البحيرة

للشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869)
نقلها إلى العربيّة سعيد محمد الجندوبي

عندما كتب لامارتين "البحيرة"، كانت حبيبته جولي لا تزال على قيد الحياة، وإنّما أجبرها مرضها القاتل على ملازمة باريس. كان الشاعر إذًا وحيدا، في مكان لقائهما المفضّل، وكان مشهد "بحيرة البورجيه" يبعث في نفسه شعورا بالحنين، وكذلك صورا من ذكريات سعادته المهدّدة. وهذا ما حدى به للتعبير عن قلقه وخوفه أمام "هروب الزمن"، وكذلك عن رغبته الجامحة في تخليد حبّه، على الأقل بالذكرى. فالقصيدة إذًا مرتبطة بأحداث محدّدة. ومع هذا فلامارتين يتحدّث بلغة صادقة و موغلة في الإنسانيّة، بحيث غدت "البحيرة" قصيدة خالدة، تتناول مسألة قلق الإنسان أمام القدر، وكذلك شوقه لسعادة وحبّ سمتهما الدوام والخلود.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

وتلك الأيّام، تلقي بنا دوما نحو سواحل جديدة،
وفي الليل الأزلي تأخذنا بدون رجعة،
فهل يمكننا يوما، على سطح محيط العصور
حطّ الرحال ولو ليوم؟

ألا يا بحيرة! ها هو العام قد ولّى،
وقرب الأمواج التي نعشق والتي كانت من جديد سَتَراها،
انظري! ها أنا اليوم جئت وحيدا، لأجلس على صخرة،
طالما رأيتِها جالسة فوقها!

كنتِ تعوين هكذا تحت هَذِي الصخور الغائرة؛
هكذا كنتِ تتحطّمين على أجنبها الممزّقة؛
هكذا كانت الريح تلقي بزبد موجاتك
على ساقيها المحبوبتان.

هل تذكرين ذات مساء؟ كان قاربنا يسير بصمت؛
ولم يكن يصلنا من بعيد، فوق الموج وتحت السماوات،
غير ضجّة المُجَدّفين، وهُم يقرعون بإيقاع،
أمواجك المنسجمة.

فجأة، لهجات تجهلها الأرض،
من الساحل المفتون، ضَربتْ بالأصداء
وأصغى الموج، ومن الصوت الذي أحبّه
تناثرت الكلمات:

"أيا دهر، رويدك! وأنتنّ، أيّتها الساعات المناسبات
قفن !
ولنهنأ بالملذّات السّرعَى
للأجمل من أيّامنا!

كُثْرٌ من هُم تعساء في هذي الأرض يستجدونك:
تدفّقْ، تدفّقْ، لهم؛
خذ مع أيّامهم مآسيهم التي باتت تنهشهم؛
وانسَ السعداء.

لكن، عبثا أسألك، من الزّمن المزيد
يفلت الوقت منّي، ويفرّ؛
أقول لهذه اللّيلة: "تمهّلي!"؛ فالفجر لا محالة
سيبدّد الظلام.

"فلنعشق إذًا! فلنعشق! ومن السّاعة الهاربة،
فلنعجّل، ولننعم!
ليس للإنسان مرفأ، ولا للزّمان ساحل؛
فالزمان يجري، ونحن نمرّ!"

ألا أيّها الدهر الحاسد، هل لساعات النشوة،
عندما يسقينا الحب السعادة بدون حساب،
أن تطير بعيدا عنّا، بسرعة
أيّام الشّقاء؟

ثمّ ماذا! هل لنا، على الأقلّ، تخليد أثرها؟
ماذا! انقضت إلى الأبد؟ ماذا! ضاعت كلّ تلك الساعات؟
هذا الدهر الّذي أوجدها، هذا الدّهر الّذي محاها،
أفَلن يعيدها لنا من جديد؟

أزل، عدم، ماض، لجج سحيقة،
ماذا تراكم تفعلون بالأيّام التي قد ابتلعتُم؟
تكلّموا! هل ستعيدون لنا تلك النّشَوَات العظيمة
الّتي قد خطفتم؟

أيا بحيرة! أيّتها الصّخور الصمّاء! أيّتها الكهوف! أيّتها الغابات الحالكات!
أنتنّ يا من يحافظ عليكنّ الزمان، أو من قد يعيد لكنّ الشباب،
احفظن من هذه اللّيلة، احفظي أيّتها الطبيعة الغنّاء،
على الأقلّ، الذكرى!

لِتكن في سكونكِ، لِتكن في عواصفكِ،
أيّتها البحيرة الجميلة! وفي منظر تلاّتك الضاحكات،
وفي صنوبركِ الدَّجِيّ، وفي صخرك المتوحّش،
وهُم في تدلٍّ فوق مياهكِ!

لِتكن في نسماتكِ المرتعشة وهيَ تمرُّ،
في أصداء ضفافكِ... بضفافك المكرّرة،
في النّجم ذو الجبين الفضّي يضيءُ سطحك
بأنواره المسترخية!

ولتقلِ الريح وهي تئنّ، والقصب المتنهّد،
وعبق ريحك العطر، اللّطيف،
وكلّ ما نسمع، ونرى، ونستنشق،
ليقل كلّ شيء: " لقد أحبّا!"