قصة
احتضار
بقلم : حسن غريب أحمد
___________________________________________
للمرة الأولى نجلس معاً، غريبان ضمهما الوجود.. السنون التي مضت قيدتها الأحزان بالسلاسل.. لم يكن هناك ما نتحدث فيه.. الصمت هو الذي احتل الوقت بيننا واحتل المكان، لم يبق مجال للبكاء.. عيناها المشعتان بضياء قديم انطفأتا حين أهطلت أمطار الروح، للمرة الأولى نجلس معاً في كوخ يبتعد في المسافة أميالاً عن الهمس وعن الكلام المفخخ، الكوخ في الغابة، والغابة واسعة كآفاق المستحيل نمت بالنسيان وبالحلم التائب على نار تشتعل في قفص أخضر فتحرق كل شيء ، إلا القضبان.. الكوخ لجدي وجدي ليس لأحد..

للمرة الأولى وعلى انفراد نجلس معاً، تموت فينا الشهوة التي اشتعلت منذ طفولتنا.. الطفولة الضائعة في رمل التعاسة.. كنا نهرب ونلتقي في وادى النخيل أو في الكوخ القديم، وما أن نجلس حتى تداهمنا وجوه عرفناها وكرهناها.. فنقاد معاً أُجَلد أنا وتبكي هي.. غالباً ما كانت تمد يدها خلسة تلمس يدي وتبتسم وبعدها تبكي طويلاً.. كانت تبكي.. الوادي الذي جمعنا استطاع أن يقتلنا بكل فرح مسموم.. استطاعت أن تلقي علينا رداءها الأسود وتعلن الظلام الحب، الشهوة وأشياء في الماضي كنت أحسها ولكني أجهلها.

سألت نفسي كثيراً لماذا هذه هناك الكثير لماذا هي؟ حاولت التخلص من عبء الوهم ولكن الجرح كان يكبر ولا يلتئم.

الجامعة إشراق في غروب يتناهى إلى الأرض والبحر والأشياء المنفصلة عن الشمس.. الجامعة سرقتني منها .. في طرق المدن مشيت.. الغربة أنا والعزل أنا.. وكل أحلامي.. كانت تعود إلى الماضي فتروي عطشاً ذاقته سنيناً من المر ومازالت.

لماذا هي؟ في الجامعة آلاف الوجوه تقترب مني تحادثني تعبث بأشيائي الصغيرة ولا شيء يتغير.. تبتعد الوجوه ينفر وأنا هنا ولست هنا.. الوطن الذي ابتدأ في صدري كبيراً أموت أنا ويعيش الوطن.. لماذا الموت لي في وطن يحيا في.. الفتاة التي أحببتها هي بجانبي الآن.. وحيدان التقينا ولا شيء إلا الصمت يجمعنا..

العيون تسأل وتذهب بعيداً في السؤال.. انظر إلى العينين الشمس تشع من ظلمة تفوح منهما رائحة الحزن والإحتراق والنار تلتهم أخشاب الروح.

كل ما قالته كان مكتوباً عليها ألا تعيش حتى أوهام الفرح باتت دماً تُنزف من جرح القلب.. سنوات مرت وأنا في الجامعة تزوجتْ هي من رجل مريض متعب أكلته السنون وعاثت به خراباً.. رأيته مرة واحدة.. بوجهه الأصفر.. بعينيه الجاحظتين، وعنقه الطويل المرتخي.. كان يعلم بحبي لها.. ابتسم بامتعاض قاتل.. رأيته مرة واحدة ولكن بعد أن قتلني ما كنت لأفعل شيئاً كان برفقتها.. بكت عيناها بصمت وانفجر الحزن في صدري..

الحزن القديم كالأزل.. عندما لا يجد المرء ما يفعله يفكر في أي شيء كان يشغله عن الفراغ ولو قليلاً.. زوجها مات ووادي النخيل الرث انتحر على ضفتي بحر المدن.. الأمواج المذهلة والمثقلة بخطيئة الوقت غيرت وجه الأجداد وغسلت أنامل الجسد.. وبقى القلب متسخاً.. أعادني الحلم للبيادر وللشجر الحزين أبداً.. يخطو إلى سارية الثمار وأنا أي ثمار أمشي إليها.. لم تغادرني الطفولة.. الليل يسكن في دمي، والتناقض يعيشني.. بلهاء هي الثواني وتحتجزني.. هنا بيتها ينتصب في وجهي.. بعيداً عن التفكير.. أطرق نافذتها.. طفلة في حدائق اللاشيء تشع عليَّ بعينيها الصغيرتين الدافئتين..تهمس عبر الزجاج الفاصل بين العدم والعودة..

الزجاج ينكسر في لغة الدهشة واقتلاعي من مرامي.. أمضي بغير صمت وبكل إنكساري.. ألتفت إلى الزجاج.. عينين من الماضي بحزن يكتمن في كل شيء تلاحقني.

أعود.. تفتح النافذة.. تهمس.. إنها طفلتي.. وأنت.. أنت ماذا؟ أما زلت طفلتي؟ لا أعلم أريدك.. الآن تنهض من رمادك.. لا تباً للزمن الذي "نحن الزمن" إذاً تباً لنا.. ولكن المهم.. المهم أن يعد.. متأخراً جداً.

أنا لكِ.. لنحتضر معاً .. غداً في آخر شاطئ وادي النخيل أنتظرك. لا شيء يقيدنا الآن.. لا شيء.. وتغلق شباكها وأنسل في الليل.. جسدي بارد يقتلني.. هذا الزمان ليس لي.. وحيداً أمضيت حياتي وحيداً أصارع موتي.. وأنتظر في آخر الوادي أنكسار النعش البشري.. وصعود الكدر أي الحُسن المكفن بالخوف.. ألمح جسدها يقبل بتساقط أعضائه.. عضواً عضواً.. حتى القلب ارتمى أمام القدمين.. فداسته بلا خشية.. تقترب.. أمسك يديها.. تفلتها.. لماذا في الماضي لم يكن ليلنا أسود.. أمشي هي بجانبي صماء.. بكماء.. لاتنظر لشيء.. غريبة جاءت من زمن، وماتت في زمنه.. تسأل إلى أين؟ إلى كوخ جدي في الغابة (الكوخ. الغابة. جدك) نعم الماضي. هل أنت بخير؟ (الخير.. الشر.. أنا أنت الماضي).

وفي الكوخ نجلس معاً وحيدين.. الجسدان خُرقٌ بالية، والعيون المسمرة في الجمر.. كل شيء يشتعل.. إلا نحن باردين كنا.. صامتين.. مهزومين .