أولاً: المفاهيم الأساسية:
السيبرنتيك كلمة جديدة ظهرت بمعناها الحالي في سنة 1948 م عن طريق العالم الأمريكي نوربرت فينر Norbert Weiner بكتابه الأول " السيبرنتيك " أو التحكم والاتصالات في الكائن الحي وفي الآلة
"Cyberneties of the science of control and communication processes in both Animal and machine"
لقد استوحى فينر هذه الكلمة من اللغة اليونانية من كلمة Kubernetes أي القيادة وكان يقصد بها قيادة الربان للسفينة وقد استخدمت هذه الكلمة سابقاً من قبل الفيلسوف اليوناني أفلاطون أثناء محاوراته عن فن قيادة السفينة وكما استخدمها العالم أمبير عام 1834 م عند تصنيفه للعلوم السياسية.
السيبرنتيك في العصر الحالي هو فكر جديد ونظرية شاملة فلسفية وعلمية دخلت العصر منذ فترة وجيزة واستطاعت أن تكون في كل كتاب علمي أو تقني أو فلسفي واستطاعت أيضاً أن تكون مجال الحوار الأول بين كل علماء الفلسفة والرياضة والذرة والفيزيولوجيا والاقتصاد والحرب إلخ … أي أنها أصبحت لغة و( موضة ) العصر الحالي.
لكل ما تقدم سنجيب عن السؤال التالي وهو ماذا عنى العالم فينر بها وكيف نشأ هذا المفهوم ؟ بالحقيقة السيبرنيتك في مفهومها الحاضر وجد منذ بدء الخليقة لأن الكائن الحي كان دائماً يسعى إلى تحسين أحواله الذاتية باستخدامه للفكر في أعماله أو كما نقول باستخدامه للتفكير المنطقي الهادف لإيجاد الأدوات والأجهزة لتحسين ظروف عمله وللإقلال من المجهود الواجب بذله للوصول إلى هدفه مع السعي إلى الإقلال من أخطار العمل والحياة إذن يمكن كبداية تعريف السيبرنتيك بأنها المحاكاة المنطقية بين الإنسان ووسطه لنوصل إلى هدف معين ومرسوم يمكن من بذل مجهود أقل للحصول على نتائج أفضل.
هكذا إذن بدأت السيبرنيتية ( علم السيبرنتيك) باستعاضة الإنسان بالآلة في كثير من الأعمال وخاصة الخطرة والمجهدة منها والتي تحتاج إلى قوى كبيرة ولو استعرضنا تاريخ التطور لرأينا أن الإنسان ممثلاً بفلاسفته وحكمائه قد حاول دائماً السعي للحصول على آلات متقدمة ومتطورة حتى أحياناً بمخيلته وتصوراته والتي كانت في عصره عبارة عن معجزات لأنها كانت فوق طاقته وليس البساط الطائر في قصص ألف ليلة وليلة وطائرة ليوناردو دافنشي إلا أمثالاً على ذلك.
لقد كان للحروب أثر فعال وأساسي في تطوير الإنسان للآلة وفي عمله الدءوب لتحسين الآلة أو لإيجاد الآلة التي تقيه خطر الموت وتدافع عنه ومن ثم إيجاد الآلة التي تحارب عنه وبنظرة سريعة ترى أن جل الاختراعات وأفضلها كانت وما تزال تنطلق من المجال العسكري.
لقد كانت الحرب العالمية الثانية بدء ونقطة تحول في التوسع السريع لكثير من العلوم التقنية التي ساعدت في تحسين الآلة واستخدامها بشكل متطور ونخص بالذكر هنا العلوم الإلكترونية التي أوجدت الكثير من الحلول لكثير من المشاكل وخاصة بالنسبة للسرعة في التنفيذ وفي نقل المعلومات والإجابة على المعطيات بعكس الآلات الميكانيكية التي كانت بطيئة جداً في توفير الحلول اللازمة.
وبالعودة إلى كتاب العالم فينر عن السيبرنتيك وكونها المجال الكامل لنظرية التحكم والاتصال في الآلة وفي الحيوان على السواء نرى أن السيبرنيتية ليست سوى محصلة لتطور الآلة والإنسان عبر الزمن وسعي هذا الأخير إلى إيجاد آلات قادرة على محاكاته وأن تنوب عنه في عمله وعليه يمكننا القول بأن فينر استطاع الجمع بين علوم متعددة واستطاع أن يوجد الصلة بينها وخاصة المتعلقة بعلوم الوظائف وعلم النفس والاجتماع مع علوم التحكم والقيادة وذلك بعرضه لنظريات الفيزياء الحديثة كالميكانيكا الإحصائية ونظرية السلاسل الزمنية ونظرية الأعلام ونظرية المفعول الرجعي في الميكانيكا باعتبار أن ذلك مطابق لروح السيبرنتيك أي أن العالم فينر جمع تحت تسمية واحدة عدة مذاهب أصبحت راسخة الأساس و أثبت كل منها قيمته الفعالة في مجاله الخاص.

ثانياً: الفكرة السيبرنيتية في علوم الكائن الحي:
لو تابعنا مع العالم فينر نشأة ومضمون السيبرنيتية لتبين لنا أن فينر في كتابه الأول عندما عرض في مقدمته العلوم الفيزيائية والرياضية كانت هذه معدة لتفسير الظواهر الحياتية والنفسية الحياتية وحتى النفسية ذاتها والتي نلاحظها في الكائن الحي وإمكانية إيجاد الشبه بين هذه الكائنات موضوع المراقبة والمفاهيم التي تدور حولها مثلاً:
بنية عناصر الجهاز العصبي في الإنسان وذاكرات بعض الآلات الإلكترونية الحاسبة هي بشكل حلقات مغلقة تكون دارات تحكم ومنها استنتج أن حلقات الجهاز العصبي هي مركز ذاكرة الإنسان.
بنية قاع البطين الرابع في الدماغ وبنية آلة معدة للتعرف إلى شكل الأحرف الطباعية أياً كان بروزها وأياً كان حجمها ومنها استنتج طريقة تكون مفهوم الشكل في الدماغ.
بعض حالات الشفاء تتم عن طريق الصدمة الكهربائية وكذلك لإصلاح بعض الأعطال في الآلات الحاسبة يتم عن طريق تحريضات ترسل كيفياً واستنتج منها وجه الشبه بين حلقات الآلة الحاسبة وحلقات الدماغ.
من كل ذلك خلص فينر إلى القول " أن هناك مبدأً واحداً موحداً لعمل الكائن الحي وعمل الآلات إذا كان هذا العمل هادفاً " هذا المبدأ أسماه السيبرنتيك أو القيادة والاتصالات في الكائن الحي وفي الآلة.
نرى مما ورد أن السيبرنيتية ليست سوى علم محاكاة الكائن الحي بالآلة وعلم كيفية نقل المعلومات بين أعضائه الفكرية والحسية ومحاكاتها عند الآلات التي تقوم بوظائف هذه الأعضاء الفكرية والحسية ومنه السيبرنيتية تعتمد و بشكل أساسي على نظرية الأعلام ونقل المعلومات والتي وضعها العالم " شانون " Shanon 1949م وأن السيبرنيتية ليست سوى واسطة التعميم للنظريات التي تصح في أعضاء الآلات على سلوك الكائنات الحية وخاصة الإنسان وعلى مجتمعات الكائنات الحية وخاصة البشرية.

ثالثاً: الفكر السيبرنيتي ومفهوم المفعول الرجعي وما وراء الطبيعة:
إن مفهوم المفعول الرجعي Feedback system هو الذي يوعز الفرصة بين الآلة والكائن الحي والمفعول الرجعي مفهوم واضح ودقيق في تقنية ضبط الآلات عندما نطبق على نظام آلي بعض الأعمال الفيزيائية المحسوبة بحيث تأتي بنتيجة مطلوبة ولا تمكننا شوائب الحساب أو شوائب التحقيقات المادية من الحصول على نتيجة مقاربة نقيس الفرق بين النتيجة المطلوبة والنتيجة الحاصلة ومن ثم نحسب التعديلات الواجب إدخالها على الأعمال الفيزيائية التي طبقناها على النظام لنزيل هذا الفرق ونحمل النظام على أن يؤثر على ذاته.
إننا نستطيع أن نكتشف مفعولات رجعية في جميع تصرفات الكائنات الحية الحسية منها والنفسية حتى أن بعضهم اكتشف مفعولات رجعية في تصرفات الألوهية مما دعا فينر إلى إيجاد فلسفة جديدة تبعد عن نفسها كل ما هو معتقد في الألوهية أو المادية وتعتمد أصلاً على الإعلام والقيادة وقد كان لهذه الفلسفة صدىً كبيراً في العالم وكانت موضع نقاش وجدل كبيرين فمنهم من برهن على أن السيبرنتيك هو علم البرهنة على وجود الله ومنهم من رأى فيه علم المادة لن نخوض في هذا المجال أكثر من ذلك لأنه ليس موضوع بحثنا ونكتفي بالقول بأن فينر رفض كل مفهوم مسبق فيزيائي أو ميتا فيزيائي ووضع قوانين وأصولاً لفلسفة جديدة تعتمد على الإعلام والقيادة.

رابعاً: تعاريف السيبرنتيك:
بعد هذه المقدمة ونظراً لتشعب المجالات التي تدخل السيبرنتيك فيها كثرت تعاريفها وتعددت حسب نوع العلم الذي مثلاً لقد عرفها العالم " لوب كوفينال " L.Covinal في كتابه "السيبرنتيك" بأن الفكر السيبرنتيكي يتميز بهدفه و نهجه:
الهدف هو فعالية قيادة وتوجيه الفعل.
المنهج هو الاستبدال التماثلي الذي يسمح بصنع نماذج فيزيائية تمثل بعض الوظائف العقلية التي تبين بالتحليل أنها وظائف آلية يمكن مكننتها إذ أنه يمكن صنع نماذج تمثل الغريزة والتعلم والتصرف حسب سلوك الوسط الخارجي والتخيل كما أن الفعل الرجعي هو أساس هذه النماذج في أكثر الوظائف العقلية.
وعرضها اوديل دافيد O.David بأنها التوضيح الكامل والجوهري للفكر الخاضع لهدف منها وعرفها براي والتر B.Walter بأنها علم الآلات العقلية وعرفها بول وايت P.Waet بأنها علم العضويات المستقل عن الطبيعة الفيزيائية لهذه العضويات والعضويات هنا هي كافة المنظومات التي تستطيع أن تنظم ذاتها مع الزمن.

خامساً: مقومات السيبرنتيك:
مما تقدم نرى أنه من الصعب في بحث واحد الإلمام بكل جوانب السيبرنيتية وبكل تطبيقاتها في شتى العلوم لذلك سنركز هنا على بعض المقومات العلمية و الأساسية التي يقوم عليها هذا العلم.
فهمت السيبرنيتية على أنها واسطة لتعميم النظريات التي تصح في أعضاء الآلات على سلوك الكائنات الحية لذلك فإن مفهوم القيادة والتحكم الذي يصح في أجزاء الآلات هو نفس مفهوم القيادة في المجتمعات البشرية وخاصة عندما عبر عنها بكلمة حكومة عند هذا المفهوم يجب أن نقف قليلاً لأننا إذا ما انطلقنا من الآلات فقط لن نرى في الإنسان إلا ما هو آلي مع أن للإنسان صفات يختص بها ولا نجد في الكائنات الأخرى وفي الآلات وأهم هذه الصفات قدرته على تكوين صور مجردة للعالم المحسوس الذي يحيط به وتنظيم نشاطه عن طريق هذه الصور وإذا ما أردنا إدراك الإنسان الكامل لابد من أن نضطر للعودة إلى موقف لا ورائي ميتا فيزيقي لا يصلح أن يكون أساساً لمذهب موضوعي إذن نرى أن الأفضل هو عكس الاتجاه في البحث أي أن ننطلق من الإنسان لأن دراسة الإنسان يمكن أن تقودنا إلى مفاهيم عامة صالحة للإنسان والآلات على السواء.
لتبسيط الموضوع ولعدم الخوض في تعاريف مقومات السيبرنتيك لأن في ذلك سيؤدي إلى توسع كبير تقني و فلسفي نكتفي بشرح هذه المقومات على دارات التحكم الآلي التي نجدها برهاناً على تطور واسع في عرض الآلية وبرهاناً على السيبرنتيك الذي استخدم بأوسع أبوابه في نظريات الآلات التلقائية.
لإيجاد وجه الشبه هذا نرسم الشكل (1) الذي يبين دارة تحكم غير آلية في جسم ما ( آلة ): ناقل – عنبر – مصنع – وحدة نقل … الخ إن القائد والحكم بالعمل هو الإنسان أو الضابط للمسيرة التكنولوجية.


منقول للفائدة