المســافر

قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.................................................. ......

لأول مرة يخرج من بيته مسافراً إلى الخليج دون أن ينظر في عيون أبنائه الستة، فيقولوا له:
ـ لا إله إلا الله.
فيرد في حماس، وهو يرمق الشفقة في عيون أبنائه وزوجته:
ـ محمد رسول الله.
قبل أن يشهق، وهو يجتاز الممر الطويل المؤدِّي إلى مقعده في الصفوف الأخيرة في الطائرة، قال له المضيف حينما لا حظ لحيته البيضاء .. كأنه قالها مستغرباً:
ـ هل تُدخِّن؟
ـ لا.
وكأن عينيه استفهمتا عن مغزى السؤال، فقد ركب الطائرة أكثر من ستين مرة في هذه السنوات العشر. كان يأتي في إجازة رمضان، وفي إجازة عيد الأضحى، ثم الإجازة الصيفية، وأحياناً يأتي في زيارة سريعة تستغرق عدة أيام.
قال المضيف مبتسماً في آلية:
ـ لأنك ستجلس في مقاعد المدخنين.
أحس بصدمة، فقد قال له طبيبه الذي يُعالجه من السكر:
ـ احذر التدخين.
ـ أنا لا أدخن.
ـ لا يكفي أن تكون غير مدخن!، احذر من مجالسة المدخنين.
أشارت المضيفة ـ في مدخل الطائرة ـ دون أن تتكلم إلى الطريق الذي سيسلكه حتى يصل إلى مقعده في مؤخرة الطائرة، وهو يقول لها ( 65 c).
وصل مكدوداً، ووجد الركاب في مقاعدهم، ولاحظ أن بعض الركاب يدخنون.
أحس بدوار، غابت المرئيات .. قبل أن يشهق، ويخرج من شفتيه زبد أبيض، ويتعاون البعض على حمله لإنزاله من الطائرة، بعد أن فشلوا في حضور طبيب معالج. واستطاعت أذنه أن تميز بعض الألفاظ، منها أنه من المنصورة، كما سمع من بعض العجائز "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" تتردّد خافتة مُشفقة!
كان منذ ثلاث ساعات قد دخل المسجد الذي اعتاد فيه صلاة الجمعة، جلس في مكانه المفضل بالصف الثالث ـ رغم أنه كانت هناك أماكن خالية كثيرة في الصفين الأول والثاني، وجلس في مكان قريب من الباب حتى يكون من أوائل الخارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، ليجلس مع أولاده ساعة قبل أن يتوجّه إلى المطار.
السنة الأولى التي سافر إلى الخليج فيها ـ تلك السنة التي اشتعلت فيها حرب تحرير الكويت ـ جرّت وراءها السنة الثانية فالثالثة … فالعاشرة.
لماذا لا تتوقف السنون عن الجري؟ كان يعد الأيام لعودته منذ وصوله:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
حينما حصل على الدكتوراه ـ من الخارج ـ فشل في الحصول على وظيفة جامعية في مصر. كان يقرأ الإعلان، ويذهب سعيداً لتقديم نسخ رسالته مع الأوراق المطلوبة، وتتبخّر الآمال يوماً فيوماً، ثم يُفاجأ بأن الذي قد عُين في الوظيفة المطلوبة غيره.
قال له عميد كلية ساحلية:
ـ أنت أحسن المتقدمين للوظيفة، ولكنك تحتاج "زقة".
وحينما سأل صديقه محمد لطفي عن هذه "الزقة"، قال: "دفعة للأمام يا محترم"، حتى تنال شرف التعيين في الكلية.
ـ هل يُريد ـ مثلاً ـ توصية من عضو مجلس الشعب؟
ضحك محمد لطفي واصفاً صديقه بالتخلف عن فهم آليات المجتمع المعاصر في عصر "البيزنس" وتداول النقود!!
حينما قرأ إعلان هذه الجامعة الخليجية التي يعمل فيها من عشرة أعوام قدّم أوراقه، وأجرت لجنة التعاقد مقابلة معه، وبعد عدة أيام وصلته برقية تستعجله إنهاء إجراءات السفر.
بعد أن وصل إلى الخليج، وجد أنه يتقاضى راتباً عشرة أضعاف أساتذة الجامعة في مصر، وأربعين ضعفاً لما كان يتقاضاه في وزارة التربية والتعليم قبل أن يجيء إلى الخليج، فحمد الله كثيراً.
ظل يعمل في هذه الجامعة معزيا نفسه أنه لم يجد له وظيفة أستاذ جامعي في جامعات مصر الكثيرة (لأنه لم يجد "الزقة" المطلوبة!)، وأنه يعمل في جامعة عريقة لها اسمها، وأنه في الأعوام العشرة التي أمضاها بنى بيتاً يتسع لـه ولأبنائه، بعد أن ظل منذ تزوّج يعيش في شقة صغيرة لا تتجاوز سبعين متراً، وأن زوجته تواصل الرحلة مع الأبناء بنشاط وهمة حتى التحقوا جميعاً بكليات القمة.
لكن زوجته التي ظلت معه سبعة وعشرين عاماً ماتت في هذا الصيف، وفكّر أن يبقى مع الأولاد، ويعود إلى وظيفته السابقة موجهاً بالتربية والتعليم أو مديراً لمدرسة ثانوية أو خبيراً بالكتب والمناهج، ليتابع أولاده في دراساتهم الجامعية، لكنه بعد تفكير ومُراجعة قرّر أن يذهب هذا العام إلى الخليج لآخر مرة، ليُنهي بعض الأمور المتعلقة بالعمل، ويحضر كتبه وحاسوبه، ويعود إلى مصر الحبيبة، وربما يُنهي السنة الكاملة لا يقول فيها:
ـ باق 120 يوماً، وأعود إلى مصر في إجازة رمضان.
ـ باق ثلاث جمع نصليها، ونعود في إجازة عيد الأضحى.
ـ باق أسبوعان في الامتحانات، ونعود إلى مصر الحبيبة.
.. وفتح عينيه بعد جهد جهيد ليجد نفسه نائماً على سرير أبيض، مغطى بملاءة بيضاء، ومصل الأنبوب المعلق يتصل بوريده، وأولاده جميعا حوله يقولون في فرح حقيقي:
حمداً لله على السلامة.

الرياض 22/8/1999