لغة "أكلوني البراغيث"

هي لغة بني الحارث بن كعب (أو بلحارث) وطيء وأزد شنوءة من قبائل العرب، وهي قليلة الاستخدام، وصفها بعض النحاة بالرداءة لخروجها على ما نطق به الجمهور. وفي هذا مبالغة لأنها إن كانت لغة (بمعنى لهجة) فاللهجات لا يفضل بعضها بعضاً إلا لأسباب خارجة عن اللغة الصرفة. ومن ثم فهي لهجة فصيحة صحيحة وإن لم تكن بمثل انتشار غيرها من اللهجات التي يعدها الكثيرون أكثر فصاحة لمنا سبتها ذوقهم وحسهم اللغوي. ومع هذا فإن لها من الشواهد عدداً لا بأس به. بل من تلك الشواهد ما جاء به القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان من النحاة من أوَّل ما جاء بالقرآن الكريم والحديث الشريف تأويلاً يبعد بهما عن لغة "أكلوني البراغيث".

ويطلق النحاة على هذه اللغة اسماً آخر هو أكثر قبولاً وهو لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار" كما ورد عند أبي مالك. وهذا الاسم مأخوذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيرد ذكره.

ومفاد هذه اللغة إلحاق علامة بالفعل تفيد المثنى أو الجمع. (كأن نقول ذهبا الولدان ، وذهبوا الأولاد) فهنا نرى علامة المثنى ألف الاثنين، وعلامة الجمع واو الجماعة)

ويرى النحويون يرون أنه لا يصح أن يكون في الجملة الفعلية الواحدة إلا فاعلٌ واحد. وهذا هو الحكم العام بمعنى أنه إذا جاء الفعل وبعده فاعل فالأصل أن يفرد ذلك الفعل لفاعله فنقول "أكلتني البراغيث"، ولا نحتاج إلى ضمير يشير إلى البراغيث قبلها. أي إذا نظرنا إلى إعراب جملة "أكلتني البراغيث" وجدنا أن البراغيث فاعلاً، أما أكلوني البراغيث، فالفاعل هنا هو الضمير واو الجماعة، وهو الفاعل الأول. أما البراغيث فهو فاعل ثان، ولا يصح احتواء الجملة الفعلية الواحدة على أكثر من فاعل واحد.
وفي هذا يقول ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسند لاثنين أو جمع كفاز الشُّهدا

أي اجعل الفعل مجرداً (مفرداً) إذا أسندته لمثنى أو جمع، فقل "فاز الشهداء"، ولا تقل "فازا الشهيدان" أو "فازوا الشهداء".

وشرح هذا مفصلاً أنه في حالة جاء الفاعل مثنى أو جمعاً ينبغي ساعتها أن يكون الفعل مفرداً حتى لا يكون له إلا فاعل واحد فقط. فنقول ذهب الولدان، أو ذهب الأولاد تماماً مثاما نقول ذهب الولد. فلا نقول ذهبا الولدان، ولا ذهبوا الأولاد،كما أسلفت عاليه.

ومن شواهد هذه اللغة: قول القائل
تولى قتال المارقين بنفسه وقد أسلماه مبعد وحميم

فنجد الفعل أسلماه يشير إلى المثنى بعده وهو قوله "مبعد وحميم" فألِف أسلماه حرف يدل على الفاعليْن الاثنين، ومبعدٌ فاعل وحميمٌ معطوف عليه. أي ألف الاثنين فاعل ومبعد فاعل ثانٍ.

وقول عمرو بن ملقط الجاهلي شاعر طيئ
أُلفِيَتا عيناك عند القفا أولى فأولى لك ذا واقية
ولم يقل "ألفيت).

وكذا قول غيره:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر
ولم يقل "رأت الغواني".

وقول غيره:
يلومونني في اشتراء النخيل أهلي فكلهم يعذل
ولم يقل: "يلومني أهلي."

وفي قوله تعالى في سورة الأنبياء الآية الثالثة:
"لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
فنجد (وَأَسَرُّواْ .... الَّذِينَ) ولم يقل جلَّ شأنه "وأسرَّ الذين)

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار)
ولم يقل: "يتعاقب فيكم".

أما من أوَّل الآية والحديث فقال: إن فاعل (وَأَسَرُّواْ) واو الجماعة ويعود على (الناس) في أول السورة.
أما كلمة (الَّذِينَ) فهي فاعل (قال) المحذوفة. وقد جرى أسلوب القرآن الكريم على حذف فعل القول اكتفاء بإثبات المقول في مواضع عدة. أما الحديث فتأويله أن أوله: "إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل.. الحديث".
وهناك شواهد غير ذلك نقتطف منها ما يلي:
يقول وائل بن حجر واصفاً سجود النبي صلى الله عليه وسلم: ""ووقعتا ركبتاه قبل أن تقع كفاه".

ويقول أبو نواس:
"وَكَأَنَّ سُعدى إِذ تُوَدِّعُنا وَقَدِ اِشرَأَبَّ الدَمعُ أَن يَكِفا
رَشَأٌ تَواصَينَ القِيـانُ بِهِ حَتّى عَقَدنَ بِأُذنِهِ شَنَفـا"

ويقول الشريف الرضي:
نَهَضتُ وَقَد قَعَدنَ بِيَ اللَيالي --- فَلا خَيلٌ أَعَنَّ وَلا رِكابُ

ويقول غيره
يلومونني في اشتراء النخيـلِ أهلي وكلهم ألومُ

ويقول غيره:
بَلْ نَالَ النِّضَال دُون الْمَسَاعِي --- فَاهْتَدَيْنَ النِّبَال لِلأَغْرَاضِ

ويقول آخَر:
وَلَكِنْ دِيَافِيّ أَبُوهُ وَأُمّه --- بحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيط أَقَارِبه

ويقول سيبويه: "وأعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التي يظهرونها في: قالت، فكأنّهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامة كما جعلوا للمؤنث علامة". انتهى.

هذا فضلاً عن وجود شواهد أخرى في غير العربية كالسريانية أو الآرامية. وقد امتد تأثير هذه اللغة إلى أن أصبحت جزءاً من اللغة اليومية في عدد من البلدان العربية في اللهجات الحديثة، فنجدها في بلدان المغرب والمشرق العربيين، وكذا الأردن، والعراق. إذ يتم إلحاق علامة بالفعل تدل على عدم إفراد الفاعلين سواء كان الفاعل متقدماً على الفعل أم كان متأخراً. فنج من يقولون: ذهبوا الأولاد، وحضروا الضيوف. ويظهر هذا في الأغاني أيضاً، ومن ذلك "سألوني الناس" (فيروز) ، و"ظلموني الناس" (أم كلثوم). وإن كان لا يجوز القياس على العامية والأغاني إلا أن المقصود هو امتداد تأثير هذه اللهجة العربية إلى لغة الحديث اليومية المتداولة في العصر الحديث.


د.الليثي

أخي الحبيب الدكتور أحمد،
مقالة جامعة ماتعة في لغة "أكلوني البراغيث"، شكر الله لك كتابتها.
وكنت وضعت حاشية في هذه اللغة في اللغات السامية أنقلها إلى هنا علها تضيء الموضوع من جانب آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حاشية في لغة "أكلوني البراغيث"!

إن لغة "أكلوني البراغيث" هي القاعدة المطردة في إسناد الفعل إلى الفاعل في اللغات السامية. وكانت العربية عطلتها لالتقاء الفاعِلَيْن، وهو تطور لغوي مخصوص بالعربية دون سائر الساميات.
مثال عن ذلك في عبرية التوراة:
قال في سفر التكوين، الإصحاح العشرين، الآية الثالثة عشرة، والكلام في الآية منسوب إلى إبراهيم الخليل عليه السلام في حديثه مع أبي مالك بشأن زوجته سارة:
טג וַיְהִי כַּאֲשֶׁר הִתְעוּ אתִי* אֱלהִים מִבֵּית אָבִי, וָאמַר לָהּ, זֶה חַסְדֵּךְ אֲשֶׁר תַּעֲשִׂי עִמָּדִי: אֶל כָּל-הַמָּקוֹם אֲשֶׁר נָבוֹא שָׁמָּה, אִמְרִי-לִי אָחִי הוּא.
النقحرة: وَيْهِي كَأَشِر هِتْعوا أوتي إلُوهِيم مِبَيْت أبي، وَأُومِر لَهْ زِه حَسْدِيك أَشِر تَعَسِي عِمَّدي: إِلْ كُلْ هَمَّقُوم أَشِر نَبُوء شَمَّه، إِمْري لي: أَخِي هُو.
الترجمة الحرفية: "13. وكان عندما أتاهوني الآلهة من بيت أبي أن قلت لها: هذا معروفك الذي تصنعين إلي في كل مكان ندخله: قولي عني هو أخي".
فورد الفعل هِتْعوا (= أتاهوا) بصيغة جمع المذكر الغائب لأن الفاعل هو إلوهيم جمع /إِلُوَه/ "إله".
ــــــــــــــــــــــــ
* أوتي = إياي. إن الحرف את أداة نصب في العبرية ترد قبل المفعول به، وتجانس في العربية أداة النصب (أو ضمير النصب) "إي" في "إيّاك نعبد وإياك نستعين الآية"، مع فارق أنها لا تأتي في العربية إلا مع ضمائر النصب التي تكون بدلاً من الاسم المنصوب لتوكيده، بينما تستعمل في العبرية مع الضمائر: (א(ו)תנו = إيانا)، ومع الاسم المفعول به كما نقرأ في الآية الأولى من سفر التكوين: (בראשית ברא אלהים את־השמים ואת־הארץ: بِرِشِيت بَرَأ إِلُوهِيم إِتْ هاشَّمايْم وِإِتْ هاإِرِصْ "في البدء /خلقَ اللهُ السماوات والأرض"). فالمفعولان بهما (هاشمايم "السماوات" وهاأرص "الأرض") مسبوقان بأداة النصب את.

د.سليمان


بارك الله فيك يا د. أحمد على هذه القالة الجامعة و المفيدة
أما لغة أكلوني البراغيث فإنه لا يعتد بها و إن كان لها شواهد كما ذكرت في المقال
و لهذا فقد نزل القرآن الكريم بلغة ( لهجة ) قريش أكثر العرب فصاحة
جزاك الله خيرا
و جعل ما تكتب في ميزان حسناتك
محبتي و تقديري




جمال مرسي
أخي الدكتور جمال
شكر الله مرورك وتعليقك.
وأتفق معك على أن القرآن نزل وكُتب بلسان قريش (الحقيقة هذا جزء من تخصصي)، وأتفق معك أن قريشاً كانت أفصح العرب، بشهادة العرب أنفسهم. والشواهد كثيرة كما تعلم.

ولكنني حرت في فهم قولك "أما لغة أكلوني البراغيث فإنه لا يعتد بها". وزاد من حيرتي ما ورد بتعليلك، فلم أدرك ما تقصده تماماً. فالقرآن الكريم يشتمل في آياته على عدد من اللهجات العربية منها "لغة أكلوني البراغيث" في قوله تعالى في سورة الأنبياء الآية الثالثة:
"لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
فنجد (وَأَسَرُّواْ .... الَّذِينَ) ولم يقل جلَّ شأنه "وأسرَّ الذين).

ولكن المسألة هي أن "أكلوني البراغيث" لغة من لغات عدة لم تحظ بنفس القدر من الانتشار والاستعمال، ومن ثم لم تصبح قياسية الاستخدام، ولكن هذا لا ينفي وجودها بالطبع كما هو معروف في علم اللهجات. بل إن قريش نفسها استخدمتها أحيانا، كما استخدمت غيرها من اللهجات في بعض من "لغتها"، ولا يمنع هذا من أن تكون تلك الاستخدامات مردودة في أصلها إلى غير قريش. فاللغة كما تعرف تستقي مفرداتها وقواعدها وأصواتها من مجموع المتحدثين بها حسبما يقتضيه العرف اللغوي.

ومسـاؤك سكر.
(أرأيت لقد استعرت من "لغتك" تحيتك السكرية هههههههه)


د.الليثي