«إلى الأبد ويوم».. شاعر يلعب مع الرواية عزت القمحاوي



قلت مازحاً للشاعر عادل محمود أنت تحاول صنع أسطورة خاصة ، أو أنك تتعمد الهزء بالرواية ، بما أنك دسيسة شعرية تسللت إلى معسكر السرد للمرة الأولى. قال والأخيرة، وهذا أدعى للشك في نوايا الشاعر تجاه السرد ، لكنه أصر على أن هذا ما حدث بالضبط. قرأ عن مسابقة دبي الثقافية ، وكان المتبقي على الزمن سبعة وعشرين يوماً ، فقرر أن يعتزل لكتابة رواية يتقدم بها إلى الجائزة. ولم يدخر وقتاً ، اعتزل في مصيف العائلة في "صلنفة" بالشمال السوري ، وأعد طاولة للكتابة ، لكن الكتابة لم تأت،

يوم ، يومان ، حتى مر الأسبوع الأول من دون كتابة ، فقط شرب وأكل وبحلقة في الجبال الممتدة ، وفي اليوم الثامن وجد أول الخيط ، ولم يتوقف لأيام متواصلة ، حتى صادفته إعاقة أخرى تجاوزها وجمع أوراقه عائداً إلى دمشق ، قبل ثلاثة أيام من إقفال باب الترشيح ، أعطى المخطوط لمكتب طباعة ، وأخذ يراجع صفحة بصفحة ، وأعد النسخ المطلوبة من المخطوط وانطلق إلى البريد ، وهناك اكتشف أن المطلوب لتسجيل الرسالة أكثر مما يحمل في جيبه ، واقترحت عليه موظفة البريد أن يتخلى عن المغلف الكرتوني لتخفيض سعر الإرسال. المفاجأة أن الرواية فازت بالجائزة الأولى بالمسابقة ، ومن حقنا أن نشكك في صدقية الوقائع ، من دون أن يكون في هذا اتهام بالكذب ، فالأوقع أن الكاتب لم ينتبه إلى أنه أرسل الرواية إلى المسابقة واستمر في التأليف.

لكننا بعد القراءة سنكون متأكدين من شيء واحد يبدو واضحاً: سرعة وتوتر السرد ، الذي لا يخفي حس المطاردة: مطاردة الكاتب للجائزة ، أو مطاردة الدائنين أو الزمن أو بعض ممن تتناولهم الرواية أو النص الذي يتوزع على وحدات سردية باستهلالات مميزة ، من داخل النص ، أو تضيئه ، من تأليف الكاتب أو قولاً مأثوراً يورده بنصه أو يتلاعب به. يبدو حس المطاردة في الفصول الأولى التي يقع بعضها في صفحتين فقط ، بينما تتطاول الفصول الثلاثة الأخيرة إما بسبب التعب أو بسبب الإحساس بالأمان ، وليته حافظ على خوفه حتى النهاية،

هي رواية سيرية ، تتضح فيها حياة الكاتب منذ مولده في قرية "عين البوم" مروراً بسنوات الدراسة والتجنيد والتغريبة بين العواصم الأوروبية والعربية فالعودة من جديد إلى العزلة في القرية ، ويستطيع القارئ أن يلمح داخل النص أسماء كتاب وسياسيين مثل حيدر حيدر ، الكاتب الذي يرد باسمه الأول فقط ، لكن مشفوعاً هو الآخر بشيء من سيرته ومكان عزلته في طرطوس ، وهي العمل السوري الأول الذي يشار فيه إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالإسم وإلى واقعة تخص شقيقه رفعت الأسد ، لكن ليست هذه هي فضيلة الرواية ، ولا ينبغي أن تكون الوقائع أكبر همها. ما يميز الرواية حس اللعب الذي تتميز به ، ويتجلى في الكثير من فوضى الوقائع والأحلام والتضمينات الشعرية ، على الرغم من أن الرواية تلتزم بخط سردي تصاعدي لسيرة الراوي التي تمضي كنهر تتفرع عنه وتتقاطع معه الشخصيات الأخرى كيفما اتفق. يبدو الراوي كمن يخاطب صديقاً في سهرة ، فهناك إشارات متكررة إلى القارئ المضمر ، عندما يخاطبه الراوي بجمل مثل "وقد ذكرنا شيئاً عنه في هذا الكتاب" أو "وقد سبق أن تناولنا هذه النقطة". أما ما يميز لغة الرواية ، فهي السخرية التي بعدت بأجوائها عن الميلودراما ، وقد كانت الوقائع ترشحها لذلك من خلال ثقل الموت في حياة الأم التي يسميها الجيوكندة ، وقد أسلمها الحزن على أمها إلى الحزن على أخيها فاستشهاد أحد أبنائها واعتقال ابنتها. كما تتميز اللغة أيضاً بالجملة العارفة ، والاسترسالات الذكية التي تتلوى كخنزير تلقى رصاصة بين عينيه:"أحبك ، أغرب كلمة تقال على وجه الأرض ، كدت أبحث عنها في الكتب وبحثت ووجدت لاحقاً فيما بعد ، آلاف الكلمات التي حاولت تفسير الصدى العظيم لكلمة تقال واقفا وقاعدا وفي الأحلام.. ومضت آلاف السنين حتى وصلت صياغتها إلى المدلول الحصري لما يحدث في القلب وفي السراويل ، وفي العزلة ، وفي نهايات المصائر". تبدأ الرواية بفعل التذكر ، من لحظة حاضرة وتنتهي به أيضاً ، ومبدأ الذكريات ومنتهاها "عين البوم" قرية الراوي ، الذي يقرر أنه كان متيقناً من أنه سينتهي إليها أيضاً :"منذ البدايات كنت أعلم ، بحس الجن ربما ، أنني سأطأ بقدمي أراضي واسعة من الكرة الأرضية لأكتشف أن نقطة التقاء محورها الكوني أبسط من كل علوم الأرض ، وأصغر أيضاً ، وهي تلك القرية الممعنة في اختفائها عن الأنظار ، حيث سقط رأسي في طشت ، كادوا يرمونني مع مياهه الدامية".

"عين البوم" هي الفردوس البدائي الذي انزلقت في طشت على أرضه رأس راو سيفشل في الحب وينهزم في الحرب ويغني في حانات قبرص ، ويصطاد الخنازير البرية في الجزائر ، ليعود من جديد يبني فيها كوخاً خشبياً ينام الذئب على بابه ، ويستقبل فيه "كسارة البندق" الحبيبة العصية على النسيان التي باعت نفسها سنوات لزوج من تجار السلاح والمهربين ، من دون أن تقطع اتصالها بالراوي ، إلى اليوم الذي تهرب فيه من معاشرة عائلة من الوحوش البشرية لتلتحق بالراوي في "عين البوم" وتستمع معه في الليل إلى غزل الذئب للذئبة،

ہ روائي وكاتب مصري
الدستور

Date : 18-01-2008