مملكةُ الصمت


قصة قصيرة

ليس أهلها فقراء إلى هذا الحد ! ومع ذلك تركوها دون شاهدة من حجر تربط إليها غصون الآس ! كأنها عاشت دون اسم ، دون وجه ! ينكرونها ! مَنْ غَرَسَ إذنْ هذه العلبة من المعدن في الطين الهش لتوضع فيها أزهاراً لم يجرؤْ أحدٌ أحد على وضعها ؟ مَنْ ؟

زَيَّنَ الأحياءُ المقبرة في صباح العيد بحزم الآس ، وزهر الغريب . حمل بعضهم بزنبق أبيض وأحمر تفتح مبكراً هذه السنة . ثم خرجوا من زيارة الموتى إلى زيارة الأحياء ، إلى الحلوى ، حلوى العيد ، وروائح ِ الطعام وعبق ِ السَّمن.

تَفرَّجَ الموتى من خلف ستائرهم الشفافة على تلك الزيارات . وراقبوا الحزنَ الجاف ، ولاحظوا غيرة الأحياء من راحة الموتى الذين تركوا الهمَّ لمن بقي في الحياة . وتابعوا حواراً بين الأحياء وبين القبور ، لا يستطيع الموتى أن يجيبوا فيه على كلمة ٍ مما يقال . لو استطاعوا لقالوا لأولئك الأحياء : يومَ كنتم تستمتعون بالسَّمن وتأملون بالعسل لم تغبطونا على الموت! وَلَقالوا : تتمنون عودتنا ، فهل تركتم رقعة بقدر الكف لقدم ، أو تركتم شجرة نستظل بها ؟ ولقالوا : زورتم الحسابات فهل تُقَدِّرون الفوضى التي ستعصف بكم لو تحققت رغبتكم فعدنا إلى الحياة ؟ وَلَقالوا : إياكم أن تغرونا بما تخلصنا منه من عواطف الأحياء ! ويجري كثير من العتاب ، وكثير من الغضب والغمِّ ، ولكن الكلام والصمت كانا موزعين بين جانبين يقول كل منهما لنفسه ما يشاء ويتوهم ما أراد !

لم يكن الموتى يتجولون في مملكتهم في أيام الأعياد إلا بعد أن ينصرف الزوار ، وتُغْلَق البوابات . وكانوا يبكِّرون جولتهم في المساء في تلك الأيام كي يتأملوا مملكتهم المزينة بالآس والزهر والريحان. ويوزعوا في عدل ما أخطأ في توزيعه الأحياء . فيفكُّون أغصان الآس المكتظة على شاهدة ليحملوا بعضها إلى شاهدة أخرى قَلّ فيها . وينقلونَ الورد إلى قبور الشباب والفقراء ، ويرشونها بالماء.

هي ، لم تكنْ تعرفُ بعد تلك الواجبات . أحاطَ بها المساءُ فانصرفتْ إلى ما كانت تحبُّه في الحياة . آه ، المساء!

بعد حرِّ النَّهار ، تفتحُ بابَ القاعة وتخرجُ إلى أرض الدار . تغرف الماء بالسطل من البركة وتسكبه على الحجارة البيضاء والسوداء . فتشعر بهواء ساخن يفور من الأرض . ثم تهبُّ الرطوبة ، ويصبح الهواء منعشاً رخياً . ترفع ذراعيها وتسفحُ الماءَ على النباتات المصفوفة في طرف أرض الدار. ترفعُ ذراعَها وتنثرُ الماء على شجرة الليمون ، على البنفسج في الأحواض ، تفورُ النافورة في وسط البركة ، وتدور هي حولَ نفسها . ماذا تفعلين يا زهرة؟! ؟ هل ذهبَ بعقلك الحرُّ ؟ أم المساءُ والماءُ؟ !

تسمعُ كلماتِ أمِّها وهي تَرُشُّ الأشجار بالماء في فصل ٍ ربيعي زاهٍ . تغسلُ روحَها من الغبار ! تغسلُ ذراعيها إلى المرفقين بالرذاذ! ترفع رأسها . ازْرَقَّتْ السماء ! انكسر الحرُ فاستعادت الدنيا ألوانها! يا للمساء ! يغسلُ المدينة ويعيدُ إليها الألوان فلماذا أخرجوها من هناك في تلك الساعة المحبوبة في المساء؟!

تسمعُ أمَّها يا زهرة ، أعطني القهوة! فتحمل الصينية ، ويفوحُ رائحة البن والهيل الذي طحنته قُبَيْل لحظات. وتدخل إلى الزوَّار . نساء على رؤوسهن غطاء بمختلف الأعمار.

يا زهرةُ أعطني القهوة !

تحملُ زهرةُ القهوة وتدخلُ إلى الضيوف . زهرةُ تعرفُ أنَّ الزائراتِ يبحثْنَ لابنهن عن كنز ، آملات باكتشاف نادر الوجود.
تحملُ زهرةُ القهوةُ ، وتدخلُ كي ترضيَ أمَّها.

لا أدري لماذا أقْدَمَ أخي على ذلك حيث جَرَفَـهُ الجنون؟! أنا سَبَبُ جنونِه ، لماذا كان عصبياً ؟ هل لأنه تَخَرَّجَ ولم يجدْ عَمَلاً ؟! مَرَّتْ سنوات وهو ينتقلُ من عمل لأخر فيفشلُ هنا وهناك.

كان يحملُني ويدلِّلُني ، ويشتري لي الحلوياتِ والملابس ، ويجلسني في أرجوحة العيد ، ويشتري لي دفاترَ المدرسة ، وبخطِّه يكتبُ اسمي على المربعات البيضاء .

وَصَلَتْ زهرةُ إلى مملكة الصَّمْتِ قُبَيْل العيد ، وما زالتْ تَحُسُّ بالألم ، وتلمسُ بكفها رقبتها ، وتحسُّ الجرح.

تتساءلُ زهرةُ مقهورة ًمَنْ غَرَسَ تلك العلبةَ في الطين ؟

كانت تتجولُ وحيدةً عندما اقتربَ منها شاب ، ارتعشتْ وابتعدتْ عنه لكنه قطعَ طريقها ، فوقفا وجهاً لوجه . فقال : اغفري لي ! فهل تُصْلِحُ المغفرةُ ما أفسده الدَّهْرُ؟ هل يعودُ إليها المساءُ في أرض ِ الدار في آخر نهار حار ، والماءُ يبلل ذراعيها وهي ترشُّ به الأشجار؟

هل تُداوي المغفرةُ جُرحَها المتوهِّج !
- آه تنسينَ أنَّني عوقبتُ مثلك !
- فلتعاقبْ على حمقك ولكنْ ما ذنبي أنا .

لو عَرَفْتُ جنونَ أخيك لتقدَّمْتُ وطلبتُ يدك دون إبطاء أو تأجيل.

التفتتْ ما زالَ يتبعُها ماذا يريد ؟ أن يواسيَها ؟ وهل توجدُ في هذه مواساة ؟ لكنها تساءلت فجأة : كيف وَصَلَ إلى هنا ؟ ولماذا يلبسُ ملابسَ مملكةِ الصَّمْتِ البيضاء ؟

كان في عُمْر ِ أخيها وصاحبه المقرَّب . بلْ أقرب الأصحاب إلى القلب ، وكانا متلازمان دوماً حتى افترقا ومضى كلٌّ منهما إلى غايته.

أخوها بدأ يبحث عن عمل ، وهذا اشترى سيارة متواضعة وكتب عليها زهرة ، وزينها بالأزهار المختلفة.

بأي حقٍّ يكتبُ اسمَها على سيارته ؟!

وَلِمَ جُنَّ أخوها (صاحبه أيام الطفولة ) عندما كَتَبَ اسمَها على سيارته ، وزيَّنها بالأزهار التي أهيمُ بها.

ماذا يقولُ ؟ أحقاً لم يقصد اسمها ؟ هل تناوله في خِفَّة ٍ ولم يُقَدِّرْ أنه سيسبب قتلها ! هل كان يتصوَّرُ أنَّ صاحبه الذي أمضى معه سنوات ٍ في الحارات والشوارع ، يمكنُ أنْ يقتلَ أختَه كالمتوحش!

تتذكرُ زهرةُ أنَّ البلدَ كلَّها تحدثت عن شابٍّ ذَبَحَ أختََه في حديقة منزلها ، وسالَ دَمُها متخضِّباً بالزهور لمجرد أنَّ شخصاً كَتَبَ اسمَها على سيارته.

ترفع كَفَّها ، تلمسُ عنقَها المذبوح . ليس أخي متوحشاً ! الحياة هي المتوحشة ! تلتفتُ إلى الرجل ، أنت أيضاً مذنب ، كَتَبْتَ على السيارة اسمي ، وغطيتها بالأزهار التي أعشقُها.

مَشَتْ وتبعها صامتاً . وتذكرتْ أنَّهُ في مملكة الصَّمْت مثلها برداء ٍ أبيض ، أنت إذن مَنْ غَرَسَ العلبة في الطين الهش ؟ يوم مقتلِها شَطَبَ بالدِّهان الأسود ما كتبه على سيارته ، وأزالَ الأزهار التي كانتْ تُزَيِّنُ سيارتَه. قَطَفَ كلَّ الأزهار من أماكنها وربطها بشرائط حمراء . وسار إلى المقبرة . إذنْ هو مَنْ غَرَسَ العلبةَ في الطِّين ! هو لم يجد شاهدة من الحجر يربطُ بها الآس ، فتناول علبة وغرسها في الطين الهش!

قال : كُنْتُ راكعاً فضبطني أخوك ... ولم أجدْ الوقت لأضعَ في العلبة الزهور ! مسحت عينيها وهي تستديرُ عنه : اسكتْ ، اسكتْ..
-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=