مصطفى إنشاصي
سنعرض لأشهر القبائل العربية التي سكنت فلسطين ومن تاريخ قريب نسبيا ليس لنثبت كذب الرواية اليهودية وزعمهم أنهم أول من سكن فلسطين وأقاموا فيها وأنهم بناة مدينة القدس وأنهم شادوا حضارة عمت بإشعاعها على الكون كله، وإنما لتعريف الأجيال بتاريخهم القديم لأنه جزء مهم من تاريخ الأمة لا ينفصم عن تاريخهم الحديث ونحن شهود على الصراع القائم من عقود، المبني على زعم يهودي غربي على حجج دينية وتاريخية.
عن قدم الوجود العربي في فلسطين يقول أعلام المؤرخين (كروبنسون وباتو برستد): "يرجع السكان في فلسطين إلى عهد قديم جداً يقدره بعضهم بعشرة آلاف سنة قبل الميلاد وقبل أن يضع اليهود أول قدم لهم في هذه البلاد كان يقطنها أقوام ذوي حضارة ومجد كـ(الكنعانيين) والفينيقيين والحثيين والفلسطينيين وغيرهم" . إلا أنه هناك شبه إجماع عند المؤرخين وعلماء الآثار الثقات "أن (الكنعانيين) أصحاب اللغة (السامية)* العربية استقروا في فلسطين في الألف الثالثة قبل الميلاد حيث عثر أولئك العلماء على مدن كانت تحمل أسماء كلمات ترجع إلى الأسرة الخامسة المصرية في سنة 2965 قبل الميلاد، كما وردت كلمات كنعانية في المدونات المصرية في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، والذي يعرف في التاريخ المصري بعصر بناء الأهرامات" . كما أثبتت الشواهد التاريخية والآثارية والحفريات التي عثر عليها في تلك المنطقة وغيرها أنه عندما "استقرت القبائل (الكنعانية) التي قدمت من الجزيرة العربية في أرض (كنعان) بين السنوات 3000-2500 قبل الميلاد أنشأت – هذه القبائل ـ حضارة سرعان ما ازدهرت وبلغت أوجها حوالي سنة 2000 قبل الميلاد. وكان من مظاهرها إنشاء نحو مئة مدينة وقرية من أهمها مدينة "سالم" التي قام اليبوسيين وهم إحدى القبائل (الكنعانية) التي استوطنت المنطقة الجبلية من فلسطين – ببنائها" .
وقد سبق أن أشرنا إلى أن أكبر القبائل العربية التي هاجرت وسكنت فلسطين ولبنان القبائل التي باتت تعرف باسم (الكنعانيون والفينيقيون)، وهم فرع من الهجرات العربية التي غمرت الساحل السوري ولبنان وفلسطين في نهاية الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد، وقد كانت أول الهجرات العربية إلى فلسطين مع بداية العصر البرونزي القديم " 3100ق.م". وقد بنت القبائل العربية التي سكنت فلسطين فيها القرى والمدن المحصنة خصوصاً في المناطق الجبلية، وقد عرفوا الأسوار وشادوها حول مدنهم لحمايتها من هجمات الغزاة وانشئوا تجمعات مستقرة، وقد اشتهروا بزراعة الحبوب والفواكه وقد نقل عنهم ذلك أمم أخرى، وكانت لهم بعض المراكز التجارية الكبيرة، وأسسوا حضارات ذات طابع متميز حتى أن حضارتهم هذه قد تمكنت من غزو الأقوام المجاورة لهم. وقد كانت حضارتهم من "القوة والعظمة ما مكنها من امتصاص موجات المهاجرين واستيعابهم كأولئك الذين وصلوا حوالي عام 2600 ق.م من وراء القوقاز كما تدل على ذلك أواني الخزف ذات الطابع الجديد والتي عثر عليها في خربة كرك وما أسرع ما تمثلت حضارة هؤلاء المهاجرين" . كما وصف المؤرخ الأمريكي (برستد) حضارة سكان فلسطين من العرب وحصانة مدنهم عند دخول اليهود إلى فلسطين أول مرة، بقوله: "وحين دخل العبرانيون فلسطين وجدوا فيها (الكنعانيين) يقيمون في مدن زاهرة تطوقها الأسوار الضخمة ولم يستطيعوا أن يفتحوا منها إلا المدن الضعيفة، حتى أن أورشليم هزئت بحملاتهم عدة قرون" .
وفيما يلي سوف نعرض لتلك القبائل العربية وغير العربية التي سكنت فلسطين منذ فجر التاريخ:

اليبـوسـيون
كان اليبوسيون أول البطون العربية التي انتقلت إلى فلسطين وسكنت فلسطين منذ حوالي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وهم أول من بنى مدينة "القدس" التي كانت تسمى "يبوس" في حدود عام 3000 ق.م، وأسموها "يبوس" نسبة إلى جدهم الأعلى كما قال بعض المؤرخون، وإن كان بعض المؤرخين وعلماء الآثار يؤكدون أن اليبوسيين قد سكنوا فلسطين وأسسوا مدينة "يبوس" في تاريخ أقدم من ذلك. وقد أقام اليبوسيين مدينة "يبوس" على الجبل الجنوبي الغربي من القدس الذي عرف فيما بعد بـ"جبل صهيون" أو جبل "النبي داود" وقد أقاموا منازلهم حولها، وتقع "يبوس" في موقع وسط من فلسطين وتشرف على واحدة من أهم الطرق الداخلية، وهي الطريق التي تسير شمالاً وجنوباً على ظهر "وادي الأردن" ومع ذلك فإنه كان يسهل حمايتها. و"قد اتسعت مدينة يبوس بعد ذلك حتى أصبحت تقع على أربعة جبال هي:
- جبل صهيون (منطقة الملك داود وسميت بمدينة داود أيضاً بعد فتح سيدنا داود للمدينة).
- جبل موريا منطقة (المسجد الأقصى المبارك).
- جبل أوفل (الهضبة التي تقع ما بين سور مدينة القدس من الجهة الشرقية الجنوبية وسلوان).
- جبل بزيتا (منطقة باب الساهرة وحارة السعدية حالياً).
وهذه أسماء قديمة من أيام اليبوسيين وليست أسماء عبرية" .
وقد كشفت الحفريات عن قدم مدينة "يبوس"، حيث "تعود أول إشارة وردت عن المدينة إلى الحفريات التي جرت في "تل مرديك" بشمال سوريا. والتي أسفرت عن اكتشاف آثار لمملكة قديمة سميت "مملكة بيلا" وجد بين آثار هذه المدينة ألواح كتب عليها اسم مدينة "سالم"... وكان ذلك سنة 2500 قبل الميلاد. كما وجد المنقبون نماذج للفخار جنوب المدينة الحالية من الموقع الذي كان نواة المدينة اليبوسية القديمة، وقد أرجع العلماء تاريخ هذا الفخار إلى العصر البرونزي القديم 3000-2100 سنة قبل الميلاد، وقد كنت بداية المدينة على شكل حصن عسكري ضمن الجهد (الكنعاني) الكبير لتأسيس دولة (كنعان) التي غطت معظم المساحات الحالية لفلسطين. وكان من نتائج هذا الجهد تأسيس مجموعة كبيرة من المدن والقرى كان من أشهرها بالإضافة إلى القدس كل من نابلس، بيسان، مجدو، عسقلان، غزة، والخليل" .
كما كشفت الحفريات التي أجراها علماء الآثار منذ منتصف القرن التاسع عشر خارج السور الجنوبي الشرقي للمسجد الأقصى الشريف للبحث عن قلعة اليبوسيين على ضوء ما أوردته التوراة، وكانوا على التوالي (وارن) عام 1860م و(بلس وديكى) عام 1890م، وبعد ذلك بثلاثين عاماً قام (مكلستر) بتنقيبات ثالثة. وفي عام 1960م بدأت الآنسة (كاثلين كينيون) حفرياتها في الموقع الذي سبق وأجري الحفريات فيها مكلستر ومن سبقه من علماء، توسعت كينيون في الحفر نحو الشمال إلى أن وصلت إلى سور يمكن إرجاعه إلى سنة 1800 وهو السور اليبوسي الذي وقف في وجه غزو اليهود(16). وقد خلصت كينيون إلى أن: مدينة اليبوسيين التي هدمت أسوارها وأعيد بناؤها أربع مرات كانت تقع شرق أسوار الحرم القدسي الشريف على سفح منحدر إلى وادي كدرون، ولم تكن على جبل فريا ـ ثرياـ حيث يوجد الحرم الآن(17).
كما أتثبت الشواهد التاريخية والأثرية واللغوية أن مدينة "يبوس" كانت قد اتخذت أسماء عربية عديدة منها: "يوروسالم" أو "يوروشالم" وتعني مدينة الإله سالم أو بشالم إله السلام عند اليبوسيين. وكان "ملكي صادق" ملك اليبوسيين هو أول من أطلق على المدينة هذه التسمية. وفي عهده ظهرت في المدينة أول جماعة اعتنقت التوحيد في عبادة إله واحد. وفي عهده اتسعت المدينة وغدت مركز ثقل اليبوسيين ولا شك أن الاسم الذي يستعمله يهود اليوم وهو "أورشليم" هو تحريف لاسمها الكنعاني "يورشالم" أو "أوروشالم"؛ ولما جاء الفتح الإسلامي غلب على المدينة اسم "بيت المقدس" أو "البيت المقدس" . كما "تشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن الشكل الأساسي للمدينة القديمة بالقدس الحالية يعود إلى نفس الأساسات التي وضعها اليبوسيين، والذين عرفوا بمهارتهم في فن البناء وقطع الحجارة الضخمة كما عرفوا باهتمامهم بتحصين مدنهم وإحاطتها بالأسوار" .
ومن المعروف عن اليبوسيين أنهم أول الشعوب التي عرفت التوحيد وعبادة الإله الواحد، وكانوا يصفونه باسم "الله العلي"، وقد أشارت التوراة إلى زهد "ملكي صادق" وتعبده وأنه بارك إبراهيم عليه السلام قائلاً: "لتكن عليك يا إبرام بركة الله العلي، مالك السموات والأرض. وتبارك الله العلي الذي دفع أعدائك إلى يديك" التكوين 14/20-21. وعن معرفة اليبوسيين وملكي صادق لعقيدة التوحيد، فيمكن أن يكون ذلك راجع إلى أن ملكي صادق قد أمن بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام وعبر له عن امتنانه بذلك. أو أن يكون اليبوسيين من أتباع سيدنا هود أو صالح وقد هاجروا حاملين عقيدة التوحيد معهم إلى فلسطين. حيث تشير المصادر التاريخية الإسلامية إلى أن سيدنا صالح ومن آمن معه خرجوا إلى الشام حيث نزلوا المنطقة من الحِجر إلى صرح أي نحو وادي القرى "وهي مدائن صالح الحالية" إلى رملة فلسطين على 18 "ثمانية عشر" ميلاً بين الحجاز والشام .
وقد دافع اليبوسيين عن أراضيهم ومدينتهم ضد جميع الغزاة الذين غزوا فلسطين، وكانوا يحاولون السيطرة على "يبوس" المدينة المحصنة، وقد دحروا الكثيرين منهم، ولم تفتح يبوس أبوابها إلا لنبي الله داود عليه السلام حوالي (عام 1000 ق.م)، الذي نقل عاصمة ملكه من الخليل إليها، وقد ظل اليبوسيون يعيشون في مدينتهم ولم يُخرجهم منها أحد.
الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ور في المقال معلومة غير صحيحة وهي شائعة لدي المؤرخين وكل الكتب التي تتحدث عن تاريخ فلسطين، كان يجب علي حذفها قبل النشر لكني للأسف لم أراجع المقالة قبل نشرها، وكما سبق أن قلت أن معظم أبحاثي أو نواتها الرئيسة كتبت عامي 1985 _ 1986 وطبعتها على الحاسوب في منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي، وأثناء كتابتي أو استكمال ما كتبته عن عدم وجود هيكل لسليمان عليه السلام وذلك عام 2004 وجدت أن تلك المعلومة التي لا يخلو منها كتاب عن تاريخ فلسطين ومرجعها التوراة المحرفة ليست تاريخية، لذلك وجب التنويه لعدم اعتمادها والانتباه لها في الكتب الأخرى، وهي:

أن ملكي صادق ملك مدينة يبوس (القدس) بارك نبي الله إبراهيم عليه السلام باسم الرب العلي القدير، ووبناء على ذلك خرجوا بفكرة تقول:
أن الكنعانيين هم أول من عرف عقيدة التوحيد، وهم مصيبون في ذلك، عرفوا عقيدة التوحيد الوثنية، تغليب إله على بقية الآلهة، وليس عقيدة الوحدانية السماوية، وهناك فرق بين توحيد التغليب، ووحدانية الله الواحد الأحد الذي لا شريك له.
وكمعلومة تاريخية لم يثبت أن إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب عليهم السلام لا في التوراة المحرفة ولا في الأناجيل ولا القرآن الكريم، لم يثبت أن أحدا منهم زار القدس أو أقام فيها، وأن رواية مباركة ملكي صادق ملك أورشليم لنبي الله إبراهيم أضيفت إلى سفر التكوين بعد قرون من كتابته، في عهد الحكم اليوناني لفلسطين، أثناء الصراع الذي حدث بين اليهود زمن الدولة المكابية التي جمع فيها كاهن اليهود بين الكهانة والملك، والتقليد اليهودي ينص على:
أن الأنبياء والملوك من نسل يهودا
وأن الكهان من نسل لاوي
وقد استغل حاخامات طائفة اليهود الصدوقيون ذلك الخلاف بين طائفة اليهود الفريسيين وانحازوا إلى ملك الدولة المكابية، مكانوس، ليشقوا صفها ويكسبوه إلى جانبهم، فوضعوا تلك الرواية في سفر التكوين لتكون حجة ودليل شرعي في عقيدتهم:
إذا كان إبراهيم وهو جد بني إسرائيل الأعلى قدم العشور لملكي صادق ملك وكاهن أورشليم الكنعاني، ألا يجوز لليهودي أن يجمع بين الملك والكهانة؟!
تلك هي حقيقة تلك الرواية المزيفة في سفر التكوين التي زيفت تاريخ يبوس القديم وعقيدته.
وهذا التصحيح مثبت في الموسوعة العبرية والموسوعة البريطانية، للأمانة العلمية وجب التنويه لذلك
مع الاعتذار عن الخطأ أو السو مني وعدم حذفها