الاخوة والاخوات .. مازلنا مع صفحات كتابى ( ملامح مصرية ) واليوم نتحدث عن :
الشيخ / عبد الله الشرقاوى :
________
خضعت محافظة الشرقية مثلما خضعت مصر للحكم الفرنسى مدة قصيرة لاتزيد على 3 سنوات و شهرين وعلى الرغم من قصر هذه المدة الا انها كانت ذات شأن مؤثر فى التاريخ ودلالة فارقة تؤكد ان الانسان العربى بصفة عامة والمصرى بصفة خاصة لايقبل الاحتلال وكبت الحريات وان الوطن اغلى من الولد والدم .. وللتاريخ نسجل هاهنا ان ذلك الاحتلال لم يؤثر قط على لغتنا العربية .
والمتأمل لتاريخنا القومى يجد ان محافظة الشرقية جادت بكل تضحية للتخلص من الاحتلال كما ضمت واحتضنت زعماء القوم الذين فروا من العاصمة المصرية بعد هزيمة امبابة .. فقد لجا اليها ( ابراهيم بك ) مع مايقرب من 1500 من المماليك وصحبهم الوالى العثمانى ( بكر باشا ) ونقيب الاشراف السيد عمر مكرم وهؤلاء الفارون عسكروا فى مدينة بلبيس .
وكانت محافظة الشرقية فى هذا الوقت صاحبة الزعامة الدينية لان احد ابنائها وهو الشيخ ( عبد الله الشرقاوى ) كان شيخا للازهر الشريف والت اليه رئاسة الديوان الوطنى .. ومن هذا المنطلق نعرض تاريخ الشيخ الشرقاوى .. احد ابطال الزعامة الدينية والوطنية والذى اغضب الفرنسيين نظرا لوطنيته ومواقفه ضدهم من اجل مصر الكنانة وشعبها العظيم .
وتقول سجلات المواليد ان الشيخ ( عبد الله بن حجازى بن ابراهيم ) ولد فى سنة 1150 هـ بقرية الطويلة مركز فاقوس بمحافظة الشرقية ، ولذلك لقب واشتهر بالشيخ ( عبد الله الشرقاوي )
حفظ القران الكريم فى قرية القرين وامتاز بالذكاء والطموح والمثابرة والوطنية وبرغم ضيق العيش تلقى العلوم الدينية والعربية على يد شيوخ اجلاء منهم نذكر : الشيخ الملوى والشيخ الجوهرى والشيخ الدمنهورى .. وبعد ان انهى دراسته بدا يلقى الدروس بالجامع الازهر والعديد من المساجد كما افتى فى مذهب الامام الشافعى بالاضافة الى تميزه فى الكتابة والالقاء .
وتولى الشيخ الشرقاوى مشيخة الازهر خلفا للشيخ احمد بن موسى العروسى ويعد الشيخ الشرقاوى هو الشيخ الحادى عشر فى سلسلة الشيوخ الاجلاء الذين تولوا مشيخة الازهر .
والشيخ الشرقاوى لم يدخر جهدا من اجل خير الشعب المصرى ورفع الظلم الواقع عليه من المماليك ثم الفرنسيين وقد عاصر الجبرتى الشيخ الشرقاوى وذكره فى مؤرخاته فقد قال :
( فى سنة 1209 هجريا وفد على الشيخ الشرقاوى اهل الشرقية وذكروا له ان اتباع محمد بك الالفى ضلموهم وارهقوهم بطلب مالاقدرة لهم عليه .. فغضب الشيخ الشرقاوى لذلك وخاطب مراد بك وابراهيم بك فى رفع هذا الظلم فلم يكترثا للامر فحضر الى الازهر وجمع المشايخ وتشاوروا فيما بينهم ثم اغلقوا ابواب الجامع وامروا الناس باغلاق متاجرهم وركبوا فى اليوم التالى وتبعهم كثير من الناس متظاهرين وازدحموا امام بيت ابراهيم بك صاخبين وارسل اليهم ايوب بك مسئول الشئون المالية فسالهم عن مرادهم ؟ فقالوا : نريد العدل وابطال الحوادث ورفع المكوس التى ابتدعوها .. فقال : ان فى اجابة هذه المطالب تضييقا علينا فى معاشنا .. فقالوا : ليس هذا بعذر عند الله ومالباعث على الاكثار من النفقات والمماليك ؟ فالامير يكون اميرا بالاعطاء لا بالاخذ .. فامهلهم حتى يبلغ ذلك .. ورجع المشايخ الى الازهر وشايعهم اهل القاهرة فى حركتهم فحضروا الى الازهر وباتوا فيه متحفزين فخشى مراب بك عاقبة هذا فبعث من يخبرهم باجابة معظم مطالبهم ، ثم طلب اربعة مشايخ عينهم باسمائهم فذهبوا اليه في قصره بالجيزة فلاطفهم وطلب اليهم السعي في الصلح ، وفي اليوم الثالث اجتمع الامراء والمشايخ في بيت ابراهيم بك ومن بينهم الشيخ الشرقاوي ، وتم الصلح علي رفع المظالم وان يكفوا اتباعهم عن مد ايديهم الي اموال الناس ويسيروا فيهم سيرة حسنة ، وكتب القاضي حجة بذلك وامضاها الباشا والامراء ، وانجلت الفتنة وفرح الناس وسكن الحال .
ومرت الايام وجاء الفرنسيون ودخلوا القاهرة عام 1798 بعد مقاومة رائعة ، وبعد ان استقروا وضع نابليون بونابرت نظام حكم البلاد فقرر حكم القاهرة بمجلس مكون من 9 اعضاء وان تكون السلطة المدنية للحكومة بيده ، وكان الشيخ الشرقاوي من اعضاء هذا المجلس ، ثم امر نابليون بونابرت بتكوين مجلس لكل مديرية عدده 7 افراد وذلك من اجل مصالح المديرية فأجمع الاعضاء علي اختيار الشيخ الشرقاوي رئيسا للديوان وبذلك اصبح رئيسا لحكومة القاهرة المدنية بالاضافة الي مشيخة الازهر ، ومن هنا لقب بذي الرياستين ... ثم دعا نابليون الى اجتماع اعيان العاصمة والاقاليم بديوان القاهرة حتى يتعرف على ارائهم فى النظام المالى والادارى والقضائى بالحكومة .. وبعد الاجتماع طلب منهم اختيار رئيسا فاجمعوا على الشيخ الشرقاوى .. وهذا الديوان كان يبدى رأيه فى الاصلاحات والاقتراحات التى يراها من اجل اثبات ملكية العقارات وفرض الضرائب والوصول الى النظام الاصلح بخصوص تأليف مجالس بالمديريات وكذا النظام الامثل للقضاء الجنائى والمدنى والتشريع الذى يكفل ضبط المواريث وازالة الشكاوى والمظالم .. وهذا المجلس مجلسا تشريعيا للامة وكان الشيخ الشرقاوى رئيسا له .. ومن هذا المنطلق نؤكد على نفوذ وعلو مكانة الشيخ عبد الله الشرقاوى .
وبعد قيام ثورة القاهرة عام 1798 ضد الفرنسيين قام نابليون بونابرت بحل المجلس واستمر معطلا لمدة شهرين ولكن سرعان ما اعاده نابليون ولكن بشكل جديد حيث قام بتكوين مجلسين اولهما .. عرف بالديوان العمومي - الكبير - وتكون من 60 عضوا من الاعيان المصريين وممثلي الطبقات المختلفة ، وهذا المجلس يجتمع بناء علي دعوة من حاكم القاهرة ، وكان الشيخ الشرقاوي من اعضاء هذا المجلس الذي اجتمع في الثامن عشر من شهر رجب 1213 هـ ثم انفض بعد ثلاثة ايام .
و ثانيهما .. المجلس او الديوان الخصوصي و عدد اعضاؤه 14 عضوا ويجتمع يوميا لبحث ونظر مصالح الناس ، وكان الشيخ الشرقاوي رئيسا لهذا المجلس ، وكان يعد عبارة عن مجلس وزراء ولكن لشرف الفرنسيين .
وبعد معاهدة العريش و توقيع فرنسا عليها برغبتها في الجلاء عن مصر تم حل الديوان ( المجلس ) ولكن نشبت الثورة في القاهرة وبعد اخمادها واصل القائد كليبر امر تعطيل المجلس ، و بعد تولي القائد مينو القيادة العامة شرع في ارجاعه و لكن بنظام جديد ، فالاعضاء 9 ومن المسلمين ، و تراسه الشيخ الشرقاوي ، وكان يعد هذا المجلس بمثابة الحكومة .
والفرنسيون سخطوا كثيرا علي الشيخ الشرقاوي نظرا لوطنيته وثورته ضد اي ظلم .. ونذكر اليكم هذه المواقف :
حينما قام نابليون بونابرت بدعوة اعضاء ديوان مجلس القاهرة الي منزله البسهم علم فرنسا ولكن الشيخ الشرقاوي طرح العلم ارضا اثناء قيام نابليون بونابرت بوضعه علي كتفه ثم تقدم الشيخ الشرقاوي بالاستقالة .
وعندما قام سليمان الحلبي بقتل القائد الفرنسي كليبر احضر الفرنسيون الشيخ الشرقاوي - شيخ الازهر - مع الشيخ العريشي قاض مصر وتم حجزهما ساعات ، وطلب الفرنسيون منهما البحث عن الازهريين الاربعة الذين ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق ، ولكنهما ثارا لذلك الموقف الفرنسي فحاول الفرنسيون الزج بالشيخ الشرقاوي في ذلك الامر ، و لكن الاكذوبة تموت وحدها مثلما تموت السمكة في الصحراء .
وعند اضطراب الفرنسيين بسبب مجيئ الحملة العثمانية الانجليزية لمصر ثم احتلال الاتراك العريش قام فورييه -الوكيل الفرنسي - باستدعاء اعضاء الديوان ثم اعتقل 4 منهم وكان في مقدمتهم الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم ارسلوا الي القلعة ومكثوا في سجنهم مائة يوم ، و تم اطلاق سراحهم بعد معاهدة جلاء الفرنسيين عن مصر ، و كثيرا ما كان يقول الفرنسي مينو : يارب كيف تنتهي هذه الحملة في مصر ، و كيف نؤمل المساعدة وقيد حيل بيننا و بين بلادنا ؟
وبعد خروج الفرنسيين من مصر لم يدخر الشيخ عبد الله الشرقاوي جهدا في الدفاع عن وطنه و دحض اي مظلمة تصيب بني وطنه من قبل الاتراك ، فعندما قام الوالي التركي خورشيد باشا بفرض ضريبة جديدة علي اهالي القاهرة ، و قد سبق ان طلب خورشيد من العلماء نفس المطلب فثار الشعب ، فما كان من الزعماء ان اجتمعوا في الثاني عشر من شهر صفر سنة 1220 هـ في بيت القاضي وكان في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي ، و قرروا اختصام خورشيد باشا الوالي التركي ، فعلم الشعب بذلك فاجتمع ما يقرب من 40 الفا وقاموا بمظاهرة ضد الاتراك و ظلمهم الثافر ثم طلب القاضي وكلاء الوالي وعندما حضروا اليه عقدوا عقد المجلس وتم عرض مظالم الشعب و مطالبهم وهي :
1- عدم فرض اي ضريبة علي القاهرة الا بعد ان يقرها العلماء و الاعيان .
2- جلاء الجنود عن القاهرة وانتقال حامية القاهرة الي الجيزة
3- عدم السماح بدخول اي جندي الي مدينة القاهرة وهو مسلح .
وبعد ان وصلت رسالة القاضي الي خورشيد باشا و هي محملة بهذه المطالب شعر ان موقفه خطير فارسل الي العلماء بمقابلته ولكنهم لم يذهبوا لانهم فطنوا لمؤامرته و مكيدته ، فما كان من خورشيد باشا الا رفض مطالب الشعب فقام العلماء و وكلاء الشعب باجتماع في الثالث عشر من صفر 1220هـ في المحكمة و اتفقوا مع الشعب علي عزل خورشيد باشا و اختيار محمد علي واليا علي مصر و ابلغوه بذلك فتردد محمد علي في اول الامر ثم قبل بعد ان اوضح له الشيخ عبد الله الشرقاوي و السيد عمر مكرم بان هذه هي رغبة الشعب المصري ثم البساه خلعة الولاية .. وهذه هي اول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل فيها الوالي و يختار بدله بقوة الشعب و ارادته .
وقد كان محمد علي بالفعل عند حسن الظن فقد تولي ولاية مصر في السابع عشر من مايو عام 1805 وحتي الاول من سبتمبر عام 1848 م ولقب بباني مصر الحديثة حيث اقام المشاريع الصناعية و الزراعية و بني الاسطول و المدارس و اهتم بالتعليم واقام لمصر اقوى جيش في عهده ، و توسعت حدود مصر لتصل الي فلسطين و الشام و الحجاز و الحبشة مما استدعي قيام الدول الاوروبية اصحاب المصلحة بالاجتماع مع الدولة العثمانية في عام 1840 وتوقيع معاهدة في لندن تقضي بعودة مصر الي حدودها القديمة وبقاء حكم مصر وراثيا لاسرة محمد علي .
و في الثاني عشر من شهر اغسطس عام 1849 توفي محمد علي بالاسكندرية ودفن بمسجده بالقلعة .
هذا هو الشيخ الجليل و العالم الوطني عبد الله الشرقاوي الذي عاش لخدمة العلم و دافع عن بني وطنه و رفض بشدة اي ظلم يحيق بهم .هذا هو الشيخ الجليل قائد حركة التطوير بالازهر الشريف و صاحب الاثار العلمية المتعددة و التي تدل علي عبقريته و علمه النافع .. وقد قال عنه الجبرتي : ( .. وله مؤلفات دالة علي سعة فضله ، من ذلك : حاشيته علي التحرير ، و شرح نظم يحيي العمريطي ، و شرح العقائد المشرقية ، و المتن له ايضا ، و شرح مختصر في العقائد و الفقه و التصوف ، و مشهور في بلاد داغستان ، و شرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد ، و مختصر الشمائل ، و رسالة في لا اله الا الله ، ورسالة في التصوف ، و شرح ورد سحر بالبكري ، و مختصر المغني في النحو .. و غير ذلك .
رحم الله الشيخ عبد الله الشرقاوي .
________
_ مقال للمؤلف الكاتب ( ابراهيم خليل ابراهيم ) بجريدة المساء _ 26/2/1999
_ تحدث المؤلف عن الشيخ الجليل فى الاذاعة التعليمية واذاعة الكبار واذاعة الشباب والرياضة واذاعة وسط الدلتا وكتب عنه فى مجلة صوت الشرقية .
_ كتاب : ملامح مصرية _ للكاتب : ابراهيم خليل ابراهيم _ رقم الايداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية 5993/2001