لماذا تتكرر المأساة في حياة البشر..؟!
محمد قاسم

في العدد 263 أكتوبر 1980 من مجلة العربي الصادرة عن الكويت، وتحت عنوان:
((فلاديمير ماياكوفسكي مؤسس المستقبلية في الشعر الروسي . للكاتب د.محمد جليل مصطفى-بغداد)) ترد الكلمات التالية:
((...على أية حال فإن الظروف الشاقة للحياة الشخصية والأزمة الروحية التي اجتاحت الشاعر بعد انتحار صديقه بينين، وبعد توطد بداية عبادة الفرد الستالينية قد قوّت من اضطراب أعصاب مايكوفسكي وانهيارها فوقعت الكارثة..
ففي 14 نيسان 1930 أطلق ماياكوفسكي النار على نفسه منتحرا وهو في أوج عزه وازدهاره. وكانت لوفاته على هذا النحو الفاجع قبل الأوان رنة أسى عميقة اجتاحت البلاد السوفييتية من أقصاها إلى أقصاها، وقد رثاه وأبّنه كل شعراء البلاد البارزين وكافة شعراء أوروبا والعالم المعاصرين له سواء كانوا متفقين معه أم غير متفقين)).
مثل هذه العبارات كثيرا ما تصادفنا أثناء قراءتنا لترجمات " الإنسان" سواء أكان هذا الإنسان شاعرا- كما في مثلنا هذا- أو أديبا أو فنانا أو مفكرا أو سياسيا..الخ.
(أزمة روحية ومعاناة شخصية ظروف قهر وخنق للحرية والعمل.انتحار أو موت في ظروف غامضة.. أو محاكمات صورية تستهدف التغطية على القرار الصادر مسبقا..أسى تجتاح البلاد طولا وعرضا للفاجعة..رثاء ممن اتفقوا معه وممن اختلفوا معه..الخ)
والنتيجة:
موت فكر لا تلبث التربة أن تتراكم على انتاجه الذي سلم من الحرق والضياع على رفوف مكتبة عامة أو في قيعان صناديق مقفلة..ويموت الإنسان(الإنسانية) المفجوع..!!
ولكن التجربة تستمر..وتتكررالمأساة.وينمو ماياكوفسكي جديد(آخر) ..وينشأ((بين بسطاء الناس المليئين بمشاعر الكرامة الذاتية، والإباء المنظورة غالبا لدى الجبليين...ويعتاد منذ الطفولة أن يرى في العمل والكدح التزاما وحقا وسعادة للإنسان..)).
ولكن الظروف الشاقة والأزمة الروحية وظروف(عبادة الفرد الستالينية) تقوي من اضطراب أعصابه وانهيارها، فتتجدد الكارثة وتنهي رصاصة أو إلقاء في بحر أو من سطح عال، أو تناول مادة سامة تنهي حياة رائدة، تغذي فكرا مشرقا يرسل اشعاعاته عبر حياة متأنية عامة، أو شعر صاف نابع من وجدان رقيق رهيف، أو نظرية إنسانية طموحة لخدمة الإنسان أو اكتشاف علمي باهر يوفر الرفاه للبشر..الخ.
تجربة تلازم بني البشر منذ وعى نفسه ودوره ولكن المدى مختلف بين مرحلة واخرى..!
إن اختلاف المدى هذا هو مؤشر بيّن على أن القدرة على جعل هذه التجربة تتخذ أقل مدى ممكن..هو ممكن.
التاريخ كلمة يستخدمها الناس جميعا ولكنه لا يحمل المفهوم المحدد ذاته لديهم جميعا..
إن امتزاج العواطف والمصالح في كتابته وقراءته يميّع النظرة إلى التاريخ، مثلما يميّع فهم التاريخ أيضا..وهذا الامتزاج هو السبب في اختلا ف فهم معنى التاريخ لدى الناس. ولكن..!
هل يمكن تجريد الإنسان من عواطفه ومشاعره ومصالحه..؟
سؤال يجيب عنه الماديون بالنفي...ونجيب نحن أيضا بالنفي في حدود معينة..
الإنسان قابلية مطلقة..في حدود طبيعته كإنسان، فإذا نظرنا إليه في ارتباطه مع أسرته ومجتمعه.. فالقابلية تزداد..وموضوعيته وعلميته تزدادان، إذا كان في سبيلهما ماشيا، ولمضمونهما طالبا.
والارتباط لا يعني أن يبقى الإنسان مثلا عازبا أو لا يولد من أبوين(أب وام) مثل آدم..وإنما يعني أن يفهم بمقتضى إيمان معين أن هناك حق يعلو حق هذه الارتباطات..بل هو يعمل لوضع ارتباطاته هذه ضمن اتجاه يوصل إلى ذلك الحق..عندئذ فهو كفرد قابلية مطلقة تنقصها فقط التربية. والتربية الذاتية والمعاناة ضمن اتجاه متصوّر ملامحه العامة على الأقل. وهذا بالضبط ما نلمسه لدى العظماء من بني البشر..عظماء في مختلف مجالات الحياة الإنسانية(السياسية- العلمية- الأدبية-الاجتماعية..الخ.
وإذا ما استثنينا الأنبياء باعتبارهم موحى إليهم فاستمدادهم وعيهم وقابلياتهم ذاتها قد تكون سببا لاختيارهم لنبوة ذاتها..
الإنسان – إذا- قابلية مطلقة – بهذا المعنى- وإذا فكتّاب التاريخ وقراؤه يمكن أن يتوفر بينهم من استطاع أن يتجرد- إلى الحد الأقصى الممكن- من عواطفه ومصالحه في كتابة التاريخ وفي قراءة التاريخ..
وإلى هؤلاء نتوجه بالقول الآنف الذكر:
((إن اختلاف المدى هذا (مدى المأساة في التجربة الإنسانية ) هو مؤشر بيّن على أن هذه القدرة على جعل هذه التجربة تتخذ أقل مدى ممكن، هو ممكن..)).
والتاريخ شاهد على مبررات اقتناعنا بهذه الفكرة. فعندما يكون عمر بن عبد العزيز مثلا هو خليفة المسلمين في عهد لا يزال الإيمان بالله كخالق ومقصود هو محور الفكر والعمل لدى أفراد المجتمع. هذا الفكر والعمل الذين تجليا في سلوك إطاره الخلق وأفرعه الخلق ..عندما يكون كذلك فلا غرابة أن نرى هذه التجربة إلى أقل مدى ممكن. وعمر هذا الذي وضعت الخلافة في رقبته كرها منه، ولم يقم بانقلاب أو ثورة عسكر من أجل التربع على عرشها(وإنما أتت إليه منقادة )بتعبير احد الشعراء..
وكسرى انوشيروان الذي يشهد التاريخ أيضا على عهده الرخيّ واطمئنان الناس فيه من أفراد مملكته في ظل حكم كان الأخلاق محور قناعاته وسلوكاته..
هذا ما كتبه تاريخ يصف –بغض النظر عن العواطف والمصالح..دليلنا اجتماع أصدقاء العهدين وخصومهما على كتابة ذلك التاريخ..!
إن التواصل الإنساني واحترام البعد العميق للذات الإنسانية وفرا لنا نماذج صادقة من الكتابات التاريخية..
كما أن احترام البعد العميق للذات الإنسانية سيصبح مثار سخرية ألسن من ورائها أدمغة محشوة بالسخرية والقذع اللذين لا يمكن لهذه الأدمغة أن تفرز- إذا جاز لنا التعبير- سوى ذلك التفكير والتمويه اللذين يشكلان الجوّ الضّبابي والعاطفي الملتهب للبروز ولتقويض أركان الحقيقة..وبالتالي..لإتاحة المجال لكي تتكرر التجربة المأساة في حياة البشر..!
فإلى متى سيظل هكذا يا أيها البشر..!!!!


............
كسرى أنو شروا ن العادل هو " خسرو الأول " الساساني حكم في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي(من خلاصة تاريخ الكرد و كردستان.أمين زكي بك)
عن الحصن النفسي