

قد يكون بهذا نوعا من المبالغة ، لكن الرواية الروسية ، والصادرة عن دور النشر المعروفة تشهد بذلك .

أما نحن العرب والمسلمون ، فلنا فلسفة تختلف عن ذلك تماما ، نحن نكتب وفق إرادة الأنظمة والأحزاب والحركات ، ونبتغي التمجيد والتطبيل والتزمير لكل تلك المكونات ، مدفوعين بالجهل أحيانا ، وبالعمى أحيانا أخرى ، وبالمصلحة الشخصية والذاتية في أحايين كثيرة .

وان تركنا كل ذلك ، فإننا ننساق نحو فكرة القداسة ، خوفا ؟ ربما ! ضعفا ؟ هذا يقيني .

ولنرجع قليلا إلى الماضي ، لنفتح صفحات بعض الناس ، الذين أثروا بالفكر والأدب ، لنراهم وهم يلجون مساحات من التاريخ ، وبعد أن رحلوا كيف وضعناهم نحن في مرتبة من القدسية التي تحرم على الأقلام الوصول إليها بمبضع النقد والتحليل ، ولو كانوا هم أحياء ، ربما لقبلوا النقد الذي لم نقبله نحن الآن عنهم .

لنأخذ مثلا المتنبي ، فنحن ومنذ الطفولة ، درسنا بان المتنبي شاعر العرب ، الذي لم يترك زائدا لمستزيد ، وكأن فن الشعر وقف عند عتباته وتاريخه ، وهذا أول عيب نقدي تعلمناه وحملناه ، فالمتنبي شاعر ، لكنه لم يكن ولن يكون آخر الشعراء ، وإذا لم نتنبه للبارودي فليس هذا من شأن التاريخ ، بل من شأن النقاد الذين وقفوا عند لحظة زمنية معينة ، وأرادوا منا أن نقف عندها .

ولست هنا للخوض بشاعرية المتنبي أو البارودي وأيهما أفضل ، لان لكل منهم شاعريته التي نبتت في زمنه ، وعليها يمكن أن يدار النقد ويوجه ، لكن دون وضع السد الزمني الخاص بالمتنبي والذي ارسي بعقولنا رغما عنا .

ولكني بصدد التعرض لهاجس الشعر والشخصية التي حاول النقاد التعامل معها بصورة تثير الشفقة والغثيان بنفس الآن ، وهي الطريقة التي لقنا بها بان المتنبي ، كان وسيبقى سيد الشعر العربي ، دون أن نلقن حتى تلقينا ، بان المتنبي لا يستحق الاحترام أو التقدير .

لم يعلمونا أبدا وبتفصيل نفسي ونقدي ، بان المتنبي كان كذابا ودعيا ، بل وكان يعرض روحه ونفسه وشعره لمن يدفع أكثر ، قالوا لنا بأنه طالب جاه أو إمارة ، وأردفوا انه من أصحاب الهمم العالية .

ولكنهم لم يتنبهوا ، ولم يودوا التنبه ، بان الهمم العالية لا تعرف التسول والاستجداء والكذب والتدليس ، ماذا نسمي من كان يتنقل من أمير إلى أمير بالمدح حتى يحصل على الإمارة أو المال ؟ ماذا يمكننا أن نسميه بغير الكذاب ، الذي يصوغ مشاعره وكلماته دون قناعة بهذا الأمير أو ذاك ، بل بقناعة الجاه والمال الموصول بهذا الأمير أو ذاك ؟

حتى حادثة مقتله ، والتي تدل على غباء ممزوج بالعصبية والتعالي ، صوروها لنا على أنها نوعا من أنواع البطولة التي لا تتكرر في حياة الشعراء ، ولو قدر لدارس نزيه وناقد جريء أن يقف أمام شخص المتنبي وحياته وتقلباته النفسية والفكرية ، لوجدنا من يقول لنا بان المتنبي كان ارخص كثيرا من أن يرفع إلى هذا المقام ، ولشرح لنا ، بعمق وإدراك ، معنى الأبيات التي استطاع المتنبي أن يصوغها مدحا وكذبا وراء غايته ومطمعه ، وليس صدقا وراء دخيلته .

الهمم العالية أيها العرب ، لا يصنعها الكذب ، ولا يصنعها المدح ، بل تصنعها الأفعال التي تقترن بالبطولة .

ليس عليكم حرج أن تعترفوا للمتنبي بمقدرته الشعرية ، ولكن عليكم كل الحرج ألا تقفوا أمام غاياته من الشعر والمدح لتكشفوا مدى دناءته وتردي أخلاقه ، مدى انفصاله عما قال من حكم وأمثال ، عليكم حرج شديد أن تعلمونا بان الهمم العالية ، إنما يصنعها من يحسنوا الانحناء للمبدأ الذي تهون في سبيله الأرواح والأمنيات والمطالب . ولا يحسنوا الانحناء للرغبات والنزوات والأطماع الذاتية .

لكنها قدسية المتوارث ، وعدم الجرأة على مواجهة الأشخاص الذين أردنا أن نراهم كما نريد .

فإذا ما انتقلنا من قدسية الأدب إلى قدسية الدين ، وهي قدسية ذات علائق وأبعاد معقدة ، يمكن الحذر بالتعامل معها ، ولكن لا يمكن إهمال نقدها وتعرية باطلها .

فالقصيدة التي تكتب مدحا للرسول الكريم – عليه الصلاة السلام – هي قصيدة عصماء ، رائعة ، فقط لأنها تحمل فكرة مقدسة منزهة عن النقد ، وحتى لو تعامل معها البعض بالنقد ، فانه يتعامل معها بطريقة خجلى ، علما بان القول ، بان القصيدة لا تساوي أي قيمة أدبية ولا تحمل أي نفس شعري لن تضير الناقد ، والناقد ليس مضطرا حين يتناول القصيدة أن يقول تجنبا للشبهات " بان الفكرة سامية ولكن الأسلوب ضعيف بعض الشيء " .

نعم ، الناقد ليس مضطرا لهذا ، لكنه مضطر إلى تبيان الخلل والخطأ والضعف في البناء الهيكلي للقصيدة ، بكلمات واضحة وصريحة ، تحمل مدلولات كاملة البيان والتبيين لمواقع الخلل والضعف ، دون أن تحمل كلماته النقدية أي نوع من أنواع المجاملة ، لان النقد الخائف المرتجف ، المجامل ، هو أحق بالانضمام إلى شخص المتنبي وما مثله من بعد بين ما قال وما كان عليه في الحقيقة .

نحن نريد نقدا مؤسسا على الصراحة والتجرد ، على تسمية الأشياء بمسمياتها ، لا يخاف ولا يتردد ، يوغل في الصراحة واستخدام الألفاظ المخبرية النقدية ، ولا يتورع أمام أي شخصية مهما بلغ صيتها وشأوها في العالم الإسلامي والعقل الإسلامي .

نريد من يخرج ليقول وبملء فمه ، بان سيد قطب كان أديبا من المرتبة الثالثة في عصره ، نريد من يقول بان الظلال ليس تفسيرا للقرآن ، وان سيد قطب كان اقل علما ومقدرة ، من تفسير القرآن ، وإنما هو نقل لأقوال العلماء والمفسرين ، ووصفا للحالة الشعورية التي عاشها سيد قطب مع القرآن في السجن .

نريد من يأتي ليقول بان حسن البنا – رحمه الله – كان رجل تنظيم ولم يكن رجل علم ، كان قادرا في مجاله وكان عاجزا في المجال الآخر ، ولا نريد أن نقرأ كتابا عنوانه " القائد الملهم حسن البنا " نريد أن نعرف قدراته بعيدا عن الإلهام ، القدرات الإنسانية التي منحها الله له ، وليس الإلهام الذي صيغ حول شخصه بعد وفاته .

نريد من يأتي ليقول لنا وبعين الناقد الخبير ، إن كتب فتحي يكن تصلح للمرحلة الإعدادية ، وان فتحي ليس بعالم إسلامي ، أو مفكر عربي ، بل هو رجل بسيط ، ذو قدرات محدودة ، نريد من يدرسه بعيدا عن جماعة الإخوان التي عودتنا وعودت الفكر العربي بتغذيتنا بمصطلحات كبيرة تتناسب مع الولاء للحركة ، ولا تتناسب مع الولاء للفكر.

وحين يقول ذلك ، على العقل الإسلامي أن يفهم وببساطة وعفوية بان الناقد لا يمس ولا يتدخل بشخصية سيد قطب أو حسن البنا ، وإنما يقف أمام أعمالهم بما يملك من أدوات تخصه ، وبما يملك من جرأة تستطيع أن تنزع هالة القدسية عن العمل ، ليستطيع أن يخرج لنا بقول فصل ، يمنحنا القدرة على تفادي الأخطاء والضعف ، لنستطيع أن نؤسس عقلا واعيا قادرا على التأثير بمجريات الحياة .

ولماذا علينا أن نخاف أن نعلن وبوضوح ، بان عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد وأصحاب المعلقات أقوى وأكثر قدرة في الشعر من حسان بن ثابت وقيس بن الأسلت ؟

لماذا علينا أن نخاف من ذلك ، وكل أدوات الأدب القديم والحديث ، وكل أدوات النقد القديم والحديث تقول ذلك ؟

لحسان بن ثابت منزلة دينية نرضاها ونرتضيها ، لكنه لا يملك من غزارة الشعر وفحولته ما يملكه الآخرون .

للإمام الشافعي – رضي الله عنه - منزلته في الفقه ، وضعته بين الأئمة الأربعة ، لكنه لا يملك من فن الشعر ما امتلك ابن الرومي أو غيره من الشعراء ، وليس علينا حرج إن قلنا أو ادعينا ذلك ، وليس من الوفاء للشافعي أن نضعه في مكانة لم يضع نفسه فيها .

ولو أردت الاسترسال بالموضوع لذكرت أشياء عن علماء ، كتبوا في التفسير والفقه موسوعات ، لكنهم خلطوا بين أشياء وأشياء ، ولكني أود تجاوز ذلك ، لأدخل إلى معطيات العصر الأكثر حداثة ، الرائي والمذياع والشبكة العنكبوتية .

فالرائي يتحفنا بمجموعة من الدعاة المعاصرين ، الذين لا هم لهم سوى الصراخ واستحضار التاريخ القديم ، استدرارا لمشاعر المشاهدين والمشاركين ، حتى تهمي الدموع من المآقي ، وحتى نشحن بشحنة عاطفية مؤقتة ، ينهيها مشهد عراقي أو فلسطيني أو لبناني أو سوداني ، لنعود نشعر بالغصة والهوان والانطواء والضعف .

وليس هناك من يهتم – دعاة وعلماء – بمحاولة إيجاد طريقة مخاطبة بديلة تستنهض العقل وتدفعه نحو التحرر من سلاسل الهوان والضعف ، بل ليس هناك من يجرؤ على وضع خطة للتعامل مع العقل المسلم ، بطريقة تحثه على الإبداع والتطوير ، على الخلق وقوة الشخصية والإرادة ، على إنشاء جيل واثق مما بين يديه من قدرات ، بنفس ما نملك من ثقة الأمم التي خلت .

وحتى المكتبة الإسلامية ، لم تقم ومنذ سنوات طويلة طويلة بإنتاج كتابا واحدا بعيدا عن النسخ واللصق ، بل هي مكتبة تجتر الماضي بطريقة مؤذية للعقل والشعور .

فكم من ألف كتاب كتب عن الصلاة والوضوء ، وكم من ألف كتاب كتب عن الزكاة والصيام ، وكلها كتب تأخذ مما قاله العلماء السابقون ، لتقوم بالتنضيد والتوثيق لأرقام الصفحات وأسماء الموسوعات .

العالم الإسلامي يعرف الزكاة والحج والصيام ، فان جد جديد ، وأضافت علوم العصر كشفا ما ، فليضاف إلى موسوعة الزكاة أو الصلاة أو الحج أو العمرة ، أما من اجل أن نضيف سطرا أو فقرة ، نعود لننسخ آلاف الصفحات ، فآلاف الصفحات ، فهذا ما لا يقبله عقل ويأباه المنطق .

وحتى الأدباء ما زالوا يقفون على أعتاب الجاحظ والإمام الفاضل وطوق الحمامة ، دون أن يقفوا أمام إبداعات العصر ، وربما لان العصر الحالي ما زال يحمل عقدة النقص والتقزم أمام الأجيال الماضية .

الجاحظ مات ، شبع موتا ، وكذلك ابن حزم والإمام الفاضل ، وابن خلدون أصبحت عظامه مكاحل ، لهم علينا حق الاحتفاظ بذكراهم كتراث قابل للاستفادة منه ، ولكن لنا على أنفسنا أن نباهي بما نملك نحن ، أو على اقل تقدير ، بما يجب أن نملك اليوم .

أما أن نعيش ونحن نستدعي الماضي في كل آن ، فهذا عين العجز والاستكانة والتخلف .

أما الشبكة العنكبوتية ، والتي تعتبر الآن اشد الأسلحة وأكثرها فتكا ، فحدث ولا حرج ، فهي تغص بتفاهات تأباها التفاهة ، وتدخل في دورة تدمير العقل والشعور بكل ما تملك من طاقة ، مسحوبة بالربح ، والمجاملة ، وانحطاط الذوق ، ومغرقة بالخلط بين قدسية الفكرة وهبوط الأسلوب .

فمراقبة بسيطة لموقع ما ، تجد الادراة تجامل نفسها بالنقد الخالي من النقد ، بل النقد الخالي من أي مضمون ، فهي تتابع عمل هذا الزميل وذاك ، بعين الحراسة الدائمة الساهرة ، وبنقد متبوع بنقد ، وتأطير يخلفه تأطير ، وحين تلج بحاستك الأدبية إلى المكتوب ، ينتابك شعور التقزز ، بل وتصل إلى حالة الاستفراغ من هبوط الأسلوب ، وأحيانا من هبوط الفكرة والأسلوب ، ويصل بك الأمر أن تستفرغ للبحث عن الفكرة أو الأسلوب .

وفي جانب آخر يأتي احد " الكتاب " بمقطوعة تحمل فكرة مقدسة ، كالصيام ، أو الصلاة ، أو البكاء من خشية الله جل شانه ، يأتي ليحيط الفكرة بمجموعة من الكلمات التي تغل الجمال ، وتقمع الذوق ، وتحط من قيمة الأدب ، لكنها الفكرة ، التي تدفع البعض جهلا ، والبعض خوفا ، والبعض تقربا ، أن يحمل قلمه ويبدأ يستخلص من المقطوعة دلالات وأوجه ، لا تمت لا للفكرة ولا للأسلوب بأية صلة ، إلا صلة المجاملة والجهل ، مهما كان اسم الناقد أو بصورة اصح صاحب الرد ومهما كانت مكانته الأكاديمية التي يذيل بها توقيعه .

يخطئ من يظن بان المواقع والمنتديات وجدت لنهضة العقل ، ما لم تثبت تلك المواقع والمنتديات قدرتها على إيجاد خطة تقود نحو الإبداع والتميز ، بعيدا عن الاستبداد والتقوقع بأصداف الماضي وعدد الأفراد .

وعليها أن تدرك بأنها لا تملك أمانة قداسة الفكرة ، بل يجب أن تمتلك أمانة أنصاف مفهوم الإبداع الآتي من قداسة الخلق والتأثير بحاضر الأمة ومستقبلها ، وعلى مشرفيها أن يقفوا أمام الحقيقة بجرأة تفوق جرأتهم بحذف المقالة والاعتذار عن الحذف بطريقة أهل السياسة والديبلوماسية ، فان كان ولا بد من الحذف ، فلتحذف الكتابات العاجزة الزاحفة على تراب التخلف والانحطاط ، أو لتنشأ لتلك الكتابات أقسام يمكن من خلالها تطوير إمكاناتهم ، إن كان بالإمكان تطويرها .

عليها وعلينا ، أن نقف لنحاول أن نؤسس لمدرسة نقدية ، جريئة ، منصفة ، تحمل أمانة الإنصاف لقداسة الرسالة التي نحملها أو ندعي بأننا نحملها ، دون الأخذ بفكرة القداسة من مرض ورثناه وقد نورثه للأجيال القادمة .

علينا أن نعرف بان الفكرة والأسلوب صنوان لا ينفصلان ، فلا قداسة الفكرة تشفع للأسلوب ، ولا فنية الأسلوب تشفع لرداءة الفكرة ، وبين الأمر هناك طاقات ومقامات ، لأصحاب القلم ، لا حرج من تصنيفها والاهتمام بها وفق معطيات الإبداع والتميز .

وفي النهاية أود أن أسجل حادثتين ، الأولى ، حين كتبت تعليقا على إحدى الاقصوصات بموقع ما ، قلت فيها للكاتب ما معناه ، بأنه لم يملك الأدوات الفنية للأقصوصة ، وان طالبا ما بمرحلة ما يستطيع أن يكتب مثلها .

" القاص " أصيب بالغضب ، فقام بنسخ الردود الموسومة على الأقصوصة وساقها لي كدليل على قدرته في الكتابة ، رددت عليه بأنهم يملكون الحق بقول ذلك ، ولكن ذلك لا يعني أبدا باني غيرت رأيي عن كونه هاويا في فن الأقصوصة ، بل وأدركت أيضا بأنه لضعف في ذاته وشخصه ، تحدث بصيغة الغاضب المجروح .

الثانية : أنني كتبت تعليقا على" قصة قصيرة " قلت لكاتبها بان الفكرة كانت تحتاج إلى أسلوب وصفي يرتقي بالمشاعر ، فرد علي ببريد خاص ، متهما اللغة العربية بالعجز عن القدرة في توظيف الشعور ، طبعا ليس بمثل ما اكتب ، بل بأسلوب صبياني مبتذل ، علما – وللحقيقة المطلقة – بان ما كتب " كقصة " لا يقبل كموضوع إنشاء للمرحلة الاعداية الأولى .

نحن لا نعرف عن النقد سوى المديح ، رحم الله غالي شكري وحسين مروه ومحمد النويهي والعقاد ، أولئك الجنود الذين وقفوا ليخرجوا العقل العربي من تأزمه وتجمده ، فوفقوا في أفراد ، وفشلوا بأمم .


مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 27- 9- 2007