خاطرة: بيروت مَنْ؟؟ * خيري منصور
أصغر من قبضة طفل ، وأوسع من قارة ، وأعذب من تفاحة جبلية سال رحيقها ولم تجد «نيوتن» لتسقط على رأسه. وأمرّ من حنظلة ، تلك هي بيروت التي عشقها العرب حتى أبهظوها بالعشق ، وخافوا منها حتى لاذوا بالفرار من مواجهة اسئلتها وَمُساءلاتها منذ اكثر من ثلاثة عقول ، فهي عاصمة تعصم من لاذوا بها لكنها تبحث عن عاصم «أو معتصم» غير الذي أشاح عنها في الشياح ، وعن أشقاء غير لدودين في زمن تحول فيه الدم الى ماء.. وتحول فيه الماء الى سائل يسري في الاواني المستطرقة لجغرافيا قدرها أن تراوح بين عبقرية المكان وحماقة الزمان،
ما ان يرتطم كوزها بجرّتها ، حت تندلع في الذاكرة اشباح حرب لم يسلم من حرائقها حتى من اشعلوها ، وكنا نراهن على أن بيروت تلقحت بالسّم ضد السّم ، وبالدم ضد الدّم ، لكن ما يجري يجزم بأن اليوم هو شبيه البارحة ، حتى لو اختلفت المراوغات وتعددت الأقنعة.
وكان لا بد للتوتير الكلامي أن يمهد لصدام لا يحزر أحد مداه ، لأن الغابة يشعلها عود ثقاب ، خصوصا اذا كانت الرياح محملة بالسّموم ، والاعصار السياسي في ذروة جنونه،.
لقد دفع اللبنانيون أثمانا مضاعفة لأخطاء ، تحولت الى آثام بعد أن أخذت العزة العمياء من أخذت من قادة الطوائف.
ما من زقاق أو شارع في بيروت الا ويختزن في ذاكرة حجارته وترابه أياما كانت ظهيراتها سوداء ، والبومة تنعب في غسقها مُنذرة بالخسارة الفادحة ، لكأن قدر من ولدوا في تلك المدينة أن يعيشوا أبدا على تخوم حرب أو انتحار وطني ، فالحرب في لبنان هي حروب أيضا ، لأن لكل طرف عربي أو غير عربي حربه في هذه الكوميديا الحمراء.
لقد قرع العقلاء أو من تبقى منهم على قيد الوعي أجراس النذير منذ اصبحت حرب الشوارع كلامية وباليافطات والشعارات ، وكان لا بد للجمرة أن تحول الى نار ذات لهب وتأكل نفسها اذا لم تجد ما تأكله..
يصعب علينا أن نكتب عن بيروت بعد أن استيقظت فيها اشباح الفوبيا المزمنة بمعزل عن وجدان جريح ، وعن تذكارات شخصية عن مساءات منها ما كان مترعا باشواق فيروزية وكرنفالات ينبت فيها للاطفال أجنحة ومنها ما كان مجالا أسود للرّعب والهجرات القسرية الى شتى المنافي،
واذا صدقنا بأن ما يحدث في العراق هو شأن عراقي خالص ومصفى من الشوائب فان ما يقال عن الشجن اللبناني بأنه محلي يجافي جملة حقائق دفعة واحدة..
ان ما يحدث في بيروت يتزامن على نحو يثير الأسى مع احتفالات الدولة العبرية بعيد ميلادها السّتين ، وكنا نتوقع من العرب أن يعدوا لمثل هذا الاسبوع شيئا آخر غير الرصاص الأعمى وغير الموعظة الجاهلية الخرقاء عن ظلم ذوي القربى المتبادل..
ان الاستخفاف العربي بقضايا تفاقمت بمعزل عن التشخيص الدقيق والرّصد ومحاولة الاستدراك ، قد يحول هذا العالم العربي كله الى حرب اهلية عمياء.. فنحن نأكل لحم بعضنا أحياء وموتى ، والغيبوبة التي تستغرقنا بلغت الدرجة التي قد لا نعود منها،،

عن جريدة الدستور