ماذا قال (وليم بولك) أمام الكونجرس؟

الشهادة التي أدلى بها (وليم بولك) أمام الكونجرس الأمريكي يوم 26/2/2008 حول الحرب على العراق. ووليم بولك هذا، كان على رأس فريق أزمة الصواريخ الكوبية في عهد الرئيس (جون كندي) وتقلد منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي، وكذلك منصب مساعد وزير الدفاع الأمريكي في الستينات من القرن الماضي، وهو مؤسس ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو.

يبدأ الشاهد حديثه أمام الكونجرس بقوله: ما زالت الندوب تلازمني، لكن أمرا واحدا تعلمته هو أن الشيء الأخطر هو أن يتعامى المرء عن الواقع ليرى فقط ما يريد أن يراه. ولا أمل إلا في الأمانة والوضوح المطلقين. لذا أرجو أن تغفروا لي تقديمي لكم اليوم الحقائق الموضوعية الواقعية التي ينبغي لنا أن نعايشها أو نموت.

أريد أن أحدثكم الآن عن ثلاثة أمور:

كم تُكَبِدُنَا معاناتنا في العراق من تكاليف؟
طبيعة الإرهاب وحرب العصابات والتمرد.
ماذا يجب أن نفعل الآن؟

أقترح تجاوز كيف تورطنا في العراق والقضايا القانونية والدستورية التي طرحتها سياستنا، لا لأن هذه قضايا عير مهمة، بل لأن مناقشتها جارية في أحوال كثيرة نسبيا، ولذلك سأركز على ما هو معروف بدرجة أقل.
في النهاية، إذا طقتم معي صبرا، سأعطي فكرة صحيحة عن مضامين جوهر سياستنا الراهنة، أبدأ بثمن سياستنا في العراق:


أولا: كم تُكَبِدُنَا معاناتنا في العراق من تكاليف؟

(1)

كما تعرفون من الصحف، تكبدت الولايات المتحدة حوالي 4000 ضحية في العراق، و482 ضحية في أفغانستان، وبالأمس ذكر السناتور أوباما أن عدد الجرحى يصل الى 30ألف جريح، ولكن السناتور مخطئ في هذا الصدد، إذ أن الرقم الذي ذكره ليس سوى جزء صغير من المجموع.

ويذكر في شهادته، أن أكثر الأمور غرابة، هي الجروح المثيرة للانتباه والناجمة عن صدمات حرب العصابات، التي لم تكن معروفة قبل دخولنا للعراق، ويعتقد الشاهد أن واحدا من كل عشرة جنود أمريكان من مشاة البحرية والجيش أي قرابة 50 ألف رجل وامرأة قد أصيب بصدمة. ومعالجة هؤلاء مهمة طويلة ومعظمهم لن يبرأ كليا. وقدر كلفة علاج كل حالة بين 600ألف و5 ملايين دولار.

ويذكر الشاهد في شهادته، أن واحدا من كل ثلاثة جنود أي بين 120ألف و300 ألف جندي يشكو من مرض لم نكن نعرفه قبل عام 1990، إنه (الاضطراب الإجهادي الذي يعقب الصدمة) (PTSD ). وقد ذكرت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية أن واحدا من كل ثلاثة رجال ونساء ـ ربما 200 ألف ـ يحتاج الى علاج في ما يتعلق بصحته العقلية. ويحتاج هؤلاء الى مساعدة لأنهم إما ذوو ميول انتحارية وإما يشكلون خطرا على الآخرين.

ويمر الشاهد على مرضى قدرهم ب 169 ألف جندي من أصل 580400 رجل وامرأة قاتلوا في حرب الخليج الأولى، يعانون من أعراض استخدام اليورانيوم المنضب في تلك الحرب، ويقدر أن علاج هؤلاء ومن تبعهم في غزو العراق 2003 يصل الى 500 مليار دولار.

(2)

إذا تركنا القوات المسلحة جانبا، فما هو تأثير الحرب في أمريكا؟

أينما وجهتم أنظاركم، ستجدون ارتيابا متصاعدا وغضبا متزايدا على أمريكا. فأحدث الاستطلاعات تبين تراجع تأييد أمريكا في بريطانيا من 75% الى 50% وفي ألمانيا من 60% الى 30%، هذا في أوروبا، أما خارجها فالأرقام هناك لم يسبق لها مثيل، فتركيا التي كنا نعتبرها حليفا ثابتا كالصخر، ولو كنا نطلب منها نقل كامل جيشها لأداء مهمة ما لم تتوان عن ذلك، أصبحت اليوم نسبة من يؤيدنا داخلها 9% فقط. ومصر والأردن اللتين طالما روج أنهما السندان الأساسيان لسياستنا الشرق أوسطية يفضلنا واحد من كل خمسة. وفي العالم الإسلامي أصبح 80% من المسلمين يعتقدون أننا نريد تدمير دينهم.

طبعا الشعور في العراق، لدى كل العراقيين بأنهم يريدوننا أن نرحل. إننا دمرنا النسيج الاجتماعي للدولة العراقية، ففي الوقت الذي كانت وحدة صغيرة من الشرطة العراقية تحقق الأمن والهدوء قبل الغزو، عجز 160 ألف جندي أمريكي ومعهم 20ألف من المرتزقة فضلا عن جنود الدول الأخرى من فرض الأمن في المنطقة الخضراء!

إن حالات القتل والتشريد بين أبناء الشعب العراقي، والذين فقدوا ما يقرب من مليون قتيل وعدة ملايين من الأيتام والأرامل ومئات الألوف من البيوت المهدمة، ستجعل من العراقيين يحملوننا مسئولية ذلك مدى الحياة. كما أن ما تسرب من صور تعذيب في أبي غريب وغيرها، سيتطلب منا مدة طويلة لإعادة ثقة العالم بنا.

لقد تصدر النفط منذ أشهر الكثير من العناوين الرئيسية، والوصول إليه بشروط مقبولة هو واحد من ثلاثة أو أربعة من مقتضيات سياسة خارجية أمريكية ناجحة، هذا أمر أعرفه حق المعرفة، لأني قمت خلال عهد الرئيس كندي بوضع الوثيقة الرسمية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

ما هو سعر النفط؟ إذا كنتم وسطاء يمكنكم أن تجيبوا فورا، إنه حوالي 100 دولار [ وقت تقديم الشهادة]. إن ارتفاع سعر النفط من 27 دولار/للبرميل قبل الغزو الى 100 دولار (شباط/فبراير2008) يعني الكثير، فكما هو معلوم كلما ارتفع سعر النفط 5 دولارات للبرميل فقدنا 17 مليار دولار من دخلنا القومي، أي أننا نفقد الآن سنويا زهاء 300 مليار دولار من هذه النقطة فقط.

(3)

لا أحد يستسيغ زيادة الضرائب، لذا عمدت الحكومة للاقتراض، فزادت ديونها خلال سني احتلال العراق 70%. ليس من البنوك المحلية فحسب، بل حتى من الخارج. ذكر قسم المرجعية في مكتبة الكونجرس أن الديون الخارجية بلغت 2.7 تريليون منها 1 تريليون من الصين! و5.8 تريليون من القطاع الخاص الأمريكي.

تبلغ الفائدة على الديون الأمريكية 300 مليار سنويا.

لقد كلفتنا الحرب بالعراق 535 مليار دولار، مضافا لها 300 مليار (نفقات إضافية) فتصبح 835 مليار.. لكن إذا تتبعنا الكلف غير المرئية كهبوط سعر الدولار والتعويضات المستقبلية للجنود الأمريكان وعلاجهم، فإن الرقم سيقفز الى 6 تريليون دولار.

(4)

لقد طلب مني أعضاء ديمقراطيون وجمهوريون، أن أساعد في وضع تشريع يهدف الى إخراجنا من العراق سالمين و على جناح السرعة وبأقل ما يمكن من التكاليف. وأول شيء يسمعه المرء منهم هو خوفهم من أن يُظن أنهم (غير مساندين لقواتنا). وقد أصبح هذا نوعا من كلام سحري (Mantra) وهو ما يفسر في اعتقادي سبب عدم قيام الكونجرس بالدور الذي يمليه عليه الدستور.

كان المحافظ الكبير (إدموند بيورك) قد حدد لنا منذ أمد بعيد أهمية هذا الإخفاق، حين علق على عجز البريطانيين عن التفكير بوضوح في شأن الثورة الأمريكية، إذ قال: ( ليس كالخوف شعور يسلب العقل كل قواه بحيث لا يقوى على الإتيان بفعل وحجة).

يتبع

هامش
ـــ
تمت إعادة صياغة واختصار هذه الشهادة، المنشورة في مجلة المستقبل العربي/ العدد351/ مايو 2008/ صفحات 99 وما بعدها .