رسائل الأشجان .. لأبي علي الغلبان

الرسالة الأولى: بطاقة

أكدت الأدلة والوقائع والشهود العدول أن أبا علي الغلبان ولد في عام القتامة·· ويكنى أيضاً بأبي قتامة، مع الاعتذار الشديد لعائلة الغلبان المقيمة على تخوم الجرح بين السكة الشرقية والأحراش في بلاد الهنود السمر··!
يؤكد الغلبان في أكثر من مقام أن صلاحيته انتهت منذ فترة قصيرة ، كصلاحية الدجاج المستورد·· ويقول المقربون منه أن حياته كانت مزيجاً من القهر والعوز حتى انطبق الاسم على المسمى، ونظراً لأن صاحبنا هذا لا يزال يسير على ساقين كساقي طفل افريقي في زمن النظام العالمي الجديد، والقديم، فإننا لا نأخذ مأخذ الجد ما يرويه عنه المعرضون خشية الالتباس والدسيسة ·· لذلك نحاول قدر الإمكان الاستقصاء الفعلي والتقرب أكثر إلى هذا الشيء الذي تحدث عن نفسه كما وجدنا ذلك في مخطوطة أكل عليها الدهر ، ولم يشرب بعد··!
يقول:
(أنا الداعي لكم بطول العمر - واعتز كثيراً بهذه الأنا - ولدت ، عافاكم الله ، في ليلة كالحة منذ أربعة قرون لا تزيد ولا تنقص، واشعر أنني أحدثكم في الوقت الضائع، والضياع أمر مفروغ منه في الدار المضيعة)·· ويستطرد رحمه الله:
حين قدر الله لي ولطف أن اصرخ صرختي الأولى على هذه البسيطة الصعبة، كان الصراخ حولي أقوى بكثير من صراخي، حتى خيل إليّ أن الدنيا في حالة زعيق ومناحة لفقدان عزيز - لا أراكم الله مكروهاً بعزيز - وحين منّ الله عليّ بنعمة البصر لم أر إلا العتمة تلف جوانب الحي والمدينة وحتى القلوب، فينقطع الخلَفَ من أصلاب الرجال وتلد النساء بالأنبوب ، أو لا يلدن على الاطلاق·· عتمة، لا بصيص نور ولا حتى ذبالة شمعة أوقدها في هذا النفق الأسود بدل أن ألعن الظلام ، على رأي الحكيم الصيني أو التايواني·· لا فرق!
ويضيف أبو قتامة في معرض الحديث عن نفسه:
·· جسد تأكل الأرضة داخله رويداً رويداً مثلما أكلت الدويبة منسأة سليمان، حتى أوشكت أن أصير مثل عود ذرة في صيف قائظ·· أجبرت والحال كذلك على الابتعاد عن جوارح اللغة ، وجوارح الفعل ، حتى لا أغضب عدوي أو صويحبي·
وقد تسألون عن السبب فأقول ما قاله جعيفص بن الأسود· :هي حال الدنيا·· الكبير فيها يبتلع الصغير - دون إحم أو دستور - وكان الناس اعتبروا ذلك أمراً محتوماً·· أبجديات وحقائق·· فصار الصغار أمثالي يندفعون إلى بطون الكبار بمحض الإرادة·· دون مقاومة أو مجرد محاولة للاعتراض أو حتى الاستفسار·· لذلك، صار الناس (ناسين): كباراً وصغاراً ، وبلغة الألوان صاروا لونين: أبيض وأسود وفي طبيعة التعامل صنفين: أسياداً وعبيداً·· وفي طبيعة الابتلاع صاروا أيضاً نوعين: حيتانا وسردينا·· لذلك·· فإن الهروب بالجلد أفضل الطرق للنجاة إلى حين··!
00
يقول الرواة العدول أن أكثر الأمور ازعاجاً عند الغلبان كانت خوفه من الموت مثل كلب أجرب تلفظه الأزقة·· ويخشى أيضاً أن تمر أيام عمره دون لحظة سعادة، أو فرح، وتقلقه دائماً سيرة جبر بن جبر، الذي توفي وكتبوا على شاهد قبره مثل أبيه: ( هنا يرقد جبر، من .. أمه إلى القبر)!!
لذلك، كان الغلبان يحاول جاهداً أن يترك بصماته بعد مماته، وإن كانت هذه البصمات على سندات قروض من بيت المال إياه، أو على مخالفة حدودية بين المدن حين كان يعبر بأتانه العرجاء ..!
00
هذه المعلومات التي وردت في (رسائل الأشجان ) هي قليل من كثير ونستطيع أن نستكشف المزيد من خلال تتبع حالته الذهنية المكتوبة، خاصة أنه لم يخف شاردة أو واردة إلا وضع حولها خربشاته، ولم يحجزنا عن المزيد إلا العيب·· والستر، لأن الله أمرنا بالستر، ويقول المغرضون إن ما خفي من أمر الغلبان كان أعظم·· والله اعلم·
يقول الغلبان في (سفر التجزئة):
يا سادة يا كرام ،
ذات ليلة ، والناس نيام ..
كنت أهش على عيالي ، أناغي طفولتهم بحلم كبقية خلق الله·· فأخذني النوم·· فنمت، فرأيت - اللهم اجعله خيراً - العسس يفتحون جمجمتي الصغيرة، ويقبضون بأظافرهم الحديدية على بذرة الحلم الغضة، ويزرعون مكانها مخرزاً وسلاسل، وحين استيقظت وجدت الأطفال وكأنهم قرأوا ملامح وجهي وقفاي، وكأن الأمر حقيقة، كانوا يقضمون أظافرهم وفي عيونهم خوف وعلى أجسادهم ارتعاشة··
لم اسألهم، ولم يحدثوني عن شيء··
الحكاية بالمختصر المفيد كانت مكشوفة، والحلم قد صودر·· لحظتها، لويت عنقي نحو الجدار المهترئ والتقمت حجراً في محاولة لإسناد جسدي المنهك ، ولجم لساني الطويل، لم أفلح، فتهاويت، وكانت الأكف الصغيرة من حولي تجهد لنقلي إلى شيء يشبه الفراش·· فلم تفلح ..
قلت لهم·· جزئوني ، وكل واحد منكم يحمل جزءاً·· ففعلوا!!
صرخت بعد ذلك·· آه يا أجزائي··!
00
الورقة الأخيرة في مجمل التعريف بالغلبان كانت تضم معلومات عن بطاقته الشخصية التي دونتها الجهات الرسمية بعد أن بلغ سن الرشد وبعد شهادة (الداية) أم يوسف ، والمختار الحاج إبراهيم ، وأم دعيبس·· فماذا نقرأ فيها؟
الاسم والكنية: أبو علي الغلبان·
اسم الأب: تعبان
اسم الأم: بسمة ·
..
لا حول ولا قوة إلا بالله ، [/SIZE]

حسن سلامة
h_salama_51@yahoo.com