والنّخلة أرض عربيّة...
بقلم سعيد محمد الجندوبي

وصلتُ إلى باب النّخل
دخلتُ على النّخل...
فأعطتني إحدى النّخلات نشيجا عربيّا
وعرفتُ بأنّ النّخلة تعرفني..."
مظفّر النواب

إلى مظفّر النواب..
إلى بدر شاكر السيّاب..
إلى العراق...


حدائق فيلاّ بورقيزي, روما, صائفة سنة 2002

ككلّ خميس، غادرتُ شقّة السّيّدة روزانا بلاّلونا على السّاعة الثّانية بعد الزّوال. كان كلّ شيء على ما يرام. تناولتِ السّيّدة ذات الثّلاثة والسبعين خريفا الغداء وكذلك جرعة وبضعة حبّات من دوائها اليومي، ثمّ اصطحبتها نحو مكانها المفضّل، أريكة وثيرة قبالة التّلفاز. كان على مقربة من يدها اليمنى، طاولة صغيرة وُضع فوقها آخر ما أفرزته التّكنولوجيا الحديثة من وسائل اتصال بالعالم الخارجي: الهاتف، الرّموت كونترول، للتّنقّل عبر قنوات الشّاشة المتعدّدة، وكذلك زرّ أحمر يمكنها عند الضّغط عليه تنبيه رجال النّجدة، إذا ما اقتضى الأمر ذلك.

قبل مغادرة الشّقة، ألقيتُ نظرة أخيرة على المطبخ. كان كلّ شيء في مكانه. الصّحون مغسولة، وكذلك بقيّة الأواني. وحوض الإينوكس ينمّ بريقه على أعلى درجات النّظافة. أنا فخورة بنفسي اليوم...

في الشّارع الطّويل فيال ديلّونيفرسيتا، توقّفتُ برهة عن السّير أمام المحطّة تردّدتُ، هل أنتظر الباص؟ ربّما لعشرين دقيقة أخرى؟ ثمّ إنّه قد يأتي مكتظّا في هذه السّاعة من النّهار!... لا.. لا.. سأمشي... لا بدّ من الحفاظ على قوامي الرّشيق!

وهكذا انسابت رندة، عبر شوارع الأحياء الجنوبيّة لمدينة روما، تلك الشّوارع الأنيقة، العريضة، الهادئة. وما أن وصلت إلى مدخل الحديقة الضّخم، حتّى اتّجهت عبر طريق طويلة وملتوية إلى مكانها المفضّل: مقعد خشبيّ داكن الخضرة، يقع تحت شجرة زيزفون فارعة أغصانها، وارفة أوراقها، مغدقة بجانب وافر من ظلالها على البحيرة وقد انحت حتّى لنكأنها تكاد تلامسها.

خلعت رندة حذاءها ذي الكعب العالي، ومدّت ساقيها الطّويلتين إلى الأمام، وأرخت برأسها إلى الوراء، وكأنّها تتمطّى خفية. وضعت بجانبها على المقعد كتابا مغلقا، وأغمضت عينيها في لحظة استرخاء تسبق الغوص في بحر الحروف والكلمات. كانت بين الفينة والأخرى ترفع رأسها، لتتحرّر من عمليّة فكّ تلك الرّموز الصّغيرة السّوداء، فتضع الكتاب على صدرها وتترك لعينيها حرّيّة اللّعب مع أشعّة الشّمس الذّهبيّة المنعكسة على مياه البحيرة.

ثمّ إنّها لاحظت، خلال التفاتة عفويّة نحو الجانب الأيمن، وجود شابّ جالس مثلها على مقعد قبالة البحيرة، تفصله عنها بضعة أمتار. كان هو الآخر يمسك بكتاب؛ ولكنّ الذي استرعى انتباهها أنّه كان يسترق النّظر إليها. فكلّما توقّفت عن المطالعة، أغلق هو الآخر كتابه، وفعل ما كانت تفعله: تأمّل ذلك الامتداد المائي.

وبينما كانت رندا منغمسة في القراءة، غير آبهة لما حولها، أخرجتها نبرة رجاليّة من أحلام الكتاب. اقترب ذلك الشّاب منها وبغمغمة التّردّد والخجل ألقى عليها السّلام:
- "بُوُون دجيورنو سينيوريتا!
- بُووُن دجيورنو.
- هل يزعجكِ أن أجلس بجانبكِ؟"
ألقتْ إليه نظرة استغراب، أتبعتها ببسمة غامضة، ثمّ أفسحت له مكانا على المقعد قائلة:
- "لا! هذا لا يزعجني.. إنّه مقعد عمومي".

"تُرى ما حكمها على ما أنا بصدد فعله؟ هذا عربيّ آخر يحاول بطريقة ركيكة معاكستي! أنا متأكّد أنّها تفكّر كذلك في هذه اللّحظة"..

بالفعل, لم يكن تخمينه بعيدا كلّ البعد عمّا كان يجول بخاطرها. لم ييأس. استجمع كلّ ما أوتي من شجاعة وقال لها:
- "أَ... هل.. هل أنت عربيّة؟"
وكانت رندا قد عادت إلى كتابها.
- "نعم! وهل يخفى هذا؟"
فوجئ الشّاب بسرعة الجواب وبحَدّته القاطعة، وأخذ يفكّر فيما يمكن إضافته.

كانت رندة بحقّ ذات ملامح جليّة العروبة. شعر غزير يكاد سواده يستحيل، تحت أشعّة الشّمس، إلى نوع غريب من الزّرقة. حاجبان أسودان فُطرا على دقّة وجمال الرّسم، تنبعث من تحتهما نظرات يتخلّل السّواد فيهما حدّة وسحر لا يمكن مقاومتهما إلاّ بتجنّب النّظر فيهما بدون إذن مسبق.
- "أنا أيضا.. عربي".
واصلت رندة القراءة، أو ربّما التّظاهر بها.
- "هذا بالفعل يوم من أيّام الصّيف... أليس كذلك؟
- نعم!
- هل أنتِ طالبة؟
- نعم!
- الظّاهر أنّي أزعجتكِ... إذا أردتِ أن أذهب، فسأفعلُ ذلك؟
- هذا شأنكَ! " ثمّ أضافت بنبرة أكثر هدوء: "لستَ بمزعجي..."

استشفّتْ رندة، بحسّها الأنثوي الثّاقب، من ارتباك وخجل مخاطبها أنّ نيّة المعاكسة، حتّى وإن وُجدت لديه، فهي لطيفة ومهذّبة وشديدة الخفاء. فاستفزّته قائلة:
- "أنتَ كعشرات من أمثالك، ممن يرون في كلّ فتاة منفردة، عصفورا قابلا للاصطياد. أليس كذلك؟"
احمرّ وجه الشّاب ووجم عن الكلام.. فهو، في قرارة نفسه، لا يعتبر ما قالته تجنّيا منها على الواقع. ولكنّه أجابها مبتسما ومحاولا إخفاء اضطرابه:
- "لا! المعذرة.. أنتِ في هذا مخطئة.. فأنا لا أريد معاكستك ناهيك عن إزعاجكِ.
- كن صادقا ولو للحظة.. لماذا تحاول تجاذب الحديث مع فتاة لا تعرفها ولا تعرفك؟
- هك... هكذا... لا لشيء... صدّقيني... أنا لست من هواة معاكسة الفتيات. وفي كلّ الأحوال فأنا لا أحسن فعله!
- فعلا في هذا أصدّقك!" وانسابت على شفتيها ضحكة مزيجها السخرية اللّطيفة المازحة والاعتذار عليها. وابتسم الشّاب أيضا.
- "إذا لم تكن بصدد معاكستي فما الذي جاء بك إذا؟
- تريدين الحقيقة؟
- لا أريد غيرها
- كنت أقرأ قصيدة لشاعر أحبّه، ووصلتُ إلى هذا البيت: "والنّخلة أرض عربيّة.." فجأة رفعتُ رأسي فرأيتكِ تستعدّين للجلوس على مقعدكِ هذا، فقلت لا شعوريا: "وأنتِ أرض عربيّة"! ضحكتْ رندا وسألتْ:
- "من الشّاعر؟
- مظفّر النّواب.. شاعر عراقي.. إنّه شاعر ملتزم.
- لم أسمع به قبل اليوم.. أعترف بأنّ ثقافتي الأدبيّة محدودة جدّا..
- ومع هذا أراكِ تحبّين المطالعة.
- أتظاهر بذلك... حتّى أبدو مثقّفة!"

انقطع الكلام بينهما، وساد صمت لا يقطعه إلاّ الحوار الجميل الدّائر بين سكّان الحديقة من العصافير، يؤمّن له خرير شلاّل اصطناعي صغير نوعا من الإيقاع المتواصل. في غمرة هذه الأجواء السّنفونيّة، أنطلق من شفتيهما في ذات الوقت، السّؤال نفسه:
- "ما اسمكَ؟... ما اسمكِ؟"

وضحك الاثنان ضحكة صافية، بريئة، متواصلة. كلّما حاول أحدهما التّوقّف عن الضّحك، والاعتدال في الهيئة، إلاّ واستفزّه منظر الآخر وهو يبذل نفس الجهد.

* * *

مرّت ساعتان أو يزيد، وهما على نفس الحال. وضعا كتابيهما على جانب من المقعد وانغمسا في أحاديث لا نهاية لها، ولا موضوع يربط بينها، تتخلّلها بين الفينة والأخرى ضحكات بريئة، فانقباض أسارير، فدموع تترقرق في عينيهما، فصمت، فضحك من جديد، وهكذا إلى أن نُبِّها من قِبَل حرّاس الحديقة بأنّ الأبواب ستغلق بعد ربع ساعة.
"- يا إلهي لم نشعر بالوقت يمرّ!"... قالتها رندة متأوِّهة وهي تضع حذاءها.

في الباص، لم يتبادلا الكثير من الكلام. اكتفيا ببعض النّظرات المسترقة، المتعجّلة، والجاهلة لما تريد، والّتي تنتهي أحيانا بابتسامة منقذة.

نزلت رندة عند محطّتها، وواصل الشّاب رحلته. امّحت كلّ الصّور من مخيّلته، إلاّ صورة رندة وهي تودّعه، بصوتها العذب، قائلة قبل أن تُغلَّق أبواب الباص:
- "تشاو.. مع السّلامة.. لا تنسى!
- لا أنسى!؟.. ماذا؟
- النّخلة!
- آه... والنّخلة أرض عربيّة... "


* * *

لم يتبادلا العناوين ولا أرقام الهاتف. كلّ ما تعلم رندة أنّ سامي شابّ من تونس، كان يُدرّس في إحدى الثّانويّات، في العقد الثّالث من العمر، يعتزم الالتحاق بإحدى الجامعات الباريسيّة لإعداد شهادة الدكتوراه في التاريخ، وهو في روما للسّياحة ولملاقاة بعض الأصدقاء.

وعلم سامي أنّ رندة عراقيّة من بغداد، في الخامسة والعشرين من العمر، اضطرّتها أوضاع البلاد بعد الحرب وما تبعها من حضر على كلّ شيء، إلى القدوم على روما قصد إتمام دراستها الجامعيّة في علم الاجتماع الحضري، وهي الآن بصدد تعلّم اللّغة الإيطاليّة. تقطن في مبيت للفتيات ترعاه مؤسّسة خيريّة للرّاهبات، وتعمل نصف الوقت عند سيّدة عجوز، أقعدها المرض وسجنتها الوحدة، سينيورا روزانا بلاّلونا.

تواعدا على اللّقاء في نفس المكان، حديقة فيلاّ بورقيزي، فرندة ترتادها كلّ يوم تقريبا.

* * *

مرّ شهر منذ لقاءنا الأوّل، عرفتُ خلاله كلّ شيء عن سامي، وبقيتُ في ذات الوقت أجهلُ عنه الكثير. هو الآخر، عرفَ الكثير عنّي. قصصتُ له طفولتي، أحوال أهلي، صفة بيتنا وحارتنا وكذلك بغداد وجراحها. حدّثتُه عن أحلامي وآمالي، وتحاورنا حول موضوع لا مناص منه "العلاقة بين الجنسين في العالم العربي: الواقع والآفاق"!

كانت كلّ مواعيدنا تتمّ في أماكن عامّة، تحت شمسيّات مقاهي بياتسا ديلاّ ريبوبليكا، في أروقة كنيسة القدّيس بياترو قرب الفاتيكان، على مدرّجات بياتسا دي سبانيا وطبعا على مقعدنا في حديقة فيلاّ بورقيزي، مكاننا المفضّل. ومع هذا فلقد كان سامي ثابتا في تعامله معي، فلم ألحظ عليه أدنى تغيير في سلوكه نحوي. لم يحاول مرّة واحدة استدراجي إلى أماكن الخلوة مثلا، كما يفعل الشّبّان مع الفتيات عادة. لم يحاول ولو مرّة واحدة لمس يدي في غير المصافحة؛ وهذا ما جعلني ارتاح إليه أكثر فأكثر وازداد نحوه تقديرا واحتراما.

وذات يوم دعاني إلى "خرجة" سينما. فظننت به سوءا يومها؛ ولكن ما أن وصلنا إلى قاعة العرض حتّى تبدّد ظنّ السّوء بصاحبي: فلقد كانت السّينما التي دعاني إليها قاعة صغيرة متخصّصة في عرض الأفلام الوثائقيّة، والتّجريبيّة، والكلاسيكيّة وكذلك أفلام العالم الثّالث.. تلك الأفلام التي كثيرا ما يتبعها نقاش. نظرت إلى سامي مبتسمة بنوع من السّخرية اللّطيفة وقلت له:
" - لقد أخفيت عنّي جانبك هذا.. الرومانسي!" شعر سامي بلذعة وردّ كالمعتذر عن اختيار غير موفّق:
" - إذا أردت أن لا نشاهد هذا الشّريط، فلنذهب إلى غير هذا المكان.
- لا! أنا أمزح.. المعذرة.. لم أقصد ذلك.."
ولم أدرِ إلاّ ويدي تمسك بيده.

انتهى الشّريط، وخرجنا من القاعة، وفي الطّريق سألني سامي:
"– هل أعجبك الشّريط؟" وقبل أن أنبس بالجواب أضاف: " أرأيتِ؟ لم تخطئِ حينما وصفتني بالرّومانسي.. الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال!" عدوت خلفه محاولة تسديد لكمات لا أظنّ أنّها موجعة إلى كتفه.. وضحكنا.. ضحكنا..
تذكّرتُ.. كان عنوان الشّريط الّذي دعاني سامي إلى مشاهدته: "يوميّات بوليفيا".. تلك اليوميّات الّتي كتبها تشي غيفارا في أشهر وأيّام حياته الأخيرة، قبل سقوطه تحت الرصاص في أحراش أمريكا الجنوبيّة.

* * *

كان سامي شغوفا بالمطالعة ومفعما بروح الإطّلاع على ما يجري في العالم من أحداث، لا سيّما تلك الّتي يقع مسرحها في السّاحة العربيّة... في البداية روى لي الكثير من أحداث منطقة المغرب العربي وبالذّات مسقط رأسه تونس. وكان في روايته لأحداث هذا البلد يتكلّم من موقع الشّاهد عليها. ولكن ما أن علم أنّي عراقيّة، حتّى صار العراق محور حديثه. بات يحدّثني عمّا علمتُ وعمّا لم أعلم من تاريخ بلدي، عن أدبائه، عن شعرائه، عن رجال الفكر فيه وكذلك عن السّياسة.

قرأ عليّ ذات مساء مقمر، عند نافورة "فونتانا دي تريفي"، قصيدة بدر شاكر السّيّاب "أنشودة القمر"، وكنت قد درستها في إحدى فصول الثاّنويّة، غير أنّ وقْعها كان تلك المرّة يختلف كلّيّا عن وقعها بين جدران الفصل، كواحد من الواجبات المدرسيّة الملزمة. بصوت عميق وعذب، يصحبه خرير النّافورة، انسابت موسيقى الكلمات، فكانت لها نغمة لم أألفها قبل ذلك اليوم.

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْنًا ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما، النُّجومْ...
(...)
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ،
حتّى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ.
(...)
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول... حولها بشرْ
مطر...
مطر...
مطر...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل, من دموعْ
ثمَّ اعتللنا – خوف أن نلامَ - بالمطر...
مطر...
مطر...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ.
مطر...
مطر...
مطر...
(...)
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى.
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
"مطر...
مطر...
مطر...
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ.
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتي, واهب الحياة."


ويهطل المطرْ...

لم أدرِ إلاّ ودمعي تنهمر؛ ولم أقل شيئا، ولم يقل سامي شيئا.خيّم علينا الصّمت.. ذاك الصمت المشحون بآلاف المعاني والصّور.. الصمت الذي يحملك بعيدا عبر الآفاق..

حدّثني أيضا عن حروب العراق، وعن طبائع الاستبداد منذ زمن الحجّاج. حدّثني عن ألاعيب الدُّول الكبرى.. وعن تميّز الفكر الإسلامي عند العراقيّين.
"- هلْ سمعتِ بعماد الدّين خليل؟ هلْ تعرفين محمّد باقر الصَّدر؟ هذا الأخير أُعدم في بداية الثّمانينات..
- لقد كنت صغيرة جدّا آنذاك.. وأَضَفتُ معتذرة، لقد نشأتُ في عائلة بعثيَّة حتَّى النُّخاع.."

ومرّة أخرى سألتُ سامي عن أفكاره وتوجّهاته. فوجئ بالسّؤال، ثمّ أجاب ضاحكا:
"- سؤالك عجيب، وعفويّتك أعجب! في بلدي لا نُسأل بهذه الطّريقة إلاّ في محلاّت البوليس السيّاسي!" ثمّ أطرق لبضع ثوان وأضاف متنهّدا: "لقد عرضتُ عليك كلّ أفكاري وكلّ توجّهاتي.. ألا تَزال غامضة لديك إلى الآن؟
- هذا صحيح. لقد تحدّثنا الكثير، وفي كلّ المواضيع تقريبا، ولكنّ الأمر يزداد عندي في كلّ مرّة غموضا. فأنت تذكر وبشغف شديد ثورتا كوبا ونيكاراغوا، وحركات أمريكا اللاّتينيّة اليساريّة.. وتجعل من شخص غيفارا رمزا للثّبات والمبدئيّة، ثمّ أراك مدافعا عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر و عن أفكار سيّد قطب الدينيّة، وها أنت متأثّر بالثّورة الإسلاميّة في إيران ومساندا لها حينما كانت في حرب ضدّنا.. وتسرد لي الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة وكذلك شعراء الخمر والفوضويّة، ومقتطفات فلسفيّة من نيتشه وفوكو.."

استغرق سامي في صمت غريب، وراح يرمق مياه البحيرة وكأنّه يسبر أغوارها. ثمّ نظر إليّ نظرة عميقة وابتسم قائلا:
"- إنّ أفضل الأفكار والآراء لتلك التي تنبع وتتشكّل في أذهاننا، وتصاغ على محكّ التّناقضات.. يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ بها.
- برافو سامي.. ها أنت تتكلّم الآن وكأنّك رجل دين!
- هل أستنتج ممّا تقولينه إعجابا أم تبرّما؟
- أنا أمزح معك.. لا تأخذني في كلّ مرّة بمأخذ الجِدّ".
وبعد برهة من الصّمت واصلت رندا قائلة وهي تنظر إلى البحيرة:
- أنا لا أرتاح كثيرا إلى رجال الدّين وإلى أصحاب الدّعوات الدّينيّة في بلداننا..
غيّر سامي وضع جلسته وكأنّه يتهيّأ لسماع خبر مهمّ وخطير وقال:
- واصلي..
- ألسْتَ معي في أنّ هؤلاء شوّهوا صورة العرب والمسلمين في كلّ أنحاء العالم.. حتّى بتنا نُعامل عن بكرة أبينا كإرهابيّين.. لا ندخل إلى بلد، ولا نخرج منه إلاّ بتأشيرة، ولا نأكل ولا ننام إلاّ بإذن، ولا كلام لنا مع النّاس إلاّ وطُرِحت على الطّاولة قضيّة الإرهاب والتّطرّف..
قاطعني سامي كمن يريد إتمام وتأييد ما كنتُ بصدد قوله.. أو كمن يصطحبك في التّغنّي بأغنية كثيرة التّداول..
- وحرّية المرأة، وكذلك المثقّفين.. إنّهم يريدون الرّجوع بنا إلى العصور الوسطى وظلماتها.. إنّهم يسعون بمخطّطاتهم الجهنّميّة إلى كسر وحدتنا الوطنيّة، وإلى ضرب مكاسبنا الحداثيّة، وتكريس تقهقرنا قرونا إلى الوراء.. في الجزائر قتلوا وبكلّ وحشيّة الرُّضَّع وكذلك الحوامل، وفي أفغانستان سجنوا النّساء وراء البرقع.. وفي إيران شنقوا في الشّوارع العامّة آلاف المعارضين الدِّيمقراطيّين.. وفي إسرائيل قتلوا العشرات من المستعمرين الرّوس المساكين والعُزَّل.. وفي العراق.. بلدك الجميل.. هاهم سيطالون بإرهابهم شبّانا في زهرة العمر، قدموا من الكولورادو ومن فرجينيا ومن كاليفورنيا لكي يعيشوا فقط بعض المغامرات الهوليوديّة، ولكي يُهدوا إلى شعب العراق، بعض مُثُل الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان..

تفطّنتْ رندة شيئا فشيئا إلى نبرة سامي السّاخرة، وإلى نوع من الغضب المتصاعد والّذي لم تعهده فيه، كان يتخلّل كلامه، فيصبغ الحروف فيه بلون أسود قاتم، يختزل عمقا تراجيديّا بعيد الأغوار. سكت سامي، ولم تنبس رندة ببنت شفة. كان الصّمت بينهما مشحونا بآلاف الفولتات الكهربائيّة.


* * *

التقينا بعد ذلك من جديد. بدأت أشعر نحوه بشعور غامض. فاجأت نفسي مرارا وأنا أفكّر فيه.. سألته ذات مرّة ونحن على مقعدنا قبالة البحيرة:
- "سامي.. هل لك خطيبة؟..
لم يجبني.. نظر إلى الأفق وتنهّد.
شعرت بالحرج.. صمتُّ بدوري. قطعتُ الصّمت معتذرة:
- أرجو أن لا أكون ضايقتك بسؤالي هذا؟.. أنا آسفة جدّا.
- لا.. لا تأسفي. أضاف ضاحكا كعادته عندما يسعى إلى تخفيف ضغط الموقف، لا حياء في الدين!
- إذًا؟..
- إذًا.. ماذا؟
- هل لك..؟
قاطعني قائلا:
- كانت تربطني علاقة مع زميلة لي بالجامعة..
- والآن؟.. احمرّ وجهي خجلا من تصرّفي، أقصد لماذا تقول "كان"؟ هل انقطعت علاقتكما؟
- أجل.. كانت بيني وبينها قصّة حبّ.. كتلك الّتي نقرأ عنها في الروايات.. أضاف بعد لحظات من الصّمت: "أظنّ أنّها كانت أصدق منّي في حبّها لي.. لم تتخلّ عنّي.. لقد قررّتُ الهروب ووضعتها أمام الأمر الواقع.. كانت رغبتي في مغادرة البلاد أقوى حتّى من حبّنا.. ما أن استعدتُ جواز سفري المحجوز حتّى حزمتُ أمتعتي وسافرت.. قلت لها ليلة الوداع: لا تنتظريني.. لن أعود.
- أنت قاسٍ سامي! لماذا؟
واصل حديثه غير مكترث لمقاطعتي إيّاه:" أذكر ذلك اليوم وجهها الملائكي وقد غمره الحزن والخيبة.. كانت حبّات الدّمع تنهمر فوق خدّيها، لتتجمّع عند الذّقن وتتساقط كلآلاء أنفرط عقدها. كنّا ساعتها بالباص المكتظّ كعادته ممّا زاد في شعوري بالحرج. حاول أصدقاءنا التّدخّل لرتق الصّدع، ولكن دون جدوى. مرضتْ. نحل عودها. ثمّ قبلت بالزّواج من أوّل شابّ تقدّم لها. أظنّ أنّها سعيدة الآن..
- مسكينة..
- أتبكين... رندا؟

أمسك بيدي بين كفّيه؛ لم أقوى.. لم أجرأ... لم أقدر على إبعاد يدي.. انتشر عبرها دفء عمّ كلّ كياني.. استسلمنا إلى الصّمت.. لم يعد يجدي الكلام.

ما أن عدت إلى غرفتي حتى ألقيت بنفسي على الفراش، لا أقوى على فعل شيء.. كانت صورة سامي ماثلة أمامي حيثما ولّيت وجهي. شعرت برغبة جامحة في ملاقاته، وفي ذات اللحظة بخوف من هذا اللقاء. ارتجف كل كياني وصار لدقات قلبي إيقاع لم أعهده من قبل.. حاولتُ الخروج من هذا المأزق اللذيذ، فلم تنفعني المطالعة ولا التلفاز ولا حتى النوم... أتراني أحب؟ أهذا هو الحب؟

* * *

دقّت طبول الحرب في بلدي المنهك من حربين قد مضتا ولم تمّح آثارهما، وباءت كلّ سبل السلام بالفشل وإن لم يعثر عن أسلحة الدمار الشامل.. وطغت على الصفحات الأولى للجرائد وعلى شاشات التلفزيون وعلى أحاديث الناس أخبار العراق.. في حين بدأت أخبار أهلي تقلّ، فلا يصلني منها إلاّ النزر اليسير لصعوبة الاتصال.. كنت حائرة، وخائفة، لا أدري ما الذي يجب عليّ فعله. لم أكن أقوى حتّى على النزول للشوارع لأشارك النّاس هنا مظاهراتهم المندّدة بالحرب التي باتت تطلّ بأنفها كالأفعى. أُصبت بالإحباط بعد أن أغلقت سفارتنا أبوابها، فانقطع الخيط الواصل بيني وبين بلدي. وحده سامي كان بجانبي. ولكنّ تسارع الأحداث جعلني أشعر بأنّه أكثر اضطرابا منّي. كنّا نقضّي ساعاتا طويلة صامتين، غائبين عن الوجود، نتأمّل أشعّة شمس الشتاء الخجلى وهي تنعكس على وجه البحيرة. كانت الأشجار قد تعرّت من ردائها الأخضر، وقلّت حركة الناس عبر ممرات الحديقة وقد تلحفت بلون الأوراق الأصفر، تتلاعب بها النسمات الباردة. صمْتُ سامي واضطرابه الواضح، رغم محاولته الظهور بخلاف ذلك، زادا من حيرتي وخوفي.. أيّة مشاعر هذه التي تعصف بنا فتجعلنا في حالة غريبة من الكدر؟ أهذا هو حبّ الوطن؟ ثمّ ما الذي يجعل سامي يضطرب لأحداث العراق بهذا الشكل؟ أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابا..

أخبرني ذات مساء وأنا أهمّ بمغادرته بأنّه سيتغيّب بعض الوقت لزيارة بعض الأصدقاء في مدينة جنوة.. شعرت يومها وأنا أودّعه بنبرة في صوته غير مألوفة، وعلى سحنته نوع من الإرتباك كان يحاول إخفاءه بتجنّب النظر المطوّل في عينيّا. سألته:
- سامي!.. ما بك؟
- لا شيء.. لا شيء.. سأفتقدك.. رندة!
وضمّني إلى صدره فشعرت بدفء وحنان على وقع دقات قلبه المتصاعدة.. أغمضت عينيّا واضمحلت حركة الناس وصخب الشارع من حولنا.. وحين همّ بمغادرتي رأيت وجهه مبلّلا بالدمع.. لم أجرأ.. لم أقدر على الكلام.

* * *

ذات يوم، وأنا أغادر شقّة السيّدة روزانا بلاّلونا، اعترض طريقي شابّ لا أعرفه. كان وسيما وكانت تبدو عليه ملامح عربيّة. استوقفني بلطف، وقبل أن أنبس بالكلام، باغتني وقد أحسّ بارتباكي، قائلا:
- لا تقلقي يا رندة..
- هل تعرفني؟
- لا! ولكن لديّ إليك رسالة..
- رسالة!.. ممّن؟
- من سامي..
ارتعدت فرائسي، واشتدّ خفقان قلبي.
- هل حدث له مكروه؟.. هل تعرف أين هو الآن؟..
ابتسم الشاب وقال:
-هدّئي من روعك.. هو بخير.. أقدّم لك نفسي.. اسمي أحمد.. من سوريا، وسامي صديق عزيز عليّ.. أقام معي عندما حلّ بروما..
كنت أسمع ما يقول ولا أعيه.. فلقد كنت أتحرّق شوقا لمعرفة أخبار سامي..
لم يطل وقوفنا، بل سارع أحمد إلى فتح محفظته وأخرج منها كتابا صغيرا أزرق اللون.. عرفته.. "وتريّات ليليّة" لمظفّر النواب.. أيقنت أنّ سامي هو الباعث..
-أين هو؟ لماذا لم يأتِ معك؟
أجابني أحمد وهو يهمّ بالانصراف:
- تجدين طيّ الكتاب ظرفا..

تسمّرت في مكاني، لا أقوى على الحركة.. توجّست خيفة من الرسالة وممّا تكنّه.. إلهي! ما الذي يحدث لي؟

لا أدري كم من الوقت مرّ وأنا واقفة في مكاني..
كنت أنوي الذهاب كالعادة إلى حديقة بورقيزي، لأجلس على مقعدنا، قبالة البحيرة.. ولكن لهفتي لمعرفة ما تنطوي عليه الرسالة من أخبار سامي جعلتني أدخل إلى أوّل مقهى اعترضني، لأجلس وأقرأ.. كانت يديّ ترتعشان حينما أمسكتا بالظّرف.. فتحته لأقرأ:
"حبيبتي رندة،
عندما تصلكِ رسالتي هذه، فسأكون بعيدا عنك؛ ولكن لتعلمي بأنّك بين جناحيّ، وفي كلّ نبضة من نبضاته يلهج قلبي باسمك.. رندة.. رندة.. رندة!
لقد التقينا وتحاببنا في زمان قضت الأقدار أن لا يكون مناسبا.. ولكن، لو لا هذا الزمان لما كنّا التقينا. لا مردّ إذًا لقدر الله. ثقي، رندة، بأنّني لم أكذبك القول أبدا، وإن أخفيتُ عنكِ، لأجلٍ معلوم، بعض الجوانب من حياتي، سبقتْ فيها العهود والمواثيق. أعذركِ لو كرهتني، ولو مقتّي ما فعلتُ؛ ولكن لتعلمي بأنّ ما قمتُ به كانت قد تحدّدت معالمه من قبل أن ألقاكِ.. والآن.. الآن، وقد عرفتك، وأحببتك لم يعد لي بدّ من ترك ما عزمتُ عليه.. فمن أجلكِ أيضا، ومن أجل عينيكِ الّتي بتُّ أسيرهما، وحتّى تبقى النّخلة أرضا عربيّة، فعلتُ ما فعلت.
تأكّدي بأنّني أحبّك إلى آخر رمق لي في الحياة..
سنلتقي إن شاء الله..
سامي
فبراير 2003"

* * *

غادرت رندة المدرّج الجامعي، بعد أن ودّعت طلبتها للمرّة الأخيرة، واتّجهت رأسا إلى مكتب العميد الّذي كان بانتظارها. تلقّتها نسمات مكيّف الهواء الباردة وهي تدلف إلى المكتب الوثير.

وقف العميد مرحّبا، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة:
- مرحبا دكتورة رندة!.. هكذا إذًا، اخترتِ مفارقتنا؟..
- بل هو قانون التقاعد سيّدي العميد.. لنفسح المجال للشبّاب!
- والله إن أخذتِ الأمور من وجهة نظر القانون.. فهذا أمر هيّن.. فالقوانين وُضِعت ومعها حيلها!..
أشعل سيجاره الكوبي وأخذ نفسا طويلا، ثمّ نفث سحابة كثيفة وأضاف قائلا:
- أمّا إذا كانت هذه رغبتك.. فهذا أمر آخر، لا قدرة لنا عليه!..
- فعلا أستاذي المحترم!.. لقد اتّخذت قراري بعد طول تدبّر وتأمّل..
تردّد قليلا قبل أن يسألها:
- ألا تخشين من الفراغ، بعد ثلاثة عقود من الحياة المليئة بالحركة والنشاط؟
- ومن قال أنّني سأكفّ عن الحركة والنّشاط!؟ فمكتبتي تعجّ بالكتب التي ادّخرتها لهذا الفراغ الّذي تحدّثت عنه، ولي كذلك بعض الزهور الّتي تنتظر منّي أن أعتني بها أكثر، وأنوي الحجّ، وأنوي القيام برحلة إلى روما طالما أجّلتها.. والقائمة تطول!

ضحك العميد ملأ شدقيه وقال:
- أتمنّى لك دكتورة رندة، من أعماق قلبي، طول العمر، والتوفيق فيما تنوين فعله.
نظر في بعض الأوراق المبعثرة على مكتبه وأضاف:
- حسنا!.. لقد قمنا بجميع الإجراءات الإداريّة تحسّبا لقرارك.. ويسعدني أن أعلمك بأنّ زملائك، وأنا على رأسهم طبعا، قد أعددنا حفلا توديعيّا يليق بمكانتك فينا، وبخدماتك الجليلة لجامعتنا.. سيكون الحفل يوم الخميس المقبل.
- أشكركم جميعا، سيّدي العميد..

* * *

غادرت رندة الجامعة واستقلّت سيّارتها. لم تكن لديها رغبة في الرجوع إلى المنزل، إذ لا أحد هناك في انتظارها. كانت أمّها تملأ عليها البيت، ولكنّها توفّيت قبل سنة، فوجدت رندة نفسها وحيدة في بيت فسيح الأرجاء، لا يشاركها فيه غير الصمت وعبق الماضي.. وفي عتمة تلك الأرجاء كان كلّ شيء، من جدران وأثاث وتحف وصور، يفوح بريح المعابد العتيقة.

كانت والدتها تحرص على صيانة ترِكات الماضي تخليدا لذكرى زوجها وابنها؛ فالأوّل، بحكم مركزه القيادي في "البعث"، اعتقل منذ الأيّام الأولى للاحتلال، ولم يعد أبدا.. تأكّدت فيما بعد من مقتله، وعلمت مكان القبر الجماعي الذي دُفن فيه، من خلال محاكمات مجرمي الحرب ومن تعاونوا مع المحتلّ. أمّا ابنها، فلقد التحق بالمقاومة، واستشهد بالفلّوجة في إحدى العمليّات الفدائيّة؛ كان ذلك في السّنة الرابعة من سقوط بغداد وغزو العراق..

تناثرت صور الماضي عبر أرجاء الصّالون.. لم يخلُ رفّ أو جدار من ضحكة أو بسمة أو معانقة.. حياة بأسرها انتهى بها المطاف تحت المربّعات البلّوريّة وداخل الأطر المذهّبة.. بدت من خلالها الوجوه الضاحكة الباسمة في حالة زهو وسعادة أبديّة.. تاريخ عائلة، طويل، زاخر بالأحداث، مرّ من هنا ولم يترك غير هذه الأيقونات للذكرى.. كانت رندة تعيش وسط سكون هذه الأجواء المميّزة للمعابد والمتاحف.. لقد آلت إليها مهمّة الحفاظ على ذاكرة تلك العائلة حتّى لا يطويها النسيان بعد أن غمرها الموت.

* * *

ومن السيّارة اتّصلت بالخادمة، أعلمتها بأنّها سوف لن تتناول الغداء في البيت. انسابت السيّارة عبر شوارع ومعابر بغداد العريضة. اكتظّت سماء المدينة بآلاف الأعلام، وكذلك بسعف النخيل يرفرف على جنبات الشوارع، وحول الساحات. كانت الإستعدادت لإحياء ذكرى التحرير تجري على قدم وساق. غادرت رندة طريق المطار، متّجهة شمالا نحو الفلوجة. ضغطت بإبهامها على أحد أزرار جهاز التحكّم المثبت على المقود، فانطلقت نغمات "فصول فيفالدي"، سرت عبر كيانها نشوة تتخلّلها بعض كآبة.. سعادة مزيجها الحنين.

قبيل الفلوجة، غادرت الطريق السيّارة، متّجهة إلى مدينة الشهداء. تلقّتها الأعلام من جديد، وسعف النّخيل تداعبه النّسمات، فيُجيب بحفيف جميل. امتدّت أمام ناظريها مدينة مسجّاة من القبور.. بحر من الخضرة تطفو على امواجه زوارق ذات أشرعة بيضاء، بلا حدّ.. مقبرة الشهداء.. تتخلّلها الممرّات والسّاحات والنّصب التّذكاريّة.. ونخيل، بعدد الشهداء..

اعتادت رندة على زيارة المكان مرّة في الأسبوع.. عقود ثلاثة مرّت، لم تتخلّف خلالها عن هذا الموعد أبدا. وفي كلّ مرّة تؤدّي الطقوس نفسها، بانتظامِ ودقّةِ ساعةٍ سويسرية. تركن سيّارتها في المأوى الخارجي، تتّجه نحو واحد من الأكشاك العديدة لبائعي الزّهور، نفس الكشك، تجامل صاحبه، العمّ عبد الجوّاد، ببعض الكلمات. في البدء، كانت تسأله عن الأحوال، وعن الزوجة والأولاد، والآن، عن الأحفاد. يقدّم لها ورداتها الثلاث، تودّعه متّجهة إلى بوابة المقبرة، تقف عندها برهة، ترفع عينيها صوب الواجهة العليا لقوس النصر الضخم، لتقرأ حروفا نُقشت بخطّ كوفيّ جميل على الرخام الأبيض: "ولا تَحسبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا فِي سَبيلِ الله أمواتا، بَلْ هُمْ أَحيَاء عندَ ربّهِمْ يُرْزَقُون".
تخطو ببطءٍ عبر الممرّات المُظَلَّلة بخضرة النّخيل الدّافئة. تجلسُ بعض الوقت عند قبري والدها وأخيها في مناجاة صامتة. تسقي الزهرات المحيطة بالقبرين، تودّعهما، تاركة فوق كلّ واحد منهما وردة. تتّجه بعد ذلك، عبر ممرّات المدينة النّائمة نحو مربّع ضخم، كُتب على بوّابته المزخرفة بالخزف المغربي الجميل: "شهداء إقليم المغرب العربي". بالدّاخل، توزّعت القبور بحسب ولايات أصحابها. تتوقّف رندة برهة عند المدخل، ثم تخطو من جديد ببطءٍ وتؤدةٍ، تستجمع ذكرياتها.. هاهي الآن تمشي عبر ممرّات حديقة فيلاّ بورقيزي، في روما، تجلس على المقعد الخشبي الأخضر، تظلّله شجرة لا عمر لها، تكاد أغصانها تدغدغ الأشعّة المتراقصة بزهو على سطح البحيرة. صوت يأتي من عمق الذاكرة.. تعرفه:
"- هل.. هل أنتِ عربيّة؟
- نعم! وهل يخفى هذا؟
- أنا أيضا عربيّ..
.................
- الظّاهر أنّي أزعجتكِ... إذا أردتِ أن أذهب، فسأفعلُ ذلك؟
- هذا شأنك!........ لستَ بمُزعجي.."

يتلو الصوت، وسط عبق من الياسمين تحمله النسمات الدافئة:

"يا قاتلتي بكرامة خنجرك العربيّ!
أهاجر في القفر،
وخنجرك الفضّي بقلبي،
وأنادي:
عشقتني بالخنجر والهجر بلادي
ألقيتُ مفاتيحي في دجلة أيّام الوجد
وما عاد هنالك في الغربة
مفتاح يفتحني
ها أنذا أتكلّم من قفلي..."