مصطفى إنشاصي
لقد مر معنا أنه في منتصف الألف الثالث هاجر فرع ثالث يدعى الأموريين إلى بلاد الشام والمنطقة الوسطى من الفرات. كما هاجر فرع آخر من القبائل العربية وسكنوا الساحل السوري ـ فلسطين ولبنان. ولا يعني ذلك أن بلاد الشام كانت خالية من السكان العرب في ذلك الوقت، بل كان فيها دون شك أقوام عربية اختلطوا بسكانها الأصليين، وكان عنصرهم في تلك البلاد ظاهر.
وتحدثنا كتب التاريخ أنه في القرون الأولى من الألف الثالث قبل الميلاد "وصل الفينيقيون ونزلوا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ابتداءً من أوجاريت (على مقربة من اللاذقية) إلى صور، كما احتل (الكنعانيون) جزءاً آخر من الشاطئ من جبال الكرمل حتى حدود مصر، وهي المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم فلسطين. أما في داخل البلاد حيث يوجد الإقليم السوري، والمناطق الواقعة إلى الجنوب منه في الأردن، فاستقر الأموريين وهم أيضاً من (الساميين)" . وغالباً أن القبائل العربية التي سكنت فلسطين من شمالها إلى جنوبها وفدت عليها من الشرق لا من الجنوب، لأنه لا يوجد دليل تاريخي على هجرة كبيرة من طريق الحجاز أو شواطئ البحر الأحمر قبل دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (*).

1- الأموريون "العموريون":
هم أول القبائل العربية الرئيسة التي سكنت سوريا (**)، والأموريين في الأصل من نفس القبيلة التي سكن فروع منها فلسطين، وقد أطلق عليهم أبناء عمومتهم الآكديون "الاسم السومري (مارتو) الذي يقابل الكلمة الآكدية (آمور) بمعنى الغرب لأنهم كانوا إلى الغرب منهم" . وكانت عاصمتهم "ماري" الواقعة جنوب مصب نهر الخابور، ويرى البعض اسم "ماري" كلمة عربية قديمة ومعناها العلو وارتفاع أي سكان المرتفعات . ويرى البعض أنها كلمة سومرية وهي شبيهة باسم آمور أي بلاد الغرب. ثم أطلق البابليون الاسم كله على سورية، كما سموا البحر المتوسط "بحر آمور العظيم"... في خلال الألف الثاني أصبحت ماري وما حولها آمورية، ولم يقتصر الأمر على إقامتهم في المنطقة الوسطى من الفرات وإنما احتلوا بلاد ما بين النهرين وأسسوا أسرات حاكمة من آشور شمالاً حتى لارسا جنوباً .
وقد كان الأموريون في مبدأ الأمر في شمال سوريا، ثم أخذوا ينتشرون بعد ذلك في مناطقها الوسطى وعلى الشاطئ حتى وصلوا إلى فلسطين، وانتشروا نحو الشرق واستقروا في مناطق ذات حضارة قديمة. وأسسوا دولة لعبت دوراً كبيراً في تاريخ العراق، ونشأت فيها أُسرة مدينة بابل حوالي عام 1894ق.م، التي قدر لسادس ملوكها وهو الملك حمورابي الذي بدأ حكمه عام 1728ق.م أن يوحد البلاد كلها تحت سلطانه وأن ينشئ الإمبراطورية الشامية الثانية وأن يخضع له كل الدويلات الأخرى مثل دولة ماري ولارسا وعيلام ووصل جنوباً إلى (الخليج الفارسي) . وقد كان من نتائج الاستقرار والاتحاد الذي كانت من خصائص عهد حمورابي أن انتشرت الحضارة البابلية في جميع أنحاء الشرق القريب وتجاوزت إلى أطراف العالم المعروف في ذلك الوقت وذلك عن طريق التجارة التي قام بتشجيعها حمورابي، فوصل تأثير الحضارة البابلية إلى الساحل الأطلسي وإلى وسط آسيا .
وقد كانت المنطقة التي سكنها الأموريون تشكل ممراً طبيعياً له أهميته من الناحية التجارية ونقل التراث الحضاري. وكان من الناحية الغربية يؤدي إلى البحر المتوسط ومن الناحية الشرقية إلى منعرج الفرات. وقد حاول كل من البابليين والمصريين والأشوريين والكلدانيين والفرس والمكدونيين السيطرة على المنطقة .
وبعد أن قضى على الاموريين في سوريا الوسطى، سكن الخابيرو وكذلك الآراميون المنطقة الجنوبية من سوريا وفلسطين. وقد وجدوا فيها جماعات (سامية) من الأموريين تقيم في بعض أجزاء منها .

2- القبائل العربية التي سكنت فلسطين ولبنان:
كانت أكبر القبائل العربية التي سكنت فلسطين ولبنان القبائل التي باتت تعرف باسم (الكنعانيون والفينيقيون)، وهم فرع من الهجرات العربية التي غمرت الساحل السوري ولبنان وفلسطين في أوائل الألف الثالث ق.م كما مر معنا، وقد كانت أول الهجرات العربية إلى فلسطين في الـ3100ق.م. كتب الأب "دوفو" يقول: "كانت بداية العصر البرونزي القديم "3100ق.م هي الزمن الذي استقر فيه (الساميون) لأول مرة في فلسطين وقد أطلق عليهم (الكنعانيون)(*) تبعاً لإطلاق الكتاب المقدس الذي خلع هذا الاسم على السكان (الساميين) في فلسطين قبل وصول الإسرائيليين" .
إلا أن المؤرخين وعلماء الآثار يقولون: أنه كان يُظن قديماً أن اسم كنعان (سامي) الأصل وأنه مشتق من فعل "خنع، قنع، كنغ" إشارة إلى الضِعة ومنها مجازاً الأرض الواطئة لسكناهم على الساحل، ولكن الرأي المقبول الآن من أكثر المشتغلين بهذه الدراسات هو أن أصل كلمة "كنعان" غير (سامي)، ويحتمل أن يكون مشتقاً من اللفظ الحوري Knaggy بمعنى الصباغ الأرجواني، إذ كانت هذه المنطقة تشتهر بهذه الصبغة القرمزية عندما اتصل الحوريون بتلك البلاد في القرن الثامن عشر أو السابع عشر قبل الميلاد. وفي البابلية كتبوا اسمها "كنغى"، وكتب بالفينيقية كنع Kena، وبالعربية (كنعان) أي بلاد الأرجوان، أما اسم "فينيقيا" فهو مشتق على الأرجح من الكلمة اليونانية Phoenix التي تعني القرمز أو اللون الأرجواني، وهو اللون الذي كان الفينيقيون يستخرجون لونه من المحارات البحرية ويصبغون به ثيابهم. والظاهر أن الإغريق هم الذين خلعوا عليهم هذه التسمية. وغالباً ما تكون جماعة الميكانيين. الذين جاءوا إليها للاتجار في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد. وفي البداية كان يستعمل لكل (الكنعانيين) ثم حدد إلى الذين يسكنون الساحل، ومن حوالي الـ1200ق.م أصبحت كلمة فينيقي مرادفة لكلمة (كنعان) . إلا أن اسم (الكنعانيين) ظل يطلق على من سكن الساحل الفلسطيني والمناطق الداخلية، واسم فينيقي على من سكن الساحل اللبناني والسوري مع أنهم قبيلة واحدة ولا فروق بينهم.
ومع أن الكنعانيين "الفينيقيين" دخلوا إلى المنطقة مع دخول الآكديين الذين سكنوا بلاد الرافدين، واستطاعوا أن يشيدوا حضارة عظيمة لها فضل على الحضارة العالمية في كثير من الجوانب، إلا أن المعلومات عنهم بقيت حتى القرن التاسع عشر مستمدة من شعوب أخرى هم اليهود والإغريق والرومان، وهؤلاء كانوا على صلة وثيقة بهم، وهذه الصلة لم تكن في جميع الأحوال مبنية على الصداقة، أما آداب الفينيقيين فقد ضاعت.
فقد كتب (بلورتاخ) اليوناني في القرن الأول الميلادي عن القبائل العربية التي سكنت فلسطين ولبنان؛ بعد سقوط قرطاج بمدة منحازا إلى الرواية الغربية ضد الكنعانيين والفينيقيون، ما يلي: "أنهم شعب مملوء بالصرامة والمشاكسة، مطيع لحكامه، مستبد مع أولئك الذين حكمهم... عنيف إذا غضب، لا يتزعزع إذا ما صمم على شيء أو قرر شيئاً، وصارم حتى أنه يكره الملاطفة والشفقة". أما Pompouius Meta الأسباني الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد فقد هم بـ"أن الفينيقيين جنس مجتهد نجحوا في الحرب والسلام، فقد برعوا في الكتابة والأدب وفي فنون أخرى وفي الملاحة وفي الحروب البحرية وفي حكم إمبراطورية" .
ولكن بعد التوسع في الكشوف الأثرية في المنطقة ظهرت كثير من المعلومات والحقائق عن ذلك الشعب الذي كان رائد في كثير من المجالات. وقد اتضح أن الفينيقيين كانوا في العصور القديمة مكتشفين لا نظير لهم، وكذلك كانوا مستعمرين(*) وتجار فقد حملوا أشياء مصنوعة للعالم المعروف. أما قوتهم فقد عرفت ليس فقط من حروب قرطاج مع روما. فإن صور وصيدا قد وقفتا أمام تقدم بلاد الرافدين وبعض الغزاة. كما أن الفينيقيين قد حسموا نزاعاً قام به يونان آسيا عام 498 ق.م. وقضت الفرق الفينيقية البرية على ثورة قامت في قبرص، وانهزم الأيونيون في معركة بحرية عام 494 ق.م، كما اشترك الفينيقيون في حملة على بلاد اليونان عام 490 ق.م، كما اشتركت فينيقية في حملة قام بها (اكسر كسس) وقاموا بحفر قناة في برزخ بين جبل "أتوس" والقارة. وأبدوا قدرة فائقة في وقعة "سلاميس" عام 480 ق.م، وأظهرت البحرية الفينيقية تفوقاً كبيراً على اليونانيين حتى أجبروهم على الصلح المعروف بصلح "أنطالسيداس". وكان هذا درساً لليونانيين حرم عليهم القيام بأي عدوان على آسيا .
على الرغم من كل هذه القوة والإبداع الذي كانت عليه القبائل العربية التي سكنت فلسطين ولبنان؛ إلا أنها لم تستطيع إقامة دولة موحدة لها بدلاً من الدويلات الكثيرة التي كانت منتشرة في فلسطين والساحل السوري. ويرى علماء الآثار أن ذلك راجع إلى طبيعة المنطقة التي سكنت فيها تلك القبائل، فقد قسمت الطبيعة السهل الساحلي الضيق الذي لا يزيد عرضه عن 50 كم إلى أقاليم مختلفة، وكان لهذا الانقسام أثره في إيجاد وسيلة لاتصال كل إقليم بالآخر عن طريق البحر لأن الطريق البري صعب. كما أنها تعتبر الممر الرئيس بين إفريقيا وآسيا، لأن الصحراء السورية التي تقع شرق جبال لبنان صعب اجتيازها، من أجل ذلك كانت فينيقية دائماً معرضة لمرور جيوش هذه الأقطار في العالم القديم، وحرصت كل دولة على ضمها إليها لتتمكن من السيطرة على منافذ في البحر المتوسط. كما أن هذه البيئة هي التي دفعت الفينيقيين إلى تأسيس مدنهم عند مدخل الأودية وبالقرب من الجزر القريبة من الساحل مثل أرادوس وصيدا وصور. وقد كان السهل الذي يفصل سلسلة جبال لبنان عن البحر غير كاف لإمداد السكان بالمؤن، من أجل ذلك اتجه الفينيقيون إلى البحر، وقد كانت وفرة الأخشاب سبباً في تفوقهم في صناعة السفن وفي ركوب البحار.