السلام عليكم
--------------------------------------------------------------------------------
النظرة العلميّة الجديدة وتأكيد الايمان
أ. د. عماد الدين خليل
4/4/1427
02/05/2006
تحت مسوّغ الدراسة العلمية مُرّرت أفكار فرويد الهدّامة للقيم والأخلاق والفضيلة والحب والوفاء وطاعة الوالدين، وغُرست مكانها مفاهيم كالصراع (الأوديبي) وعقدة (الكترا)، وجنسية الرضاعة، والمرحلة الشرجية، والقضيبية .. الخ.
هل الواقعية ومطالب البحث العلمي تعني ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي؟ أين مفهوم التكريم للإنسان، وأفضليته؟ ولو سلمنا جدلاً بصحة افتراضات دارون من الناحية العلمية، فإن نظرية فرويد تجعل الإنسان ـ على العكس ـ في حالة نكوص أبدي .. فكيف يكون الانتخاب الطبيعي في ظل مفاهيم أحادية التفسير للسلوك الإنساني؟ وهل أن تفسيرات فرويد خالية من البعد الأيديولوجي والسياسي؟
أسئلة ملحّة تفرض نفسها على الذهن ولنبدأ بآخرها .. إن فرويد هو -كمعظم المتفوقين في تاريخ الشعب اليهودي- رجل ملتزم، شئنا أم أبينا. ونتائجه في ميدان علم النفس لا تخلو من بعد أيديولوجي أو سياسي، على الأقل في جانبها السلبي الذي يتمحور عند "ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي" وتغييب البعد الإنساني في الممارسات البشرية.
إن تحويل الإنسان إلى " كائن جنسي" لهي مسألة في غاية الخطورة؛ لأن إمكانات توظيفها واسعة جداً ولا حدود لها. وإذا لم يكن فرويد قد فعل عبر معرفته النفسية ومعطياته في مجال التحليل النفسي سوى أن منح هذه المقولة شرعيتها العلمية، فإنه قد صاغ أحد أشدّ الأسلحة حدّة ومضاءً لذبح الخصوم وتدمير بنيتهم.
مهما يكن من أمر فإن استنتاجات فرويد هي -كمثيلاتها في دوائر العلوم الإنسانية- مجرد احتمالات .. محاولات للمقاربة .. وليست بحال من الأحوال حقائق ومسلّمات نهائية .. ومن ثم فإنه ما إن مضى على الإعلان عنها سوى فترة محدودة من الزمن حتى تلقّت من علماء النفس الغربيين، بل من تلامذة وزملاء فرويد أنفسهم، من الطعون ما جعلها تنسحب قليلاً إلى الوراء لكي تخلّي الساحة لنظريات -وأشدّد على الكلمة- أكثر حداثة وإقناعاً.
إن إحدى مفارقات العلم الغربي في خلفياته الإنسانية .. ذلك التناقض الحادّ بين نظريتين مارستا دوراً خطيراً في تكييف الحياة الغربية عبر القرن الأخير بوجه الخصوص: الانتخاب الطبيعي لدارون، و(اللبيدو) الفرويدي أو (الأنا السفلى) التي تسحب الإنسان إلى دهاليز الشبق والملذة وتجعله "خائفاً" أبداً و "ناكصاً" إزاء كوابت (الأنا العليا).
إننا قبالة تضاد على زاوية منفتحة مداها مائة وثمانون درجة ينفي أحد طرفيه الآخر .. فنحن إما أن نخضع لمنطق الانتخاب الطبيعي واصطفاء الأقوى، أو نسلّم بمنطق الهروب والنكوص قبالة تحديات الخبرة الدينية والاجتماعية.
فبأيهما نأخذ؟ وأيهما يمكن أن يكون"علماً" يقينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
إن مطالب البحث العلمي -وحتى الواقعية في التعامل مع الظواهر والأشياء- لا تتطلب بالضرورة انفصالاً عن القيم، وانفكاكاً عن الالتزامات الأخلاقية، كما أنها لا تشترط إلغاء الثوابت المتفق عليها لإنسانية الإنسان.
إن هذا لا يناقض ذاك أو يتعارض معه، وإنما يمنحه أطراً واسعة مرنة قد تمنعه ـ من بعيد ـ من الانزلاق ـ باسم العلم ـ صوب الخرافات والضلالات. والذي حدث عبر القرنين الأخيرين، واحد من أكثر الانزلاقات في تاريخ الإنسان حدة وبشاعة .. حيناً تحت مظلة الداروينية، وحيناً تحت مظلة الفرويدية، وحيناً ثالثاً تحت مظلة الوجودية السارترية، وحيناً رابعاً تحت مظلة الماركسية.
وبمرور الوقت أخذت تتضح جملة من الأخطاء الحادة التي عادت بعد أن ذبحت أجيالاً بكاملها من الأوربيين وغير الأوربيين، لكي تذبح المنتمين إلى هذه النظرية أو تلك، وتدين صناّعها وأربابها. ومن عجب أن الأرباب أنفسهم تخلوا عن نظرياتهم ـ أحياناً ـ قبل أن ينسلّ منها الأتباع فيما يذكرنا بحواريات الشيطان وأتباعه في العديد من المقاطع القرآنية:
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ).[ابراهيم: من الآية22]
الحديث يطول ولكني سأقف قليلاً عند بعض الحلقات.
يقول المفكر والأديب المجري المعروف (آرثر كوستلر) متحدثاً عن إحدى خبراته أيام كان منتمياً للحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينيات: كان الدافع الجنسي مقرراً ومعترفاً به، إلاّ أننا كنا في حيرة بشأنه. كان الاقتصار على زوجة واحدة، بل كان نظام الأسرة كله عندنا أثراً من آثار النظام البورجوازي ينبغي نبذه؛ لأنه لا ينمّي إلاّ الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلا شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته. إلاّ أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً غير مقبول، وكان هذا النوع الأخير قد شاع وانتشر داخل الحزب سواء في روسيا أو خارجها، إلى أن أعلن لينين تصريحه الشهير الذي يهاجم فيه نظرية (كاس الماء) تلك التي تزعم أن العملية الجنسية ليست أكثر خطراً وأثراً من عملية إطفاء العطش بكاس من الماء. وكان الدكتور (ولهلم رايخ)، وهو رجل ماركسي من أتباع فرويد ، ومؤسس معهد (السياسة الجنسية) قد أصدر تحت تأثير (مالينوفسكي) كتاباً سماه (وظيفة الشهوة الجنسية) شرح فيه النظرية التي تزعم أن الإخفاق الجنسي يسبب تعطيل الوعي السياسي لدى الطبقة العاملة، وأن هذه الطبقة لن تتمكن من تحقيق إمكانياتها الثورية ورسالتها التاريخية إلاّ بإطلاق الحافز الجنسي دون حدود أو قيود.
وهو كلام يبدو الآن ـ كما يقول كوستلر نفسه ـ أكثر اعوجاجاً وسخفاً مما كان يبدو لنا في ذلك الحين.
وهذه النظرية التي يصوغها الدكتور الماركسي ـ الفرويدي: (رايخ) والتي تمثل امتداداً ميكانيكياً لمقولة ماركس وانغلز في (المنشور الشيوعي) المعروف، يجيء لينين الزعيم الماركسي لكي يقلبها رأساً على عقب، وهو بصدد مهاجمة نظرية (كاس الماء) .. فتأمل!
من ثم فإننا لا ندهش إذا قرأنا في (حدود العلم) لسوليفان ـ على سبيل المثال ـ أن علم النفس ما زال في الوقت الحاضر في مرحلة بدائية جداً! بل إن البعض ينكر وجود أي علم من هذا القبيل!! وأنه ليس هناك بالتأكيد نظام من المعارف النفسية الثابتة التي جرى إقرارها بصورة عامة، بل هناك عدد من النظريات، لكل منها مجال محدود للتطبيق، وهي تختلف عن بعضها اختلافات عميقة حينما تتناول الظاهرة نفسها.
فإذا كان لنظريتين في علم النفس رأيان مختلفان تماماً إزاء ظاهرة من الظواهر، فكيف يُتاح لنا أن نحكم على صدق المنهج النفسي، وعلميّته ، ويقينيّته؟ فإذا ما تأكد أن إحدى النظريتين مصيبة، بشكل أو آخر، كانت الأخرى بالتأكيد خاطئة، وليس لنا من ثم أن نعتقد بأن علم النفس يتكئ على دعائم ثابتة، كما يحدث في الفيزياء والكيمياء، على الرغم من أن هاتين تتعرضان ـ أيضاً ـ ولكن بنسبة أقل لتغيرات أساسية في صميم مقولاتهما.
وقد يقول قائل: إن كلاً من النظريتين النفسيتين تتضمن قدراً من الخطأ وقدراً من الصواب، وفي هذه الحالة أيضاً لا يمكن الاطمئنان إلى سلامة المنهج الذي يعتمده علماء النفس في صياغة نظرياتهم؛ لأنه ـ في أغلب الأحيان ـ يعتمد التعميم، ومن ثم تختلف النظريات النفسية ـ أحياناً ـ اختلاف النقيض مع النقيض، دون أن يكون هناك قاسم مشترك. ذلك أن
" التعميم " هو الضربة القاتلة لمناهج البحث العلمي الرصين.
ومهما يكن من أمر فإن (سوليفان) يتناول بالتحليل والنقد اثنتين من أبرز النظريات النفسية وأكثرها انتشاراً: النظرية السلوكية ونظرية التحليل النفسي، لكي ما يلبث أن يصدر حكمه على ضعف، واهتزاز النتائج التي توصلنا إليها بصدد تركيب العقل البشري، وطريقة عمله.