تُعَدّ الاضطرابات الاكتئابية من أوسع الاضطرابات انتشارًا، ومن أهم أسباب المشاكل النفسية، وبرغم التطور الملحوظ في دراسة هذه الظواهر من جوانبها المختلفة، فإن الكثير من الحالات لا يتم تشخيصها أو على الأقل يساء تشخيصها، وإذا حدث وصح التشخيص؛ فإن العلاج لا يكون مناسبًا، ولكن مع ذلك فإن زيادة الوعي لدى العامة بمثل هذه الاضطرابات ينبئ بمستقبل واعد لمرضى الاكتئاب النفسي.

يمكن أن يطلق مصطلح الاضطرابات الاكتئابية على مجموعة من الظواهر تتراوح ما بين انخفاض مؤقت في المزاج إلى ظاهرة إكلينيكية مركبة لها شدة ولها أعراض تحيد بشكل واضح عن الطبيعي، كما أن لها مدة زمنية محددة.

أعراض الاكتئاب

يمكن تقسيم أعراض الاكتئاب إلى أربع مجموعات أساسية هي:

1- أعراض مزاجية mood affect: حزين- مكتئب- غير سعيد-منخفض المعنوية- خاوٍ- قلق- سهل الاستثارة.

2- أعراض معرفية cognition : فقدان الاهتمام- صعوبة التركيز- انخفاض الدافع الذاتي- الأفكار السلبية- التردد- الشعور بالذنب- الأفكار الانتحارية- الهلاوس- الأوهام.

3- أعراض سلوكية behaviour : تأخر ردود الأفعال السيكوحركية أو زيادتها- البكاء- الانسحاب الاجتماعي- الاعتماد على الغير- الانتحار.

4- أعراض بدنية somatic)physical): اضطرابات النوم- (الأرق أو النوم لمدد طويلة)- الإرهاق- زيادة أو نقص الشهية- زيادة أو نقص الوزن- الألم- الاضطرابات المعوية- نقص الرغبة الجنسية.

عند ظهور العديد من الأعراض السابقة يصبح من السهل التعرف على المرض، إلا أن الكثير من المرضى يولي اهتمامه للأعراض البدنية، غافلا الأعراض المزاجية أو السلوكية، ولقد أثبتت الدراسات أن 50 % من حالات الاكتئاب لا يتم التعرف عليها لهذا السبب.

هناك كذلك ظاهرة تسمى "الاكتئاب الكاذب" حيث تظهر أعراض شبيهة بالأعراض السابق ذكرها؛ نتيجة لأسباب عضوية مثل الأرق بسبب الألم الشديد- فقدان الوزن بسبب الإصابة بالأورام السرطانية- الإرهاق بسبب التداوي بعقاقير معينة.

آثار سلبية فوق التصور

يُعَدّ الاكتئاب من الأمراض القاتلة؛ حيث إن 15% من المصابين ينتهي بهم الأمر إلى الانتحار، كما أن الدراسات أثبتت أن 50% من المنتحرين تم تشخيص حالة اكتئاب لديهم في وقت من الأوقات؛ لذا فإنه غني عن الذكر أن كل حالات الاكتئاب يجب تقييم احتمالية الانتحار لديها بعناية في بداية المرض وعلى مدى العلاج، بالإضافة إلى ذلك فقد ثبت أن الاكتئاب يزيد من احتمالات الوفاة نتيجة لأمراض أخرى كالسرطان وأمراض الدورة الدموية.

وتبعًا للـMedical outcome study MOS فإن الاكتئاب له أثره السلبي على المصابين أكثر من الأثر السلبي لبعض الأمراض المزمنة، كضغط الدم والسكر والتهاب المفاصل، وقد تم قياس ذلك عن طريق تقييم الأداء البدني والاجتماعي للمصاب، إلى جانب قياس عدد الأيام التي يقضيها المريض في الفراش والعناية الطبية اللازمة له والآلام الجسمانية التي يعانيها.

التأثير الاقتصادي السلبي للاكتئاب يشمل التكاليف الفعلية للعلاج والتكاليف الناتجة عن نقص الإنتاجية بسبب المرض أو الوفاة.

النوبة الاكتئابية الكبرى

النوبات الاكتئابية الكبرى يتم تقسيمها تبعًا لحدتها إلى: بسيطة- متوسطة- حادة بدون مظاهر نفسية- حادة بمظاهر نفسية- حادة بمظاهر غير نمطية؛ حيث يحدث تحسن مزاجي مؤقت كرد فعل لبعض الأحداث الإيجابية، ويصحبه على الأقل اثنان من الأعراض الآتية لمدة أسبوعين:

- زيادة ملحوظة في الوزن والشهية.

- فترات نوم طويلة.

- شعور بالثقل والشلل في الأطراف.

- أنماط ممتدة من الحساسية للرفض المتبادل بين الأشخاص مما ينتج عنه

إعاقة اجتماعية ووظيفية بالغة.

وهناك شكلان للنوبة الاكتئابية:

1- الاكتئاب النفسي Psychotic depression: يتميز بوجود أوهام مع هلاوس (فقر- موت– مرض) عادة ما تكون متطابقة مع الحالة المزاجية. أما النوع الأقل شيوعًا؛ فإن المظاهر النفسية لا تتطابق مع الحالة المزاجية.

2- النمط الموسمي Seasonal pattern: يتميز بإمكانية التنبؤ بموعد بداية وانتهاء النوبة، وأشهر أنواعها "اكتئاب الشتاء" حيث يبدأ مع انتهاء الخريف وبداية الشتاء، ويتميز بالنوم الطويل، والنهم للنشويات، وزيادة الوزن والإرهاق.

الاضطراب الاكتئابي الأكبر

أسفرت دراسة أجراها المعهد القومي للصحة النفسية عن حدوث هذا النوع من الاكتئاب بنسب تتراوح بين 1.6% إلى 4.4% وأن متوسط سن المصاب يبدأ عند 27 سنة مع اختلاف بسيط بين الجنسين.

كما أسفرت الدراسات عن أن الأجيال التي ولدت في العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا النوع في سن أصغر وبمعدلات أعلى.

كذلك وجد أن هذا النوع ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من الرجال؛ حيث أظهرت معظم الدراسات حدوثه بنسبة تصل إلى الضعف.

تطور المرض

تستمر نوبة الاكتئاب الكبرى مدة لا تقل عن أسبوعين، وإذا لم يتم علاجها؛ فإنها تستمر لمدة ستة أشهر أو أكثر، بداية النوبة ونهايتها يكون فجائيا أو بالتدريج. وبعض الأشخاص قد يعانون من أعراض مزمنة بعد انتهاء النوبة، وقد وجد أن هذه الأعراض المزمنة تزيد مع:

- طول مدة المرض قبل التشخيص والعلاج.

- تناول الكحوليات.

- وجود اضطرابات نفسية مصاحبة.

- المستوى الاقتصادي المنخفض.

كما أظهرت الدراسات أن 50% من المرضى يعانون هذه النوبة مرة واحدة في العمر، أما حدوثها لمرة ثانية؛ فإنه يزيد من فرص تكرارها، كما أن نمط حدوثها مرة أخرى قد يختلف ويصعب التنبؤ به، وقد يفصل النوبات بعضها عن بعض مدد تتراوح بين الشهور والأعوام.

عادة ما تكون نوبات الاكتئاب الكبرى مصحوبة باضطرابات نفسية أخرى مثل Dysthymic disorder أو تناول الكحوليات أو القلق.

الأسباب

أسباب نوبات الاكتئاب الكبرى غير معروفة حتى الآن، إلا أن هناك مقولة تنص على أن كل شخص عنده من العوامل الجينية والتطورية والبيئية والاجتماعية والشخصية والفسيولوجية التي تجتمع لتجعله إما أكثر تعرضًا للاكتئاب أو لتحميه من الاكتئاب على مدى عمره.

1- العوامل البيولوجية:

- الوراثة: أسفرت دراسات عديدة حول التوائم والتبني والعوامل الأسرية عن وجود خلفية وراثية لاحتمالات التعرض لنوبات الاكتئاب الكبرى.

- النظرية البيوكيميائية: لاحظ الأطباء والباحثون وجود علاقة بين مادة الـ reserpine والـ erotonin والـdopamine وبين نوبات الاكتئاب الكبرى. هذه العلاقة أسفرت عن النظرية البيوكيميائية الخاصة بنقل الإشارات عبر الخلايا العصبية: - Hypothalamic –pituitary- adrenal axis.

- Hypothalamic –pituitary –thyroid axis.

- دراسات النوم: اضطرابات النعاس من أهم خصائص الاكتئاب؛ حيث يكون مصحوبا إما بأرق أو بنوم لفترات طويلة، ولقد أظهرت دراسات رسم المخ في أثناء النوم للأشخاص المصابين بالاكتئاب عدم استمرارية النوم، ونقص مدة النوم، ونقص الزمن بين الاستغراق في النوم وبداية مرحلة الأحلام REM، وزيادة كثافة الـREM، ونقص الـnon REM.

2- العوامل النفسية:

- التحليل النفسي: مرورًا بعلماء التحليل النفسي المختلفين ظهرت نظريات كثيرة لتفسير الاكتئاب منها أنه:

- عنف تم توجيهه إلى النفس.

- فقدان شيء عزيز في الطفولة أدى إلى توجيه الحنق والغضب إلى النفس عند حدوث أول تجربة لفقدان شيء عزيز في العمر الناضج.

كل هذا يؤدى إلى شعور سلبي تجاه النفس والبيئة والمستقبل؛ فالنفس تبدو للشخص غير جديرة ومنقوصة، والمستقبل لا يحمل سوى الفشل والإحباط، وأي مواقف غير سارة في المستقبل ستخرج عن نطاق التحكم، فيشعر المرء بالسلبية والاكتئاب.

3- أحداث الحياة : تعتبر الكثير من النظريات ضغوط الحياة من العوامل التي تؤدي إلى حدوث نوبات الاكتئاب؛ حيث تلعب هذه الأحداث دورًا هامًّا، سواء كانت أحداث قريبة أو أحداث جرت في الطفولة المبكرة.

العلاج

يمكن علاج غالبية مرضى الاكتئاب بشكل آمن وفعال في جلسات العلاج الخارجي. أما العلاج في المستشفيات؛ فإنه مطلوب للحالات التي تعانى من أفكار انتحارية أو إعاقة واضحة، أو التدخل في الأزمات، أو الحالات التي تشمل أكثر من نوع من الاضطرابات النفسية مجتمعة.

1- العلاج النفسي المساعد: هذا النوع من العلاج المساعد منتشر بشكل واضح، ويعد خلفية لباقي أنواع العلاجات المتخصصة؛ فهو يساعد المريض على المحافظة على أفضل مستوى ممكن من التفاعل مع حدود مرضه وشخصيته وقدراته الطبيعية وظروف حياته.

2- العلاجات النفسية الديناميكية المختصرة: أظهرت الدراسات أن نوبات الاكتئاب الكبرى ذات الشدة البسيطة والمتوسطة يمكن أن يجدي معها العلاج النفسي بين الأشخاص Interpersonal psychotherapy IPT والعلاج بالتعرف Cognitive therapy وذلك عن طريق تحسين العلاقات بين الأشخاص، ومساعدة المريض على التعامل مع المشاكل الجارية مع الأفراد. ونموذجيا، فإن هذا النوع من العلاج يكون مرة واحدة في الأسبوع لمدة 3-4 أشهر.

3 - العلاج بالعقاقير المضادة للاكتئاب: يعتبر معظم الأطباء العلاج بالعقاقير المضادة للاكتئاب حجر الزاوية في علاج الاكتئاب، كما أنه من المسلم به أن الجمع بين كل من العلاج بالعقاقير والعلاج النفسي يكفل الحل الأمثل لعلاج الاكتئاب، ولقد أسفرت الدراسات عن أن العلاج بالعقاقير يحقق نسب فاعلية بين 60-80% بالمقارنة بعقار كاذب(placebo) 30-40%.

4- العلاج الحاد: اختيار العقار المناسب في حالات نوبات الاكتئاب الكبرى يعتمد على عوامل كثيرة منها:

- الاستجابة السابقة للعقار (إذا نجح العقار من قبل ينصح باستعماله مرة أخرى).

- الاستجابة الجينية للعقار (إذا نجح العقار مع أحد أفراد الأسرة ينصح باستعماله مع باقي الأفراد).

-أنواع الاكتئاب.

- الأعراض الجانبية وسمية العقار .

- احتمال تفاعل العقار مع عقاقير أخرى.

- التكاليف المادية للعقار.

5- العلاج الوقائي: أظهرت الدراسات أن نوبات الاكتئاب الكبرى ذات الطبيعة المتكررة ينصح معها بعلاج وقائي بالعقاقير لمدة تتراوح بين 3 - 5 سنوات؛ حيث ثبت له تأثير وقائي واضح.

علاجات بدنية أخرى

1- العلاج بالصدمات الكهربية: وتكون على هيئة 9-12 جلسة، يفصل كل جلسة عن الأخرى 2-3 أيام، ثم جلسات وقائية أسبوعية أو شهرية، وينصح بالعلاج بالصدمات الكهربية في حالات الأفكار الانتحارية، والحالات التي لا تستجيب للعقاقير، والحالات التي أظهرت استجابة جيدة سابقا للعلاج بالصدمات الكهربية.

2- العلاج بالضوء: يعتبر استخدام الضوء الصناعي القوي إحدى الوسائل الأساسية لعلاج النمط الموسمي للاكتئاب "اكتئاب الشتاء" حيث يتم تعريض المريض إلى 2500-10000 Lux لمدة تتراوح بين نصف الساعة إلى الساعتين صباحًا لعدة أيام.

3- الحرمان من النوم: من الظواهر المحيرة أن الحرمان من النوم، خاصة في النصف الأخير من الليل نتج عنه تحسن مؤقت في الاكتئاب، وما زال هذا الأسلوب رهن البحث العلمي قبل تأكيد قيمته العلاجية.

4- التمارين الرياضية: أظهرت الدراسات أن رياضة الجري تعادل في فاعليتها فاعلية العلاج النفسي في معالجة حالات الاكتئاب البسيطة والمتوسطة.


أقرا أيضا :

مزاجك والمناخ.. وهم أم حقيقة؟!
يوم عالمي للصحة النفسية