قصة " ربـــــيـع الـــــغضب"


"نـــــحن نــــحمل العلامةالتي لا يحمــلها إلا من هم على شاكلتنا الموعودون بالـــــــغربة الأبـــــدية"
الراوي.

نظر اليه ابنه وهو يحمل حقائبه،ويرتب ملابسه،التصق به باكيا وقال له:
ـ بابا أمسافر أنت؟
أجابه:
ـ نعم يا بني.
ـ الى أين؟
ـ ايطاليا.
ـ هل ستطول غيبتك يا ابي؟
ـ قليلا يا بني لا تقلق سأعمل في مؤسسة عربية للصحافة والنشر،وريثما أستقر ستلتحق بي أنت وأمك.
ـ ولماذا لا تعمل هنا يا ابي فمؤسسات النشر كثيرة في بلادنا.
ـ ذاك موضوع اخر لا نريد الخوض فيه يابني.
ـ أنت تهرب يا أبي من الوطن الجميل.
ـ هو فعلا وطن جميل يا بني، لكن الوقت الان لا يسمح بالكلام عن الجمال والقبح.
ـ أريدك ان تبقى بالقرب منا يا أبي.
ـ القرب والعاطفة لا يفيدان يا بني فأنا مهاجر من أجل ضمان مستبقبلك ومستقبل أمك.
ـ ولكن بابا.
ـ أنت الان لا تعرف يابني وحين تكبر وتنضج سوف تعرف كل شيء.
لم يصدق آدم هذا الكلام خاف أن يكون الرحيل لسبب آخر غير العمل.
امتدت يد أدم الى أبيه،أمسك بقوة على يدي ابيه رجاه ألا يذهب فهو في حاجة إليه.
نظر الأب نظرة حنان ممزوجة بحزن دفين،أخذ وجه الصغير بين راحتيه وقبله قبلة طويلة،لم يستسغ آدم سر هذه القبلات المتكررة، ولكنه كان يغهم بأن وراء العناق أشياء محيرة وغريبة غرابة الموقف.
لم يكن الأب هذه المرة قلقا متوجسا كما في السابق بل كانت السعادة تعلو محياه وعلى شفتيه ووجنيته ارتسمت علامات حماس زائد وتفاؤل غير معهود.
رآى في صراخ ابنه ادم وتعلقه به أمرا منطقيا وسلوكا مقبولا،فآدم قد ذاق مرارة الفراق وهو جنين في الشهر الرابع في بطن أمه،حين اعتقل أبوه وأخذوه الى سجن كئيب وموحش.
عاشت أمه الويلات،ومرضت جدته مرضا الزمها الفراش،عاين حزن جده وغضب عمته حياة وعميه جمال ومحمد وهم يترقبون عودة ابيه الذين أخذوه الى معتقل بعيد.
أمه هند حكت له كل شيء،قصت عليه قصة الاب الشجاع الذي لم يخش في الحق لومة لا ئم.
ما تزال الرسائل التي كتبها لأهل الحال وأصحاب الوقت مندسة في ريبرتوار حاسوبه،وما تزال المقالات الهوجاء التي نشرها في أكثر من جريدة مشهورة رابضة في خزانة كتبه ،وماتزال صور اعتصاماته الفردية والجماعية أمام ادارات ومؤسسات الدولة شاهدة على نضاله ونبل قضيته،ألبوم الصور مليء بأحداث وقضايا سياسية وحقوقية ونقابية.
ازداد التصاق آدم بأبيه، كاد الموقف المؤثر يتحول الى مناحة،لكن الأب ركز النظر في عيونه ابنه وبلغة الحازم الواثق من اهمية هجرته قال له:
"اسمع يابني لا بكاء بعد اليوم،ولاحزن بعد اللحظة،عمك نور الدين الذي مات غدرا مقامه في الجنة مع النبيئين والشهداءوالصدقين،وأبوك الذي اعتقل وذاق أصناف المحنة عانق الحرية،والطغاة الذين تلذذوا باعتقاله سينالون جزاءهم في القريب العاجل،وعند ربهم يحتسبون،لاتذرف دمعا يا بني فأبوك مفخرة لهذا البلد وما عجز عن قوله الآخرون جهربه والعاقبة للمتقين.
ابوك يابني صمد في وجه الظلم،تحمل الألم لوحده قالوا عنه مخبر ومشبوه،وقالوا عنه بأنه يعمل لحساب جهات خارجية ويتقاضى أجرا كبيرا،انت وحدك يابني الذي تعرفني جيدا مع القليلين من الشرفاء في هذا البلد،أنت تعرف اني لا أملك سوى دراجة هوائية حقيرة سوداء اللون مثل قلبي الحزين والكئيب،لم استطع تغييرها او استبدالها بدراجة أخرى لأنني لا أملك فلسا واحدا،الكثيرون قالوا ارم عنك هذه الدراجة انها لا تليق بك ،انها تشبه دراجات البؤساء والمتسولين،صدقوا يابني ،يقولون هذا الكلام بعظمة لسانهم،ولكن من اين لي بشراء دراجة وأنا لا أملك غير هذا القلم الذي لا يغني ولا يسمن من جوع؟
قلت لهم وانا في قمة الغضب:
ـ ايها القوادون لو كنت مخبرا لكنت أمتلك سيارة كاديلاك او روي رويس او كاط كاط،كفاكم لغطا وقذفا ايها الجبناء الخسيبسون،كفاكم مؤامرات ونشر الأكاذيب،قولوا كلمة حق نظيفة ولو مرة واحدة في حياتكم،أنتم الذي تدعون انكم تنتمون لأكبر حزب سياسي بالبلد تخافون من خيالكم، ترعبكم الأصفاد وصرير الأقفال،تخفون رؤوسكم في الرمال كالنعامة،جبناء كلكم من طينة الطعان اللعان البذي الفاحش.
اقترب آدم من أبيه وطبع على جبينه قبلة حارة صادقة فهو لأول مرة يسمع كلاما كبيرا وخطيرا من شفتي أبيه،طوقه بكلتا يديه وقال له:
ـ لقد فهمتك يا أبي ..لن أبكي بعد اليوم فأنت رمز لي وسأفتخر بك امام زملائي في المدرسة،هم وآباؤهم يعرفون ان قلبك قلب أسد جسور،أعرف يا ابي لماذا يمتلك الكثيرون منهم سيارات فاخرة بالرغم من مستوياتهم الدراسية المتدينة،وأعرف لماذا لم يذهب جدي وجدتي للحج وذهبت جداتهم واجدادهم ؟واعرف لماذا يصمتون في المواقف التي تستدعي الكلام؟
سافر يا أبي ...وسنكون جميعا ان شاء الله في الموعد.
لم يكن ادم يعرف قبل هذا التصريح والاعتراف من أبيه ما السياسة؟ وما السجن؟ والمؤامرة؟ وما المحاكمة؟ وما الزنزانة؟
ابوه وحده اكتوى بنار الزبانية.
مايزال الأب يتذكر لما وضعوا الأصفاد في يديه وأخذوه الى مزابلهم المتسخة المليئة بالقمل والبرغوث.
مايزال صرير الاقفال اللعينة يطن في أذنيه في كل لحظة وثانية.
أولاد الكلب صنعوا هذه الجدران المنيعة ليرسلوا اليها كل من حاول تهديد مصالحهم وطالبهم بتطبيق العدل والإنصاف.
أولاد الزنى يختبئون في مكاتبهم المريحة والدافية ويكتفون بإصدار التعليمات والأوامر لكلابهم بأن تنهش اول مطالب بالخبز والعمل والسكن والعيش الكريم وتحقيق الديموقراطية.
بعد صمت قصير تغيرت ملامح آدم أحس أن شيئا بداخله يكبر دفعة واحدة،خيل أنه يرى نورا متوهجا يكتسح جبال الاطلس المقابلة لمسكن أبويه،رآى الاشجار تتمايل مغنية تشدو لحن الإنتصار،شاهد الأحجار والجدران تتكلم معلنة بدء عهد الحرية والانفتاح،شاهد بأم عينيه موت الغربان والأفاعي الرقطاء،رأى أسرابا من الحساسين والشحارير وهي تغني للديموقراطية وحقوق الإنسان.
ادم لم يسمع من قبل كلة" الديموقراطية" لكنه رآها مكتوبة هذه المرة على أجنحة الطائر الدوري والدجاج والديك الرومي،رآى اعلاما ورايات تكبر وتكبروتنحني حبا للمدينة والوطن.
رآى الوطن الذي حدثته عنه أبوه يكبر ويكبر ويتلألأ بمساحات الحب والوفاء والإخلاص.
شاهد مجوعة من شهداء هذا الوطن يحملون سيوفا ،ويقطعون بها أعناق الطغاة والجبابرة،ورآى السفاحين والقتلة يتحولون الى صراصيروفئران،بأم عينيه رآى الأطفال يحملون العصي والحجارة وينهالون بها على رؤوس الكائنات القزمية الممسوخة،وفي عز رؤيته امتدت يد حانية تربت على كتفيه،ماكان يعرف اليد لولا الخاتم الذهبي المثبت في الخنصر،عرفه حق المعرفة فهولأمه،وفي لحظة تفكيره دست في يده مذكرات كان أبوه قد كتبها فتحها وقرأ.
" إن أتتك المحن من كل جانب فاصبر صبر أيوب،وان صوبت فوهات الحقد من ظالم منتقم فواجه ظلمه بالصمت حتى يقضي ربك أمرا كان مفعولا،وإن سددت رماح الغدر الى صدرك فتجنبها قدر الإمكان،واترك بينك وبين أعداءك مسافة حتى تعرف موقع قدميك وان اقبلت رياح الشركي من الفوق فابحث عن ريح الصبا من الأسفل...وخير طريقة للدفاع هي الهجوم،فالمنتصر مغلوب بابتسامة المنهزم،وإن ثقلت الأهوال واشتد النفير فانزل عداد مواجهتك واكظم غضبك،واتخذ لنفسك هدنة حتى ترى العلامة ،وان رأيت الإشارة فاعلم ان شارات النصر مقبلة ساعتها ازحف عليهم بكل ماتملك من عدة وعدة،فالقوة في صمود الجنان،وغلبة الإيمان،وان زحفت للأمام لا تلتفت للوراء،لا يغرنك فرح المجرمين الظالمين واقرأقوله تعالى:" حتى إذا فرحوا بما اوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"
تابع قراءة المذكرات فوجد أباه قد انتقى هذه الأبيات ودونها:
لكل شيء من الأشياء ميقات * والأمر فيه أخي محو وإثبات
لا تزعجن لأمر قد دهيت به * فقد أتانا بيسر العسر آيات
ورب ذي كربة بانت مضرتها * تبدو وباطنها فيه المسرات
وكم مهان عيان الناس تشنؤه * من الهواء تغشته الكرامات
هذا الذي ناله كرب وكابده * ضر وحلت به في الوقت آفات
وفرق الدهر منه شمل ألفته * فلهم بعد طول الجمع أشتات
أعطاه مولاه خيرا ثم جاء بهم * وفي الجميع الى المولى اشارات
سبحان من عمت الاكوان قدرته * وأخبرت بتدانيه الدلالات.
فهو القريب ولكن لا يكفيه * عقل وليست تدانيه المسافات.
أغلق المذكرات،ونظر الى ابيه نظرة إكبار وإجلال،قال له:
سافر ففي السفر سبع فوائد،وثامنها أنني لاحق بك وأمي،علت وجهه فرحة عارمة وتذكر لما كان صغيرا حين كان أبوه يحمله على قفاه وهو يردد" ابي انظر انه الجبل" كان يعلم ان اباه يرى فيه نفس الطموح،او لم يقولوا" ذلك الغصن من تلك الشجرة"
قبل اباه وامسك بيد امه واعدا اياها بمواصلة رحلة الخير لكن هناك في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.