النظريات العبثية: صلاتنا منذ 1450 عام باطلة؟! (3)
. قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1).
ليلة أن أُسري برسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في إيلياء (يبوس)، ومنه عُرج به إلى السماوات العلا، وفرض الله تعالى عليه الصلاة وفيه صلى أماماً بجميع الأنبياء والرُسُل عليهم الصلاة والسلام، توجه المسلمون في صلاتهم إلى إيلياء (يبوس) بيت المقدس الحالية المعروفة، والذي وصفه الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم لكفار قريش الذين شككوا في صدق رحلة الإسراء والمعراج، وقد صَدَّق وصفه حقيقته التي كان يعرفها تجار قريش من خلال مرورهم به أثناء رحلاتهم إلى الشام، ولم نعلم طوال تاريخنا الإسلامي للأمة مسجداً أقصى غير المسجد الأقصى القائم عليه الصراع اليوم في فلسطين ومهدد بالهدم والإزالة بين لحظة وأخرى ليقيموا (هيكلهم المزعوم) مكانه.
وإذا قال متذاكي من أنصار تلك النظريات: أنه لا يقصد بذلك قدس المسلمين التي هي في فلسطين؛ لكنه يقصد تلك القدس التي يتحدث عنها اليهود، وتلك القصص التاريخية التي حدثت لأجدادهم على أرضها، ولم يُعثر في القدس وفلسطين على أي اكتشاف أثري يؤكد صحة روايات التوراة، وتلك القدس ليست في فلسطين لكنها في اليمن! نقول: هذا كلام مضلل وبلا معنى!
لأن المسلمون توجهوا في صلاتهم عندما فُرضت إلى بيت المقدس الحالية مدة سبعة عشرة شهراً تقريباً، والتي كانت قبلة يهود الجزيرة العربية أـيضاً، ومازالت قبلة كل يهود العالم لليوم، وما أعقبها من حديث عن العلو والإفساد الإسرائيلي في الأرض (المباركة - المقدسة)، في قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً) (الإسراء:4-5) ...
كل ذلك يؤكد عدم صحة تلك النظريات، وعدم براءتها، ويجعلنا نفترض بل نؤكد على سوء النية والقصد من ورائها، فالحدثان مرتبطان ارتباطاً وثيق الصلة ببعض، التوجه في الصلاة إليها والعلو والإفساد! فإن كانت بيت المقدس هي التي في فلسطين؛ فالصراع في مكانه الصحيح. وإن لم تكن هي القدس نفسها فإننا بعد أن نجد القدس التي يحدثنا عنها (صليبيا والربيعي وغيرهم) ونحدد موقعها ونعيد لها قداستها وأهميتها ومكانتها الدينية؛ سيأتي اليهود ومَنْ خلفهم ليزعموا أنها ملكهم، ونكون نحن مَنْ قدم لهم المزاعم الدينية ليطالبونا بها!
وما يزيد من التأكيد على أنها هي نفسها تغير موقف يهود المدينة من النبي صلَ الله عليه وعلى آله وسلم عندما تحولت القبلة إلى المسجد الحرام! قال تعالى: (قدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 145-144).
قال ابن عباس: كان أول ما نُسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلَ الله عليه وسلّم، لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلَ الله عليه وسلّم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ) إلى قوله (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فارتابت من ذلك اليهود وقالوا (مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه).
وروى عن ابن عباس قال: كان النبي صلَ الله عليه وسلّم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام.
تُرى أكان رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم ومن قبله يهود الجزيرة العربية يجهلوا موقع بيت المقدس جغرافياً؟! ولنفترض جدلاً أن الرسول الكريم صلَ الله عليه وعلى آله وسلم أخطأ في الجغرافيا حاشاه من ذلك! فلماذا لم يرسل الله تعالى إليه جبريل عليه السلام ليصحح له ذلك الخطأ الجغرافي، ويُصوب له اتجاه قبلته في الصلاة ونحن نعلم أن من شروط صحة الصلاة أن يستقبل المسلم القبلة في صلاته؟!
أم أن الرسول الكريم صلَ الله عليه وعلى آله وسلم واليهود لم يخطئوا في توجههم للقبلة تلك الفترة وكانوا يصلون إلى بيت المقدس التي كانت في جنوب الجزيرة العربية التي يزعمها أصحاب تلك النظريات؛ لكن الأمر التبس على صحابته رضوان الله عليهم والمسلمون من بعده وعلى اليهود أيضاً واختلطت عليهم جغرافية الوطن فلم يعودوا يعرفون شمالها من جنوبها، فاتجهوا صوب بيت المقدس الحالية وتحرفت عقيدتنا طوال أربعة عشر قرناً من الزمن، وجاءنا أنصار تلك النظريات الآن ليصححوا لنا ذلك الانحراف، والخطأ الذي عاشت عليه أجيال الأمة طوال تلك القرون، وخاضت الحروب وسُفكت الدماء لأجله بالملايين في تلك الحروب؟!