تابع/ ابن رشد
الاعتراف بالنتائج العارضة
يقرر ابن رشد أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا عليه الشرع ليوصل الى معرفة الله. فإن اعترض معترض على ذلك بأن بعض الناس زل وغوى من اطلاعه على كتب القدماء في الفلسفة، فليس هذا بحجة وإنما ذلك حدث " إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلما يرشده الى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه"
يتهكم ابن رشد في شرحه حال من يعترض بحجة أن قوما من الأرذال ضلوا من خلال نظرهم في مثل تلك المسائل. ويشبه تلك الحالة بالنهي عن شرب الماء البارد العذب، لأن أحدا شرق ماء باردا فمات.
ويسترسل في استنكاره من ينهى عن التعامل مع الفلسفة، بأن الفلسفة ليست وحدها التي يحدث لها مثل هذا الاستنكار، بل حتى الفقه والفقهاء قد تعرضوا لمثل تلك الحملات من الاستنكار.
طرق التصديق متفاوتة
فإن قيل : وما الداعي الى طريق الفلسفة، ما دام يغنينا طريق الشرع؟
فالجواب: " إن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية، كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية"
فإن قيل أن هذه الطرق قد لا تؤدي الى نفس الرأي، كان الجواب: أن "الحق لا يضاد الحق" بل يوافقه ويشهد له. فإن وقع تعارض بين ما أدى إليه النظر البرهاني العقلي، وبين ما نطقت به الشريعة، قلنا أن الأمر لا يخلو عن خصلتين:
1ـ فإما أن يكون الشرع قد سكت عنه، وإذن فلا تعارض هناك.
2ـ وإما أن يكون ظاهر ما نطق به الشرع مخالفا لما أدى إليه النظر البرهاني العقلي. وفي هذه الحالة علينا أن نؤول ما ورد به ظاهر الشرع " ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي تحددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
لا تكفير في الإجماع
فإن اعترض معترض بأنه لا يجوز التأويل في ما أجمع عليه المسلمون، رد ابن رشد بقوله أنه لا يوجد إجماع يقيني لا في الأمور العملية ـ ولا ـ وبالأحرى ـ في الأمور النظرية. وأبو حامد الغزالي نفسه وأبو المعالي عبد الملك الجويني (إمام الحرمين) لم يقطعا بكفر من خرق الإجماع في التأويل.
فإن رد عليه بأن الغزالي قد قطع بتكفير أبي نصر الفارابي وابن سينا وفلاسفة الإسلام في كتابه (التهافت) في ثلاث مسائل: (1) في القول بقدم العالم، (2) وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، (3) وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد. أجاب ابن رشد: " الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياها في ذلك قطعا، إذ صرح في كتاب (التفرقة) أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال.
حق الراسخين في العلم : في التأويل
يقف ابن رشد عند الآية المشهورة (والراسخون في العلم) آل عمران7، فيقول: إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به ما لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان.
براهين وجود الله
يرجع ابن رشد في إثبات وجود الله بالبراهين الى اثنين: برهان مأخوذ من العناية الإلهية بالعالم وبرهان مأخوذ من الخلق. وهو يفضل البرهان بالحركة، وينقد سائر البراهين، فيقول : بعلوم الطبيعة، إن كل شيء متحرك لا بد له من محرك، فإن كان المحرك يتحرك تارة ويتوقف تارة، فنستعين بمحرك آخر، ولكن يبقى باستمرار المحرك أو القوة الأكبر والأقدم.
ابن رشد والسياسة
كان المهتمون يظنون ـ خطأ ـ أن هناك كتاب اسمه الجمهورية لابن رشد، يشرح وينقد فيه جمهورية أفلاطون، ولكن ـ مع الأسف ـ لقد كان الكتاب اسمه (السياسة) وهو يتناول فيه ما قرأ عن فلاسفة اليونان والرومان عن السياسة ونقدها كما اعتمد على كتب الفارابي الذي يلخص فيه (جالينوس)، وهذا الكتاب كان في مكتبة (الإسكوريال) حتى عام 1671 حينما احترقت، وكان المهتمون قد نقلوا الفهارس خطأ عندما نسبوا ذلك الكتاب لأفلاطون وأطلقوا عليه اسم (الجمهورية) في حين هو لابن رشد واسمه (السياسة) وهو لا يقيم فيه وزنا لآراء أفلاطون.
هامش
من موسوعة الفلسفة/ الجزء الأول/ عبد الرحمن بدوي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر./ الطبعة الأولى 1984/ الصفحات 19ـ 39 تم اختصار الموضوع وصياغته بالشكل الذي قدمناه.