العبد والعصا..!!
أحمد الأديب

--------------------------------------------------------------------------------
أرقى الشعر العربي هو ما تستشهد به كثيرًا ألسنة الخطباء والكتّاب، إذ سرى مسرى الأمثال عبر العصـور والأجيال، ونادرًا ما كان يعرف قائلها، فجمعها الأديب العلامة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتيب ونسب كلاً منها إلى قائله. وسنقف - بإذن الله- وقفات قصيرة في ظلالها، ومع ما فيها من معاني الحكمة، بيتًا بعد بيـت، في حلقة بعد حلقة، في هذه الزاوية، التي تدعو قرّاءها إلى التواصل معها بالنقد والتعليق. العَـبْـدُ يُـقْـرَعُ بِـالعَـصــا
وَالحُــرُّ تَـكْـفـيـهِ المَـقـالـة
ليس المقصود بكلمة العبد في هذا البيت هو الرقيق بالمعنى التقليدي للكلمة، فكم من حرّ بقي حرًا رغم استرقاقه في سوق النخاسة، وكم من عبد في نفسه وطباعه، يحكمه جشعه أو هواه أو ما شابه ذلك، ويحسب نفسه حرًا يسترقّ سواه .. ثمّ إذا ما طوى الثرى هذا وذاك، كان ذكرهما بعد موتهما كذكر أميّة وبلال !..
قائل هذا البيت هو أبو الأسود الدؤلي ، أورده بعد بيت آخر جاء فيه: أَعَـصَـيْـتَ أمْـرَ أولـي النُّـهـى
وَأطَـعْـتَ أمْـرَ ذَوي الـجَـهالَـة
وفي ذلك ما يبيّن قصد الشاعر في تحديده لأحد معايير العبودية والحرية، ممّا ينطبق على خصلة معيّنة وسلوك مشهود، سيان الموقع الاجتماعي لصاحبه، فالمهمّ أنّه قد قصر بصره عن رؤية الأمور على حقيقتها، وعن تقديرها وفق ما هي جديرة به من اعتبارات .. فروح العبودية طمعًا في منفعة مادية من منصب أو مال أو جاه، هي ما تجعله يطيع الجاهل فلا يقدّر أنّه يورده موارد الهلاك، ثمّ قد يجد العاقل الفطن فلا يأبه بقوله، وإن كان صاحب اختصاص وخبرة، بما يؤهّله ليكون الأخذ برأيه أكبر نفعًا، وأبعد تأثيرًا من طاعة سواه.
إنّ من يفقـد المقياس القويم في مسـلكه اليومي وتفقد تصرفاته توازنها؛ يفقد سيادته على نفسه، وهذا الافتقار إلى روح الحرية في شخصيته هو عين الرقّ والعبودية.. وذاك من إذا ذكرته لا تنفعه الذكرى، أو حـذرتـه لا يفيده التحذير، وربمّا لجأت معه إلى الشدّة تخويفًا، وإلى العصا تأديبًا، فأطاع وارتدع، وخنع وخضع .. ولربما فعل ذلك ولو كانت في يدك قشة وحسبها عصا غليظة، وذاك سلوك يناقض سلوك الأبيّ الكريم، من كانت نفسه بين جنبيه حرة عزيزة، فكان سيّد نفسه على الدوام، يستمع إلى التذكير من الصغير والكبير، وإلى النصيحة من القريب والبعيد، ويحرص على معرفة ما يراه أهل العلم والخبرة حرصه على سلامة طريقه وحسن تدبيره .. ولو رفعت في وجه ذلك الحرّ "هراوة " تهدّده بها ، كانت عزّة نفسه أغلى عليه من أن يحفل بك، أو يأبه بتهديدك سيّان من كنت !..
وبيت أبي الأسود الدؤلي هذا أبلغ في مبناه ومعناه من قول المتنبي الشهير على الألسنة : لا تشترِ العبد إلاّ والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
حيث تسرّب إلى هذا البيت وسواه من القصيدة التي هجا المتنبي بها كافورالإخشيدي ، قدرًا كبيرًا من الشتيمة المعبر عن غضب شخصيّ، وفقد الشاعر بذلك ما أراده من القول بتعميم ما حكم به هو على كافور ليكون "حكمة" شعرية تسري على الألسنة ويؤخذ بها، لا سيّما أن كلمة " العصا " في كلام المتنبي أخذت معنى حسيّاً، بينما يُحلّق القارئ مع خيال الدؤلي في ذلك البيت من الشواهد، ليرى في كلمة "العصا" رمزًا لأسلوب من التعامل، يتخذ أشكالاً عديدة، ويستخدم أدوات متباينة، فيسري المعنى على مختلف ضروب العبودية دون قيود مرئية ولا سلاسل أشدّ ممّا يصنعه المرء لنفسه، أو ينزلق للقبول به وقد صنعه له سواه، ومن ذلك ما نعاصره من ألوان العبودية الحديثة في عالمنا المعاصر، ومن نأسى لأوضاعهم من أصناف العبيد لأهوائهم وغرائزهم ومطامعهم، حتى بات جشع بعض أصحاب المال يعبّر عن نفسه من خلال إنتاج قائم ( وفق أهداف معلنة، لا اتهام من طرف آخر ) على أذواق مستهجنة، تجعل كل شاذّ غريب فنّاً راقيًا، فيسترقّ أصحاب الإنتاج أولئك بذلك من بات يعيش عبدًا يطيع دون أن يفهم ما يقول ذو الجهالة، وما يردّد من هراء قد لا يفهمه هو نفسه عن ذلك "الإبداع " المزعوم أو ذاك .. وعن جرأة ذلك الخارج عن الأعراف والأذواق، وعمّا تقتضيه العقول والأفهام .. وما شابه ذلك من مقولات ذوي الجهالة، يخدمون بها ذا المال، وهو نفسـه عبد لمطامعه وجشعه، يعيش من أجل ما يملك أكثر ممّا يعيش بما يملك، ويخدم بكل وسيلة "سلامة" ما بين يديه من مال أو مكانة، أكثر ممّا يخدمه ماله أو تخدمه مكانته !