الغرب والإسلام
محمد علي باشا رائد التغريب وأزمات الأمة الحديثة! (33)
مصطفى إنشاصي
أمة الثقافة لدينا وكل أزماتنا لم تبدأ في عقود الأمة الأخيرة لكنها بدأت منذ حوالي قرنين من الزمان، منذ عهد محمد علي باشا بعثاته التعليمية التي كان يرسلها إلى أوروبا وخاصة باريس عاصمة فرنسا التي كان مبهوراً بنموذجها الحضاري، بدأت مع أولئك الطلبة الذين أُرسلوا للدراسة في الغرب وانبهارهم بمظاهر الحضارة الغربية وتقدمه الصناعي وهزموا نفسياً ووقعوا في الخلط الخاطئ بين تجربة الغرب مع الكنيسة وبين الإسلام دون أن يلاحظوا أي اختلاف بينهما وأن لكل دين خصوصيته، ولكل مجتمع مراحل تطوره الاجتماعي الطبيعي الذي ينسجم في سياقه مع بيئته التاريخية، وأن الإسلام لم يُقِم دولة دينية بالمفهوم الغربي لأنه لا يوجد فيه رجال دين ولا أحد فوق القانون والمحاسبة إنما فيه علماء دين مكلفين ويخضعون للمساءلة مثلهم مثل أي مسلم في حال أخطئوا!
كما لم يلاحظوا أنه في الوقت الذي كان يعاني فيه العلماء والمفكرين في الغرب أزمة مع ما يسمونه (الكتاب المقدس) ومع الحكم الديني (الكنيسة) وتتهمهم الكنيسة بالهرطقة والتجذيف والسحر والشعوذة وغيرها، ويتم سجنهم وتعذيبهم والحكم عليهم بالسجن أو الإعدام بالحرق وحرق كتبهم وغيرها، كان أقرانهم في الدول الإسلامية يلقون كل الدعم والتشجيع في علومهم وأبحاثهم في كل المجالات، ولم يكن لا بينهم وبين القرآن الكريم مشكلة ولا بينهم وبين الحكام مشكلة، فالقرآن الكريم يحثهم على العلم والبحث وكانوا كما قالت المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكة) في كتابها "شمس الله تسطع على الأرض": يضعون كتاب الله ويتأملون فيه ويسترشدون به في علومهم واكتشافاتهم، وكان الحكام يغدقون عليهم الأموال التي توفر لهم حياة كريمة وتعينهم على التفرغ لعلومهم والإنفاق على صناعة أدواتهم وتساعدهم على الإبداع والابتكار!
وقد عمق ذلك الخلل والخلط الأنظمة العلمانية التي حكمت وطننا بعد خروج المحتل ومثقفيها الذين اتخذوا مواقف مسبقة ضد الإسلام كلٌ بحسب توجهه الأيديولوجي دون أن يعرفوا الإسلام ومازالوا يرفضون تغييرها، وبدل أن يحاكم العلمانيين أنفسهم أو أسلافهم منذ محمد عليّ إلى اليوم على ما سببوه من تخلف ونكبات للأمة بسبب محاولاتهم المستميتة لنقل وتطبيق التجربة الغربية مع الدين لأنها هي التي حكمتنا طوال حوالي مائتي عام وليس الإسلام، إلا أنهم مازالوا يُصرون على محاكمة الإسلام ويتهمونه بأنه سبب التخلف على الرغم من أنهم هم وأسلافهم الذين صنعوا واقعنا المعاصر!
لذلك فإن أزمة الثقافة لدى بعض المفكرين الإسلاميين تكمن في عدم إدراكهم أهمية ربط الدولة المدنية بالمشروع الإلهي وعالمية الإسلام الثانية، وتوضيح أن غياب الحريات العامة والخاصة وما يسمونه الحقوق المدنية والفردية في المجتمع راجعة إلى المنهج الجبري الديكتاتوري المستبد الذي بدأ بمشروع محمد علي لإقامة الدولة القومية الحديثة برعاية غربية وانتهي بهيمنة الإرهاب الفكري وغياب الحرية، لذلك علينا في زمن التغيير ليكون التغيير حقاً ثورة حقيقية أن نهتم بثقافة الإسلام الثورية التغييرية لنتجاوز حدود الزمان والمكان ونربط العالم أجمع بالمفاهيم الإسلامية الثورية ومعاييره العالمية للقيم الإنسانية لا بمفاهيم الغرب العنصرية الاحتلالية!
نعم لقد كان محمد علي يحمل عقلية دموية قبلية غاية في الرجعية والتخلف، ومشروعاً تآمرياً انفصالياً لا مشروعاً تجديدياً تحديثياً وحدوياً كما يزعمون، لقد كان مشروعاً ديكتاتورياً استبدادياً فردياً لإقامة دولة أو مملكة له ولأبناءه من بعده، بل إنه طمع في كرسي الخلافة لنفسه ومزق الأمة في حرب لنحو عقدين من الزمن فتحت باب التدخل الغربي في وطننا وسرّعت في احتلاله لكثير من أجزاءه!
لقد كان مشروع محمد علي مشروعاً وافداً ومستورداً على الطريقة الغربية التآمرية ضد الإسلام كما جاء في وثيقة لويس التاسع سالفة الذكر، حاول فيه تقليد الغرب بإقامة دولة قومية على الطريقة الغربية تكون مضادة للنموذج الإسلامي، كما استغل الغرب الخبيث تلامذته الذين يدعون إلى الأخذ بالنموذج الغربي بأن تكون دعواتهم في ظاهرها مغلفة بإطار قومي عروبي ومحتوى فكري وثقافي وتراثي عربي، بحيث تستثير النزعة العنصرية في العرب والنزعة العنصرية لدى أشقاءهم من القوميات الإسلامية الأخرى ويقع الصراع بينهما، وذلك ما حدث عندما هيمن على تلك الدعوات الفكر العروبي العنصري لا الفكر العربي الاصطفائي المتمثل في قيم الإسلام العالمية ومعاييره الإنسانية التي قاد بها العالم وشكلت معالم حضارة إنسانية متميزة لا حضارة عنصرية استعلائية على الطريقة الغربية!
لذلك على أشقاءنا في الوطن وشركائنا في تحمل مسئولية خروجنا من الهيمنة الغربية ألا يُحملوا الدين المسئولية، ونحن منذ عهد محمد علي باشا الذي يعتبره أنصار العلمانية والحداثة رائد النهضة والدولة العربية الحديثة في وطننا الذي يحكمنا هم حملة الأفكار العلمانية ودعاة التبعية للغرب وليس الخلفاء ولا العلماء المسلمين! أضف إلى ذلك أن الدول القطرية التي أنشأها الغرب (أنظمة التجزئة، سايكس - بيكو) سارت على نفس نهج محمد علي أستاذها ورائدها في الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها.
فلقد وصل محمد علي باشا إلى السلطة وكرسي الحكم على نهر من الدماء (مذبحة القلعة)! كما استفرد محمد علي باشا في الحكم من خلال الغدر والخديعة والتخلص من كل حلفائه وأنصاره الذين أتوا به إلى كرسي الحكم وعلى رأسهم عمر مكرم! لقد ثَبَّت محمد علي حكمه وحكم أحفاده من خلال تحويل مصر أرضاً وشعباً إلى عبيد لخدمته وخدمة حكمه! لقد اتمر حكمه وحكم أبناءه وأحفاده لأنه أسس جيش عصري وحديث بعقلية غربية تمدناً ونفسية ذليلة ومستعبدة للحفاظ على حكمه وليس على أمن ومصلحة مصر! لأنه سخّر كل ثروات مصر الزراعية والصناعية واقتصادها لخدمة ذلك الجيش الذي يحميه ويحمي أسرته! أليست الأنظمة التي نعاني من استبدادها وظلمها تسير على النهج نفسه؟! وأن محاولات توريث البعض الرئاسة لأحد أبناءه من بعده كانت إحدى أهم الأسباب التي أدت لما حدث؟!