برنامج المبدعون يعرض على قناة الرسالة يتحدث عن المبدعين الذين أثروا ثقافتنا بالجوانب الروحية و الفكرية الابداعية
احببت نقلها لمن لا يتابع البرنامج بغية الفائدة
و الحلقة اليوم تتكلم عن الإمام
جعفر الصادق


هو جعفر بن محمد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أب طالب كرم الله وجهه أي ان نسبه ينتهي للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم من جهة فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنها
اما نسبه لامه فيمتد إلى ابي بكر الصديق حيث ان امه حفيدة عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق
و جدته لامه ايضا يمتد نسبها لابي بكر الصديق لذلك كان يقول عن نفسه : ولدني أبو بكر مرتين
لقب بالصادق لانه لم يجر على لسانه كذب قط
كان منبعا للحكمة و كان كريما جدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وكان يكره الخصومة و المشاكسة بين المسلمين فكان يدفع من ماله ليحل الخصومات بين المسلمين مما سبب له ديونا كثيرة
ساله سفيان الثوري مرة: لم جعل الموقف في الحج خارج الحرم و لم يجعل في مزدلفة؟
اجاب جعفر الصادق : الكعبة بيت الله و الحرم حجابه(حارسه) ،و الموقف بابه(عرفات) ، فلما قصده الوافدون (الحجاج) اوقفهم بالباب يتضرعون فلما أذن لهم الدخول أدناهم من الباب الثاني فلما نظر إلى كثرة تضرعهم أمرهم بذبح القرابين(النحر) فلما تطهروا من الذنوب أمرهم ان يزوروا بيته
ساله سفيان: فلم كره الصيام ايام التشريق؟
قال جعفر : لانهم في ضيافة الله و من يزور الكريم لا يتزود
علم الفرقتين من سنة وشيعة التآلف و التعايش
وكان شجاعا في قول الحق و له مهابة تكسوه تجعل من يراه يهابه ولو كان سلطانا
روى أبو نعيم في كتابه حلية الاولياء
زار ابو جعفر المنصور المدينة فبينما هو جالس وقع عليه الذباب ،فذبه،ثم عاد،فذبه ،فعاد ،فاضجره و دخل عليه الإمام فسأله : لم خلق الله الذباب؟
قال جعفر الصادق: ليذل الله به الجبابرة.
كانت هيبته كبيرة وقد خضع له اكبر ملوك الارض في حينها وهو خلفة المسلمين
روى ابو شمس الذهبي : دعاني المنصور و قال : إن جعفر بن محمد يطعن في سلطتي ،قتلني الله ان لم أقتله
فلقيت جعفر فقلت له: اجب امير المؤمنين . فتطهر و لبس ثيابا جددا يستعد للشهادة و بينما هو الطريق كان يهمس بكلام لم اتبينه
لما وصلنا قال المنصور : ادخله قتلني الله ان لم أقتله
فلما دخل الصادق قام له المنصور فتلقاه وقال له : أهلا بالنقي الساحة،البريء الخيانة. سلني أعطك
فساله للناس و لم سال لنفسه شيئا
ثم اخرج المنصور الغالية(الطيب)و طيبه بيديه
يقول ابو شمس :فتتبعت الصادق و سالته: اتيت بك وما اشك انه قاتلك؟
فعلمه الامام الصادق دعاءا جميلافيه تضرع لله و طلب منه بالحماية فانقلب عند خصمه حماية وعناية
كان عالما كبيرا وماله من خصم و قد روى له كتاب الحديث الستة من اهل السنة كالترمذي و النسائي و الشافعي و الامام مسلم
يقول ابن حجر: صدوق فقيه امام
ويقول ابو حاتم الراوية : ثقة لا يسال عن مثله
و ثقه الشافعي و ابن معين
قال عنه ابن حبان :من سادات اهل البيت ومن اتباع التابعين
كان استاذا لابي حنيفة النعمان وقد قال عنه:ما رايت احدا افقه من جعفر بن محمد

هذا مبدع سر عظمته نشأته في المنبت الكريم و ايضا المنح الربانية فقد اكرمه الله بالعلم و كان يستطيع كبح جماح نفسه اضافة لخصال الجود والكرم والتسامح التي تحلى بها
سلطان العلماء : العز بن عبد السلام



وسلطان العلماء هو الإمام: عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبي القاسم بن الحسن بن مهذب
.
وأما فيما يتعلق بهذا اللقب الذي اخترته عنوانا للحلقة: "سلطان العلماء" فقد لقب به من قبل أحد تلاميذه وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد ولهذا اللقب سر معروف سيتضح معنا من خلال هذه الحلقة.
حيــاتــه وعصـــــره
إن الشيخ الإمام العز.بن.عبد.السلام عاش في الشام ثم في مصر وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين وكانت دولة قوية ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضا حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه وبني عمه
شجاعتـه وجرأتـه في الحـق
لعل أبرز الجوانب في شخصية هذا الإمام هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد جدد السلطان العز.بن.عبد.السلام الإنكار العملي على السلاطين والأمراء وكان ينكر عليهم أحيانا علنا وأمام العامة لاسيما المنكر العلني ولا يخاف في الله لومة لائم.
فوائد الإنكار العلني:
إن الإنكار العلني والصدع بكلمة الحق له فوائد كثيرة وعظيمة لعل من أهمها:
أولا: أن يعذر العالم
ثانيا: التفاف العامة حول هذا العالم
ثالثا: تشجيع الآخرين على الإنكار
رابعا: قبول الحق
خامسا: رفع مسـتوى الأمة وعدم حجب الحقائق عنها
وكان العز.بن.عبد.السلام من العلماء الذين يسلكون هذا المنهج ولا يرون مانعا شرعيا منه .
مواقفـه العظيمـة
لقد كان لهذا الإمام الجليل مواقف في غاية العجب وهذه المواقف العظيمة لولا أنها مسطرة في الكتب لقلنا: إنها خيال من الخيال لكنها مكتوبة والذين كتبوها هم من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه.
ومن هذه المواقف العجيبة:
موقفه مع الملك الصالح إسماعيل:
عندما كان العز.بن.عبد.السلام في دمشق كان الحاكم رجلا يقال له: "الملك الصالح إسماعيل" من بني أيوب فولى العز.بن.عبد.السلام خطابة الجامع الأموي وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل هذا بالتحالف مع النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله فحالفهم وسلم لهم بعض الحصون كقلعة الشقيف وصفد وبعض الحصون وبعض المدن وذلك من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما رأى العز.بن.عبد.السلام هذا الموقف الخائن الموالي لأعداء الله ورسله - عليهم السلام- لم يصبر فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين وقالها له صريحة وقطع الدعاء له في الخطبة بعدما كان اعتاد أن يدعو له وختم الخطبة بقوله: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر". ثم نزل.
وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده فغضب عليه غضبا شديدا وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك.
وخرج العز.بن.عبد.السلام من دمشق مغضبا إلى جهة بيت المقدس وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضا والتقى أمراء النصارى قريبا من بيت المقدس فأرسل رجلا من بطانته وقال له: اذهب إلى العز.بن.عبد.السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه أن يأتي إلي ويعتذر مني ويعود إلى ما كان عليه فذهب الرجل إلى العز.بن.عبد.السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير فضحـك العز.بن.عبد.السلام ضحكة السـاخر وقال: "يا مسكين والله ما أرضى أن يقبل الملك الصالح إسماعيل يدي فضلا عن أن أقبل يده يا قوم أنا في واد وأنتم في واد آخر الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
قال: إذا نسجنك فقال: "افعلوا ما بدا لكم". فأخذوه وسجنوه في خيمة فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد ويذكر الله تعالى.
وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعا مع بعض زعماء النصارى الصليبيين كان اجتماعهم قريبا من العز.بن.عبد.السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ قالوا: نعم. فقال متفاخرا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سجناه لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع واتفاقنا معكم على قتال المصريين.
فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته
فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل وكانت هذه بداية هزيمته وفشله وجاءت جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين وأفرجت عن الإمام العز.بن.عبد.السلام.
هذا موقف صرح فيه العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر ورأى أن هذا الذي يسعه مع أنه كان يستطيع غير ذلك ولكنه رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصة أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين ولذلك وجه إليه الاستفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح للنصارى
فأفتى - رحمه الله - بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.
موقفه مع الصالح أيوب:
خرج العز.بن.عبد.السلام بعد ذلك إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسؤوليات كبيرة في الدولة.
وكان المتوقع أن يقول العز.بن.عبد.السلام: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظا على مصالح المسلمين وألا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب -مع أنه رجل عفيف وشريف- إلا أنه كان رجلا جبارا مستبدا شديد الهيبة حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضـرته أبدا ولا يشفع لأحد ولا يتكلم إلا جوابا لسؤال حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائما نقول ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب: لن نخرج من المجلس إلا إلى السجن فهو رجل مهيب وإذا سجـن إنسانا نسيـه ولا يستطيع أحد أن يكلمه فيه أو يذكره به وكان له عظمة وأبهة وخوف وذعر في نفوس الناس سواء الخاصة منهم والعامة فماذا كان موقف العز.بن.عبد.السلام معه
في يوم العيد خرج موكب السلطان يجوس في شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والسيوف مصلتة والأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان هيبة وأبهة -وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت- وهنا وقف العز.بن.عبد.السلام وقال: يا أيوب هكذا باسمـه مجردا بلا ألقاب فالتفت الحاكم ليرى: من الذي يخاطبه باسمه الصريح بلا مقدمات ولا ألقاب ثم قال له العز: ما حجتك عند الله - عز وجل - غدا إن قال لك: ألم أبوئك ملك مصر فأبحت الخمور فقال: أويحدث هذا في مصر قال: نعم في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة
فقال: يا سيدي أنا ما فعلت هذا إنما هو من عهد أبي. فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: إذن أنت من الذين يقولون: "إنا وجدنا آباءنا على أمة" [الزخرف:] فقال: لا أعوذ بالله وأصدر أمرا بإبطالها فورا ومنع بيع الخمور في مصر.
رجع العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة كما يعلمهم الحلال والحرام ويعلمهم الغيرة على الدين مثل ما يعلمهم الأحكام إذ ما قيمة أن يوجد طالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث ومع ذلك هو ميت الغيرة على الإسلام لا يغضب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتمعر وجهه إذا رأى المنكر ويتطلع لمنازل الصديقين والشهداء ما قيمة هذا العلم
وعندما رجع العز.بن.عبد.السلام إلى مجلس درسه جاءه أحد تلاميذه يقال له: "الباجي" يسأل: كيف الحال قال: بخير والحمد لله. قال: كيف فعلت مع السلطان قال: يا ولدي رأيت السلطان وهو في أبهة وعظمة فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه فأردت أن أهينها.
إذن العز.بن.عبد.السلام أعلن هذا الأمر على الناس لأنه يريد أن يربي السلطان ويقصد إنكار منكرين في وقت واحد:
المنكر الأول: الحانة التي يباع فيها الخمر.
والمنكر الثاني: هو هذا الغرور وهذه الأبهة والطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم فأراد أن يقتلعه ويزيله من نفسه لذا قال العز: "لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه". فقال له تلميذه الباجي: يا سيدي أما خفته قال: "لا والله يا بني استحضرت عظمة الله - عز وجل - وهيبته فرأيت السلطان أمامي كالقط".
لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط هل يأمر أو ينهى كلا بالطبع.
لعل من أسباب قيام العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - باتخاذ هذه المواقف العلنية أن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.

* موقفه مع أمراء المماليك وقصة " بيعه للملوك" المشهورة:

وهناك موقف آخـر يعد من أعجب مواقفه - رحمه الله - فقد كان المماليك هم الذين يحكمون مصر في عصر العز بن عبد السلام فالحكومة الحقيقية كانت في أيديهم فقد كان نائب السلطنة مملوكيا وكذلك أمراء الجيش والمسؤولون كلهم مماليك في الأصل وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق.
وكان العز.بن.عبد.السلام كبير القضاة بمصر فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها وقال: هذا عبد مملوك حتى لو كان أميرا وكبيرا عندهم أو قائدا في الجيش يرده إذ لابد أن يباع ويحرر وبعد ذلك يصحح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها أما الآن فهم عبيد.
فغضب المماليك من هذا الإمام وجاؤوا إليه وقالوا: ماذا تصنع بنا قال: رددنا بيعكم فغضبوا أشد الغضب ورفعوا أمره إلى السلطان فقال: هذا أمر لا يعنيه.
فلما سمع العز.بن.عبد.السلام هذه الكلمة قام وعزل نفسه من القضاء.
لقد كان من أهم جوانب قوة العز.بن.عبد.السلام أنه كان أكبر من المناصب وأكبر من الوظائف وأكبر من الأسماء ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها إنما يستمد قوته من إيمانه بالله - عز وجل - ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق ثم من الأمة التي أعطته ثقتها واتباعها في الحق يصدع به.
ولذا أصبح العز.بن.عبد.السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته فلذلك عزل نفسه عن القضاء إذ كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي وهو لا يحكم فيها إلا بحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قام العز بتصرف آخر مشابه وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشـترى حمارين ووضع متاعه على حمار وأركب زوجته وطفله على الحمار الآخر ومشى بهذا الموكب البسيط المتواضع يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الشام.
لكن الأمة كلها خرجت وراء العز.بن.عبد.السلام حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال وحتى الذين لا يؤبه لهم -هكذا تقول الرواية- مثل: النجارين والصباغين والكناسين... وخرج كل أصحاب الحرف والمهن -الشريفة والوضيعة- الجميع خرجوا وراء العز بن عبد.السلام في موكب مهيب رهيب.
ثم ذهب بعض الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمه إذا خرج العز.بن.عبد.السلام وخرجت الأمة كلها وراءه ما بقي لك أحد متى راح هؤلاء ذهب ملكك.
فأسرع الملك الصالح أيوب للعز وركض يدرك هذا الموكب ويسترضيه ويقول له: ارجع ولك ما تريد قال: لا أرجع أبدا إلا إذا وافقتني على ما طلبت من بيع هؤلاء المماليك قال: لك ما تريد افعل ما تشاء.
رجع العز.بن.عبد.السلام وبدأ المماليك يحاولون معه ليغير رأيه إذ كيف يباعون بالمزاد العلني فأرسل إليه نائب السلطنة -وكان من المماليك- بالملاطفة فلم يفد معه هذا الأسلوب فاقترح بعضهم قتل العز.بن.عبد.السلام فذهب نائب السلطنة ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز.بن.عبد.السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريدون أن يقتلوه فخرج ولد العز.بن.عبد.السلام -واسمه عبد اللطيف- فرأى موقفا مهيبا مخيفا فرجع إلى والده وقال: يا والدي انج بنفسك.. الموت الموت قال: ما الخبر قال: الخبر كيت وكيت.
فقال العز.بن.عبد.السلام لولده: يا ولدي والله إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله - عز وجل -.
ثم خرج مسرعا إلى نائب السلطنة فلما رآه نائب السلطنة يبست أطرافه وتجمد وأصابته حالة من الذعر والرعب وأصبح يضطرب وسقط السيف من يده واصفر وجهه وسكت قليلا ثم بكى وقال: يا سيدي خبر ماذا تعمل قال العز: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: تقبض الثمن قال: نعم. قال: أين تضعه قال: في مصالح المسلمين العامة فطلب منه الدعاء وبكى بين يديه ثم انصرف.
وفعلا فعلها العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - قام وجمع هؤلاء وأعلن عنهم وبدأ يبيعهم وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار فلا يبيعه تحلة القسم وإنما يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأن هذه الواقعة لم يحدث مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.
إن جميع الأمم على مدى تاريخ البشرية جمعاء إذا أتوا يفاخروننا فإننا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز ابن عبد السلام هاتوا لنا شخصية فكرية في الأمم كلها تقف مثل هذا الموقف
ولعل تاريخ الإسـلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام - رحمه الله - رحمة واسعة.
وقد سجل هذا الموقف - بقلمه البـارع وأدبه الرفيع- الأديب مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - في كتابه "وحي القلم" تحت عنوان "أمراء للبيع" وألف أحد المعاصرين كتابا سماه: "العز.بن.عبد.الس لام بائع الملوك".
إذن العز.بن.عبد.السلام كان شجـاعا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحـة ولا يداهـن ولا يخاف في الله لومة لائم.

محاربتـه للمنكـرات
لم يكن العز.بن.عبد.السلام يكتفي بإنكار المنكر بلسانه فحسب بل إن الأمر قد تعدى إلى أنه كان يتولى بنفسه تغيير المنكرات وقد سبق ذكر شيء من ذلك.
موقفه مع الوزير فخر الدين:
ومن أبرز المواقف التي تذكر في هذا الجانب: أن بعض تلاميذه أتوه في يوم من الأيام فقالوا له: إنه في مكان كذا قام وزير كبير في دولة المماليك ويدعى فخر الدين ببناء طبلخانة -وهي: مكان مخصص للغناء والرقص والموسيقى والفساد- وكان هذا المكان بقرب أحد المساجد وعندما تأكد العز.بن.عبد.السلام من صحة هذا الخبر جمع أولاده وبعض تلاميذه وذهب إلى المكان الذي يسمونه بالطبلخانة وقام وأخذ الفأس وبدأ في هدم هذا المكان هو ومن معه حتى سووه بالأرض.
فهل اكتفى بهذا لا بل أصدر قرارا بأن هذا الوزير ساقط العدالة فلا تقبل شهادته ولا يقبل منه أي خبر من الأخبار وأعلن ذلك للناس فسرعان ما تناقلت الأمة هذا الخبر عن العز بن عبد السلام.
وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم بإسقاط عدالته لن يتأثر به فخر الدين إلا في مصر فقط ولكنهم تعجبوا أشد العجب حينما حدث خلاف ذلك فقد أرسل ملك مصر "الملك الصالح" إلى الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رسالة شفهية بواسطة أحد الأشخاص وعندما أبلغ هذا الرجل الرسالة إلى الخليفة المستعصم قال له الخليفة: هل سمعت هذه الرسالة من ملك مصر مباشرة قال: لا ولكن أبلغنيها الوزير فخر الدين عن الملك فقال له الخليفة: إن هذا الوزير المذكور قد أسقط العز بن عبد السلام عدالته ولا أقبل خبره ارجع بهذه الرسالة فلن أقبل هذا الخبر حتى تأتيني به من حاكم مصر مباشرة فرجع الرسول إلى ملك مصر حتى شافهه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد وأداها إلى الخليفة المستعصم.
وعندما وصل خبر رد الخليفة لرواية هذا الوزير وخبره عرف الناس أن الأمة كلها مع العز.بن.عبد.السلام.
ولنا على هذه القصة ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: نلاحظ من هذه القصة: كيف أن الأمة كانت تواصل العلماء وتخبرهم بما يجري وما يقع فالعالم ليس كالشمس يشرق على هذه الدنيا كلها ولذا يحتاج من تلاميذه وممن حوله أن يقولوا له: حصل كذا وحصل كذا بحيث إن الأمة كلها تمد جسورها مع العالم وهذا أمر مهم وضروري للغاية.



الملاحظة الثانية: أن العز.بن.عبد.السلام كان يتولى بنفسه أحيانا مباشرة تغيير المنكر باليد وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" والعز كان يستطيع أن يغير بيده فقد كان منصبه ومكانته تؤهله لذلك .
وتغييره - رحمه الله - باليد يعد موقفا وسطا بين صورتين تقعان في كل زمان ومكان:
الأولى: صورة بعض المتعجلين الذين يقومون بتغيير المنكرات بأيديهم لكنهم ليس لديهم قوة ولا مكانة بحيث إن تغييرهم للمنكر قد يعود بنتائج سلبية وهذا ما نلاحظه في هذا العصر في كثير من البلدان يكون تغيير المنكر باليد -بإتلافه أو إحراقه أو هدمه أو منع وقوعه- سببا في مضاعفة المنكر.
الثانية: وهي صورة بعض طلبة العلم والمحسوبين على الدعوة والخير ممن إذا رأى المنكر طأطأ رأسه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون وربما لا يمر على هذا المكان الذي شاهد فيه المنكر ثانية ولا يبذل أي محاولة إيجابية لتغيير هذا المنكر. وبالطبع فإن الهروب من المنكر لا يعني أن المنكر زال وقول: "إنا لله وإنا إليه راجعـون" هو قول طيب بلا شــك وذكر لله – عـز وجل - ولكن يجب أن يشفع ذلك ويؤيد بموقف إيجابي فعال يعمل على إزالة المنكر.
فكان موقف العز.بن.عبد.السلام موقفا وسطا بين هاتين الصورتين فهو رجل متمكن له قوة وقدرة ولذا استطاع بها أن يغير المنكر بيده.
الملاحظة الثالثة: إن الذي جعل العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - يقف هذا الموقف هو أن الأمة كلها وراءه ولذلك لما أصدر قرار إسقاط عدالة هذا الرجل ما عاد أحد يقبل منه أي قول.
فإذا كانت الأمة فعلا ملتفة حول علمائها وقادتها الشرعيين فإنها تكتسب بهم قوة وتكسبهم قوة:
- أما العلماء فإن الواحد منهم يستطيع بتأييد الأمة له والتفافها حوله أن يأمر وينهى ويعلن الحق وينكر المنكر وإذا غضب غضبت له ألوف وألوف.
- من جهة أخرى فالأمة تتقوى بهم لأن هؤلاء العلماء ما اكتسبوا مكانتهم إلا لأنهم كانوا هم المدافعون الحقيقيون عن مصالح الأمة كما سيظهر ذلك في كلامنا عن مكانته عند الأمة.
خدمته للأمة على المستوى الخاص:
من المؤكد أن العز بن عبد السلام لم يكن عنده امتيازات شخصية فلم يكن عنده رواتب ضخمة ولا قصور فخمة بل -كما سبق- كان الموكب الذي أراد أن يخرج به من مصر عبارة عن حمارين وكان أثاثه كله يحمل في مزادتين ورغم ذلك لم يتأخر العز عن خدمة الأمة على قلة ما يملك.
فقد حدث في دمشق انخفاض في الأسعار حتى أصبحت البساتين تباع بأسعار زهيدة فجاءت زوجة العز له وقد جمعت مصاغا لها وأعطته للعز وقالت له: اشتر لنا بستانا نصطاف فيه -أي نخرج إليه في الصيف- فأخذ العز الحلي والمصاغ وباعه ثم وجد الناس محتاجين فتصدق به ثم رجع إلى البيت فقالت له زوجته: يا سيدي هل اشتريت لنا بستانا قال: نعم اشتريت لك بستانا ولكن في الجنة فقد رأيت الناس محتاجين ففرقت هذا المال فيهم. فقالت له: جزاك الله خيرا.
خدمته للأمة على المستوى العام:
كان العز.بن.عبد.السلام مدافعا أيضا عن مصالح الناس الاقتصادية والمالية العامة فهو يدافع عن أموالهم ويمنع الظلم والاعتداء على حقوقهم وإليك مثالا يوضح ذلك:
فعندما أراد حاكم مصر أن يقاتل التتار رأى أن أموال خزينة الدولة لا تكفي ورأى أن يأخذ أموالا من الناس فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم نريد أن نأخذ من الناس أموالا نستعين بها في تجهيز الجيش والسلاح ودفع رواتب الجند وما أشبه ذلك من المصالح التي لابد منها ونحن نواجه عدوا اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا وما في الخزينة لا يكفي لإعداد الجيش فقال له العز.بن.عبد.السلام: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم في ذلك الوقت اطلب القرض وأما قبل ذلك فلا فأحضر السلطان والعسكر كل ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره وانتصروا.
هذا الموقف تناقلته الأمة وعرفت من وراءه وأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تغلب أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز.بن.عبد.السلام .
معايشته للواقع
إن من أهم الأمور التي جعلت الأمة ترتبط بالعز ابن.عبد.السلام معايشة الواقع.
فلم يكن العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - معزولا عن هموم الأمة ومشاكلها وأوضاعها بل كان يعيش أولا بأول مشاكل الأمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية...
وقد علمنا مما سبق من مواقفه كم كان يعيش مشكلات الأمة وهمومها ولكننا بالإضافة إلى ذلك لو نظرنا إلى كتبه لوجدنا أن لها علاقة كبيرة بالواقع.
فصحيح أن العز.بن.عبد.السلام كانت له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها ولكنه مع ذلك كانت له كتب أخرى لها ارتباط بالواقع مثل:
كتاب: "الفتن والبلايا والمحن والرزايا" الذي يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة في عصره.
وله كتاب اسمه: "ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام" وقد ألف هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام وبدؤوا يحاربون المسلمين ففزع كثير من المسلمين وبدؤوا يفرون إلى الأمصار الأخرى ويتركون الشام خلفهم فكيف عالج العز هذا الأمر
لقد ألف هذا الكتاب الذي يثبت به المسلمين ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها بل يحث المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى بلاد الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها.
وله كتاب اسمه: "أحكام الجهاد" تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله إضافة إلى أنه هو نفسه كان يقوم بالجهاد مباشرة ويشارك فيه حتى إنه في إحدى المرات لما غزا التتار بلاد مصر جبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض فاستشاروا الشيخ عز الدين فقال : اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فامتثلوا أمره وكان العز.بن.عبد.السلام في جيشه يثبت الناس ويرفع معنوياتهم ويقويهم ويلهب حماسـهم حتى كانت الدائرة على الأعـداء وانتصر المسلمون.
ومما صنف العز.بن.عبد.السلام وله تعلق بالواقع أيضا ما كتبه في الفتاوى حيث ناقش في هذه الفتاوى بعض القضايا المتعلقة بعصره.
تضـامن العلمـاء معـه
إن من أبرز الجوانب في حياة العز.بن.عبد.السلام والتي ساعدت على نجاحه: أن العلماء كانوا متضامنين معه فلم يكن العلماء يقفون عند العز.بن.عبد.السلام ليقولوا: هذا سرق منا الأضواء وهذا فعل وفعل وما أبقى لنا شيئا بل كان العلماء يدا واحدة خاصة العلماء العاملين ومما يدل على ذلك:
موقف عبد العظيم المنذري معه:
كان المفتي في مصر: هو الإمام عبد العظيم المنذري فلما جاء العز ابن.عبد.السلام قال الإمام المنذري: قد كنت أفتي ولم يكن الإمام العز موجودا أما الآن فإن منصب الإفتاء متعين عليه.
موقف جمال الدين الحصيري معه:
عندما غضب أحد أمراء الشام على العز بن عبد السلام ومنعه من التدريس وفرض عليه الإقامة الجبرية ذهب أحد الفقهاء الأحناف وهو جمال الدين الحصيري -وكان فقيها مهيبا- إلى الحاكم في قلعته ووقف عند الباب على حماره فقال الحاكم: دعوه يدخل فلما دخل قام الحاكم إليه وأنزله بنفسه وقدمه وقدره وأبى أن يأكل إلا بعده فقال الشيخ: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك فقال له السلطان: يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه قال: ما الذي حدث بينك وبين الإمام العز.بن.عبد.السلام قال: حدث كذا وكذا وذكر القضية فقال هذا الفقيه: والله لو كان العز.بن.عبد.السلام في الهند أو في أقصى الدنيا لكان جديرا بك أن تسعى في أن يحضر إليك فإنه شرف لك أن تملك أمة فيها مثل العز.بن.عبد.السلام فينبغي أن تسترضيه فوافق على ذلك وأرضى العز بن.عبد.السلام وجعله في مقام رفيع.
إذن القضية هي تربية العز التي تلقاها من مشايخه من أمثال: ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني ومن ثم أدى الأمانة وسلم الراية إلى من بعده كابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ.
فائدتان عظيمتان من حيــاة العــز
وأختم الحديث عن العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - بذكر فائدتين مهمتين من حياته.
وهاتان الفائدتان من المصلحة أن يعرفهما كل من يدرس حياة العز.بن.عبد.السلام وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفائدة الأولى: طلبه للعلم في الكبر:
قد يظن بعض الناس أن هذا العالم الجليل قد طلب العلم في صغره وهذا غير صحيح فقد كان جاهلا أول أمره وكبرت سنه وما تعلم وهذا عبرة لمن كبروا ولم يتعلموا.
وبعد ذلك أغفى إغفاءة بسيطة وسمع أحدا يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل قال: أريد العلم لأن العلم يقود إلى العمل.
فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي وجلس عليه حتى حفظه ثم بعد ذلك ظل يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي- أعلم أهل زمانه وكان كثير التعبد لله - جل وعلا -.
الفائدة الثانية: ثباته عند الممات:
إذا كانت الفائدة الأولى متعلقة ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية فإن الفائدة الثانية تتعلق بنهاية حياته.
ففي نهاية حياته ولما حضرته الوفاة وقرب موته وكان ذلك في حكم السلطان بيبرس الذي كان يحب العز ابن عبد السلام حتى إنه لما مات قال: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني - أي: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني- فجاء السلطان بيبرس إلى العز في مرض موته وطلب منه أن يعين أحد أولاده في منصبه وكان للعز أكثر من ولد من أشهرهم: عبد اللطيف طالب علم ومترجم له فقال له العز: ما فيهم من يصلح.
فالمسألة ليست مجاملات ولا أمور تتم بهذه الطريقة أولادي ما فيهم من يصلح إنما أعين فلانا وجاء برجل بعيد أجنبي وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب.
وهكذا ضرب العز مثالا للتجرد عن المصالح الشخصية ورغبات النفس وأكد على ضرورة ابتغاء وجه الله تعالى ورعاية صالح الأمة في كل وقت وحين حتى على فراش الموت ولعل هذا من علامات الثبات عند الممات فرحمة الله على هذا الإمام الجليل
نقلا عن قناة الرسالة



الإمـام الأوزاعـي



عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي , ولد بـ"بعلبك" ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه, وانتقل من بلد إلى بلد , وتأدب بنفسه.

قال ابن كثير: لم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار والعلماء وغيرهم أعقل منه ولا أكثر أدبا ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتا منه , وما تكلم بكلمة إلا تعين على السامع من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنه.
وقد عرف الإمام الأوزاعي بتطبيقه لعلمه الذي علمه وبجهاده باللسان والجنان والسنان.

- كنز العلم ونبع الحكمة ..

لقد كان الأوزاعي رحمه الله سيد العلم في زمانه ومركز الفقه والحكمة , قال ابن كثير: ساد أهل زمانه في بلده وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.
أدرك خلقا من التابعين كثيرا, وحدث عنه جماعات من سادات أهل السنة والجماعة كمالك بن أنس والثوري والزهري وهو من شيوخه, وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.

وقد كان إماما يقتدى به ومنبعا يستقى منه العلم والعمل معا , قال مالك: كان الأوزاعي إماما يقتدى به , وقال سفيان بن عيينة: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.
وقد كان العلماء والأئمة يكبرونه ويجلونه أيما إجلال فيما بينهم , يقول ابن كثير: وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به, والثوري يقول: افسحوا للشيخ, حتى أجلساه عند الكعبة, وجلسا بين يديه يأخذان عنه.

وقال ابن كثير: وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر, ومن العصر حتى صليا المغرب, فغمره الأوزاعي في المغازي, وغمره مالك في شيء من الفقه , قال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بـ[حدثنا وأخبرنا] , قال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة


- يوصي بالسنة وأهلها وبالصحابة وتوقيرهم وإجلالهم

فقد روى عنه الذهبي أنه كان يقول ويوصي الناس في المجالس والمساجد والتجمعات : عليكم بآثار السلف وإن رفضكم الناس, وإياكم وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه.
ونقل ابن الجوزي أنه كان دوما ما يقول مادحا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم , فهم المصباح المنير والنور المستطير

ونقل ابن كثير وغيره عنه أنه لطالما كان يوصي بالسنة وأهلها ويقول : اصبر على السنة, وقف حيث يقف القوم, وقل ما قالوا, وكف عما كفوا.


- عبادة المتبتلين وخشوع السابقين

لقد جمع الأوزاعي رحمه الله في عبادته لربه بين شتى أنواعها وصنوفها سواء إخلاص العمل أو شفافية النصيحة أو بذل الجهد بالمال والوقت والجسد أو رقة القلب ودفق العين .. بل كان معطاء في سلوكه كله فكأنما حياته كلها صارت عبودية خالصة امتثالا لقوله تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " قال ابن عساكر: كان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة, ورعا ناسكا طويل الصمت.
و قال ابن عجلان: لم أر أحدا انصح للمسلمين من الأوزاعي , وقال: ما رؤي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط , وقال ابن كثير: كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه , قال أصحابه: ما رأيناه يبكي في مجلسه قط, وكان إذا خلى بكى حتى يرحم , قال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي., قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس, وكان يؤثر عن السلف ذلك, قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.

وقال ابن عساكر : كان الأوزاعي يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة. أخذ ذلك من قوله تعالى: " ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا .. إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا "
قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
وقال: دخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل صبيا بال هنا قالت: هذه دموع الشيخ من بكائه في سجوده, هكذا يصبح كل يوم.
قال ابن كثير: وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم, وكان له أكثر من سبعين ألف دينار - ورثهم - فلم يمسك منهم شيئا, ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره, ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه, بل كان ينفق ذلك كله في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.

وسمع يوما بائعا يبيع البصل وهو يقول: يا بصل أحلى من العسل. فقال الأوزاعي: سبحان الله أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح
وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كنا قبل اليوم نضحك ونلعب, أما وقد صرنا يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ.
قال ابن كثير: لا خلاف أنه مات مرابطا في سبيل الله - رحمه الله – فأي حياة تلك وأي عبادة





- أمر بالمعروف ونهي عن المنكر:

لقد كان الإمام سيفا مسلطا على المنكر بشتى أصنافه وألوانه خصوصا في مواقفه مع الظلمة الذين كانوا ربما نالوا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو آذو أهل سنته , قال ابن كثير: لما دخل الأوزاعي دمشق ناداه الأمير السفاح الذي قاتل بني أمية وأجلاهم من الشام, فتغيب عنه الأوزاعي ثلاثة أيام, ثم طلبه ثانية فحضر بين يديه , ويحكي لنا ابن كثير القصة على لسان الأوزاعي فيقول : قال الأوزاعي: "دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيرزانة والمسودة عن يمينه وشماله, معهم السيوف مصلتة والعمد الحديد, فسلمت عليه, فلم يرد السلام, ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده, ثم قال: يا أوزاعي, ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة أجهادا ورباطا هو فقلت: أيها الأمير قال عمر بن يقول: "إنما الأعمال بالنيات..." فنكت بالخيزرانة أشد ماكان كان ينكت, وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم, ثم قال: يا أوزاعي, ما : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى تقول في دماء بني أمية فقلت: قال رسول الله ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة", فنكت بها أشد من ذلك.
ثم قال: ما تقول في أموالهم فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا, وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي... وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي, وضم الناس ثيابهم لئلا تتلوث من دمي, وقرب مني السيوف, ثم أمرني بالانصراف, فلما خرجت إذا برسوله من ورائي, وإذا معه مائتا دينار, فأمرني بأخذها, فأخذتها لا لشيء إلا خوفا, فوقفت فتصدقت بها قبل أن أبرح المكان ورسول الأمير وجنده ينظرون إلي.
قال ابن كثير: ولما دخل المنصور الشام أوقفه الأوزاعي ووعظه موعظة شديدة, فألقى الله في قلب المنصور الإعظام له.

قال ابن كثير: كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان, وكان لا يدخل أبواب السلاطين إلا واعظا أو آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر.

ولما مات جلس على قبره بعض الأمراء فقال: يرحمك الله, فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني المنصور -.
رحيل .. ولنا البكاء على الذكرى ..
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: كنت جالسا عند الثوري, فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب قد قلعت, قال الثوري: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي. فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم.
قال:وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا ولا متاعا إلا ستة وثمانين درهما أنفقوها على تجهيزه, وكان قد مات مرابطا في سبيل الله - رحمه الله –
نقلا عن قناة الرسالة

عبد الله بن المبارك - الجزء الثاني



أقوال العلماء في ابن المبارك
يقول عبد الرحمن بن مهدي : "ما رأت عيناي مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري - ولا أشد تقشفا من شعبة ، ولا أعقل من مالك , ولا أنصح للأمة من ابن المبارك " كان يحب الأمة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام.
حب المسلمين يجري في دمه، حتى يؤثر عنه أنه قال: ""ياليت أن الله يجعلني فداء لأمة محمد ""
يقول سفيان الثوري وهو عالم الدنيا: "إني لأشتهي عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون مثله ثلاثة أيام".
كان ابن المبارك يجاهد نفسه حتى يجلس اليوم الطويل لا يتحدث إلا بطاعة، وكان يقول: ""إن عليكم ملائكة يكتبون ما تتكلمون به "" فكان يحصي كلامه؛ ماذا يقول، وكيف ينطق؛ لأنه يخاف الله.
قال ابن عيينة : "نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله بن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه عليه الصلاة والسلام".
وقال سويد بن سعيد : "رأيت ابن المبارك بـمكة فلما طاف وأتى زمزم -والناس ينظرون إليه- أخذ شربة بيده ثم استقبل القبلة وقال: ""اللهم إن ابن أبي الموالي -هذا راوي، يعرض السند على الله، لأنه يتعامل بالسند- حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن نبيك عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له " اللهم إني أشرب هذا لظمأ ذاك اليوم "".
، ابن المبارك لم يطلب علما لأنه عالم، ولا مالا ولا رزقا بل قال: ""اللهم إني أشربه لظمأ ذاك اليوم ""
قال نعيم بن حماد : ""كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لايجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه، كان إذا أقبل عليه سائل يرده في صدره "" يبكي لا يستطيع يتكلم وقالوا: كان إذا ذكر الموت مات كل عضو منه على جهة.
قال أبو حاتم الرازي وهو يروي حديثا عن ابن المبارك عن أحد أهل العلم قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقى الصفان خرج من العدو رجل فدعا إلى -المبارزة- فخرج إليه رجل مسلم فقتله يعني الرومي قتل المسلم- ثم خرج رجل آخر فقتله الرومي، ثم خرج رجل مسلم فقتله الرومي الكافر، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله، قال: فلما فتك هذا الرجل الرومي بالناس خرج ابن المبارك ملثما -وكان بطلا قويا شجاعا- فتبارز هو والرومي، فذبحه ابن المبارك ، ثم قتل في تلك المعركة سبعة، ودخل خيمته فقال قائد المعركة: التمسوا لي من هذا -وكان قد خمر وجهه حتى لا يعرف في المعركة- فذهبوا فوجدوه ابن المبارك ، قالوا: القائد يريدك ليعرفك قال: ""لكن الله يعرفني "" إذا عرفني الله انتهى الأمر.
وما مصلحة أن يعرفه القائد وما مصلحة الدعايات إذا برزوا في سبيل الله إذا عرفه الله فكفى.
توقيره للحديث ولآل البيت
وقال: جاء رجل من بني هاشم إلى عبد الله بن المبارك ليسمع منه، وأسرة بني هاشم أسرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يحدثه، يقول ابن المبارك : أنا لا أحدثك، فقال الشريف لغلامه: قم فإن أبا عبد الرحمن لا يرى أن يحدثنا، فلما قام ليركب فرسه، جاء ابن المبارك ليمسك بركاب الفرس، فقال: يا أبا عبد الرحمن تفعل هذا ولا ترى أن تحدثني قال: ""أذل لك بدني ولا أذل لك الحديث "" أنا أترجم لكم القصة.
يقول ابن المبارك : ""السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول أن أحدا منهم مفتون "" يقول: الذي وقع بين الصحابة في الجمل وصفين فتنة، لكن لا أقول لأحد منهم: مفتون؛ لأن الله عصم الصحابة في مجموعهم من الفتنة فليسوا بأهل فتنة رضي الله عنهم، بل كلهم -إن شاء الله- في الجنة، لكن أن نقول: أنهم مفتونون أو نخوض فيهم، فحذار حذار من هذا، وليس من السداد أن يتكلم الإنسان في أعراض الصحابة، أو يخوض فيما شجر بينهم فإن الله قد غفر لهم سيئاتهم، وتقبل منهم حسناتهم، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
الأتقياء لا يأمنون من أربع
يقول ابن المبارك : ""إن البصراء -يعني: الأتقياء- لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سبحانه وتعالى فيه "" فأنت خائف دائما من الذنب الماضي، لا تدري ماذا يصنع فيه، لأنه ليس عندك وثيقة أنه قد غفر لك ""وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة "" لا تدري ما يأتي من الفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قد يفاجأ العبد بفتنة تذهب عليه دينه، فعليه أن يعتصم بالله، وأن يخلص وأن يلتجئ إلى الله أن يعصمه من الفتن ""وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج "" بعض الناس يمكر به سبحانه وتعالى بمال أو بغنى أو بمنصب حتى يتلفه بهذا الشيء ويظن أنه خير، ولكنه قد يكون شرا وضلالة قد زينت وهو يراها هدى ""وزيغ قلب في ساعة "" فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر، ببدعة وهوى وارتكاب الشبهات والشهوات، هذا مما يزيغ به قلب العبد.
وكان ابن المبارك رحمه الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود
يقول ابن المبارك : ""من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته "" وهذا كلام عجيب، يقول: من استخف بأهل العلم واستهزأ بهم ولم يتأدب معهم أذهب الله عليه آخرته؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، ومن استهزأ بالسلطان وسخر منه ذهبت دنياه، يقول: احذروا السلطان واحذروا بطشه لأنه إذا قال فعل ""ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته "" فيصبح بلا أخ.
ويقول: ""الحبر في الثوب خلوق العلماء "" أي: الحبر في الثوب خضاب العلماء، ما أجمل الحبر في ثوب طلبة العلم وهو شرف لهم
وقد تفقه ابن المبارك بـأبي حنيفة وأحبه، وهو معدود في تلامذته، ولو أنه لا يوافقه في كثير من المسائل، لأن ابن المبارك محدث وعالم في الحديث، ومن ضمن ما اختلفوا فيه: أن أبا حنيفة صلى إماما وعلى ميمنته ابن المبارك ، فكبر أبو حنيفة فرفع ابن المبارك يديه، والأحناف لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الإحرام، أما ما بعدها من التكبيرات فلا يرون الرفع، وابن المبارك محدث يرى أن ترفع الأيدي مع التكبيرات الأربع، فكان أبو حنيفة لا يرفع يديه وكان ابن المبارك كلما قال أبو حنيفة : "الله أكبر" وهو إمام قال ابن المبارك : الله أكبر، ورفع يديه، فلما سلم قال أبو حنيفة : خشيت أن تطير من جانبي -أي: كأن له جناحين وكأنه طائر- قال ابن المبارك : لو أردت أن أطير لطرت في الأولى، أي أنا وإياك كبرنا سويا في تكبيرة الإحرام، لكن لم نطر والحمد الله، والصواب مع ابن المبارك .
وقد رأى الحسن البصري رجلا ينظر إلى موكب ظالم، قال: ""لا تنظر إليه، قال: وماذا يضر النظر قال: يقول الله: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "هود:" "".





ابن المبارك عند الإمام مالك
وقال يحيى بن يحيى الليثي : ""كنا عند مالك بن أنس إمام دار الهجرة- فاستأذن لـعبد الله بن المبارك بالدخول فأذن له، فرأينا مالكا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بجانبه "" كان مالك لا يتزحزح لأحد ولا يقوم، لكن لما أتى ابن المبارك ، تزحزح وأجلسه بجانبه، قال: ""وما رأيت مالكا يتزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء فيسأل مالك ما مذهبكم في هذا أو ما عندكم في هذا فرأيت ابن المبارك يجاوبه بسكوت وصمت لا يسمعه إلا مالك "" هذا من الأدب، الناس جلوس أمام الإمام مالك : في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وابن المبارك بجانب مالك فكان مالك إذا مر به الحديث يقول: ""ما هو مذهبكم في هذه المسألة "" وابن المبارك عالم مثل مالك أو أكثر في الحديث، وذاك يمكن أن يكون أكثر في الاستنباط، فكان يدني رأسه ويكلم مالكا في أذنه حياء من الإمام مالك وأدبا،
وقالوا: سئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة فقال: ""إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا "" ما شاء الله ابن عيينة أكبر منه سنا، وابن المبارك أصغر، فسئل وابن عيينة جالس فقال: ""نهينا أن نتكلم عند أكابرنا ""

وفاة ابن المبارك وماله من المبشرات
لما احتضر ابن المبارك حضرته سكرات الموت وكان على فراش الانتقال إلى الله عز وجل، جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله، فأكثر عليه والسنة إذا لقنت المحتضر لا إله إلا الله ألا تعيدها عليه إلا إذا تكلم بكلام أو أغمي عليه فقل: قل لا إله إلا الله، أما أن تبقى عند رأسه وتقول: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله فلا، ويكفي مرة فإذا قال: لا إله إلا الله فاصبر لأن هذه هي السنة، لأنه في حشرجة وفي هول، وفي ساعة ما مر بالعالم مثلها، الساعة التي يذعن فيها الجبار، ويذل فيها المتكبر، ويضعف فيها القوي ويتوب فيها العاصي، ساعة أليمة سوف نمر بها جميعا، أسأل الله أن يسهلها علينا وعليكم.
فمن السنة ألا تضجره فإن أمامه هول وفزع وخوف ومشقة، يتذكر صحفه وعمره وسيئاته، ثم تلاحقه: قل لا إله إلا الله قل: لا إله إلا الله.
فأكثر عليه فقال له: ""لست تحسن -يقول ابن المبارك - وأخاف أن تؤذي مسلما بعدي، إذا لقنتني فقل: لا إله إلا الله ثم إذا لم أحدث كلاما بعدها فدعني، فإذا أحدثت كلاما فلقني حتى تكون آخر كلامي من الدنيا "" هذه السنة، علمه السنة وهو في سكرات الموت
نقلا عن قناة الرسالة

عبد الله بن المبارك

ولد سنة 118 هجرية لأب مولى من اعمال خراسان في ايران حاليا
كان ابوه المبارك قد اسلم و حسن اسلامه و كان عاملا في بستان احد الاغنياء فكان يتصدق بثلث اجره كل شهر
يروى ان صاحب البستان الذي يعمل فيه المبارك اتى و معه ضيف فطلب من المبارك ان يحضر لهما رمانا فاتى بالرمان فوجدوه حامضا ثم اتى بغيره فوجدوه حامضا ايضا
فساله لم تاتيني بالرمان الحامض؟
قال المبارك: وانى لي ان اعرف و انا لم اذقه قط؟
قال :لم لم تتذوقه ؟
قال المبارك: لم تأذن لي.
فاستغرب صاحب البستان من امانته وورعه
اما ابنه عبد الله بن المبارك فقد كان موهوبا في الحفظ ،جبارا اخذ نفسه بالعزيمة و اجتهد كثيرا لينال العلم ومع ان تخصصه الاساسي كان الفقه الا انه كان اديبا لغويا بارعا
قال عنه سفيان الثوري: هو عالم أهل المشرق و المغرب
و كونه ولد في زمن قريب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد ادرك معظم الصحابة
يقال عنه: حديثه عن النبي حجة بالاجماع ، تجاوز القنطرة (و هذه تعني انه تجاوز كل قضايا التوثيق بالنسبة لامانته وروايته)
جيء بكذاب وضع اربعة الاف حديث الى خليفة المسلمين فقال الخليفة: والله لأذبحنك الان.
قال الكذاب : اذبحني فوالله لقد وضعت على نبيكم اربعة الاف حديث
فقال الخليفة: يعيش لها الجهابذة. و أحضر عبد الله بن المبارك فقعد لها ثلاثة ايام ثم اخرجها كلها
كان إذا خرج للحج يودعه كل اهالي خراسان لمحبتهم له و قد كسب الناس بسعة اخلاقه و كرمه و قد اصبح من أغنى اغنياء المسلمين
و قد كان دوما بين الناس حتى اذا حلت ساعة العصر اختلى بنفسه يكتب و يدرس و يتامل فيساله تلامذته: الا تستوحش؟
فيقول: كيف استوحش و انا مع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه؟
دخل الخليفة هارون الرشيد مدينة الرقة و دخل عبد الله بن المبارك في نفس اليوم و كانت المدينة قد تهيأت لاستقبال الخليفة و لكن الناس ما إن علموا بمقدم ابن المبارك حتى تزاحموا عليه ورأت هذه المنظر امرأة من نساءالخليفة فقالت:هذا هو المللك والله، لا الملك الذي يجمع الناس بالسياط و السيوف
كان في كرمه منقطع النظير
فاذا اراد الحج يجتمع مع اصحابه فيجمع ما وضعوه من نفقة لللحج ثم يضعها في اكياس لكل باسمه ثم يضعها في صندوق
ثم يغادرون للحج فيطعمهم و يكسوهم و ينفق عليهم و يشتري الهدايا لاهلهم ثم عندما يعودون يعيد لكل مكنهم كيسه
و كان ايضا كثير الصيام فاذا افطر افطر الناس معه
وقد حج مرة فوصل الى الكوفة فوجد في اهل الكوفة مجاعة بلغ منهم الجوع ان راى فتاة تخرج غرابا ميتا من مزبلة و تجري به فلحق بها و سالها : ماذا تريدين به؟
قالت: والله لأكله فما دخل جوفنا طعام منذ ثلاثة
فبكى ابن المبارك بكاء كثيرا و استدعى خازن المال و أمره بتوزيع المال الذي رصدوه للحج على أهل الكوفة وألا يبقي لهم ألا ما يكفي رجوعهم إلى خراسان ووزع مؤونة الحج على أهل الكوفة أيضا
و نادى في اصحابه: لا حج لكم هذا العام
فلما عاد إلى بيته نام فسمع مناديا في منامه يقول له : حجا مبرورا و سعيا مشكورا و ذنبا مغفورا


يتبع