-
الأرومة العربية ( 18 )
السودان
لفظ السودان في لغة وذهنية العرب:
لا تخلو النظرة للسودان وعلاقته بالأرومة العربية من بعض الارتجاج بين الاعتراف بعروبته ومساورة الشكوك في نفوس من لم يهتموا بمثل تلك المسائل التي تتعلق بالقومية والأرومة والتعويل عليها...
فلون البشرة السمراء الغامقة في بعض الأحيان، مقارنة بلون البشرة في معظم البلدان العربية يبعث على تساؤل من يفتش عن تساؤلات: ما صلتنا بهؤلاء وما صلتهم بنا؟
كما أن اللون الأسود، اقترن في أغلب الأحيان بلون العبيد في العصر الجاهلي، أو حتى أولئك (الزنوج) والذي قدر عددهم في أيام المأمون الخليفة العباسي بحوالي مليونين الذين أُحضروا بالشراء أو بالحروب لكنس السباخ من حظائر الخيول في العراق ... حتى ثاروا ثورتهم المعروفة...
وقد عزّز الفهم الخاطئ لما ورد في القرآن عن { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}*1
كما أن الروايات التي وردت منسوبة الى نوح عليه السلام، والتي نقلها الطبري وغيره من أن (حام) قد تلصص على عورة أبيه، فلما بلغه ذلك دعا عليه بأن تسوّد بشرته، إن مثل تلك الروايات عزّزت لدى ذهنية العرب النظرة بشكل فيه بعض الاستنكار تجاه ذوي البشرة السوداء..
لقد زالت النظرة تجاه اللون والعرق في عهد الرسول صلوات الله عليه بتقرير نبذ التفاخر باللون والنسب والعرق وتساوي المسلمين في الحقوق والواجبات، كما حلت نظرة الوفاق والاتفاق محل نظرة الاستعباد والاسترقاق، وعلا شأن أشخاص مثل بلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وآخرين...
لكن هذا لم تمنع سماحة الإسلام وصرامة الرسول صلوات الله عليه في تطبيق المساواة والالتزام بها، من ظهور حالات الرفض لفكرة المساواة والالتزام بها حتى وهو على قيد الحياة، فقد وضع باحث من البحرين كتاباً يدلل على مثل هذا القول يذكر فيه مئات من حالات تغلب النسق الجاهلي على نسق العدل والمساواة*2
ويبدو لمن يطالع ماضي العرب، لا يجده تاريخاً متزمتاً تجاه السود، فالأسود اسم من أسماء سادة قريش، وهو من تبنى المقداد بن عمرو الذي أصبح بعد التبني المقداد ابن الأسود، وهو الذي نزلت به الآية { ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} بإبطال التبني، فدُعي باسمه (المقداد بن عمرو) . وأن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وبالمناسبة، فإن الأسود الذي تحمله أسماء بعض العرب كأبي الأسود الدؤلي هو الحنش الأسود، كما أن الأرقم هو الحنش الأسود المرقط بالأبيض..*3
[] [] []
سيجد من يقوم بالبحث في موضوع السودان، اسمين: النوبة و الكوش وسيتكرر هذان الاسمان في الحديث عن مصر والسودان وحتى دول إفريقيا الشرقية الشمالية. وسيجد الباحث تكرار لمواقع الشلالات للتأشير على الحدود الفاصلة بين المواقع التي يتم الحديث عنها
[] النوبة: هي المنطقة الممتدة على طول نهر النيل ويحدها من جهة الشمال، الشلال الأول الواقع جنوب أسوان، وتنتهي عند التقاء النيلين الأزرق والأبيض في السودان ... وقد قامت على تلك المنطقة واحدة من أقدم الحضارات، وهي حضارة (كرمة) التي استمرت من 2500 قبل الميلاد الى 1500 ق.م.
[] الحضارة الكوشية: قامت سنة 1070ق.م واستمرت حتى 350 بعد الميلاد على نفس المنطقة التي قامت عليها حضارة (كرمة)
[] الشلالات: هي ستة شلالات، واحدة في مصر (حيث سد أسوان) وخمسة في السودان...
[] [] [] مراحل تطور الحكم في السودان:
يقسّم الدكتور السوداني (مكّي شبيكه) تطور الحكم في السودان الى عدة أطوار تبدأ عام 3400ق.م وتنتهي عام 350 ميلادي، وكيف أن الدولة الكوشية اعتنقت ديانة آمون المصرية، وكيف أن الملك الكوشي أصبح نائبا لفرعون مصر في السودان، وما فتئ الكوشيون أن استولوا على الحكم في مصر بين عامي 751 ق.م و 616ق.م *4
لم يكن السودان بعيداً في كل مراحل تطوره عن مصر، فقد احتل (سويشريش الثالث: من السلالة المصرية الثانية عشرة) المناطق الواقعة جنوب الشلال الأول سنة 1879 قبل الميلاد واستمر حكم المصريين للسودان طويلا حتى تعرضت مصر لغزو الهكسوس..
ولمعت سنة 350 ق.م في وسط السودان حضارة اشتهرت ببناء الأهرامات وهي مملكة (مروي) ولم تحل رموزها حتى اليوم*5
السودان قطر من أقطار إفريقيا، وسكانه الأصليون هم سكان إفريقيا، وسكان إفريقيا الأصليون هم السود أو الزنوج أو العبيد أي أولئك الذين لهم بشرة سوداء وقامات في الغالب مديدة...
هجر الى السودان من قديم الزمان عرب الحجاز واليمن وآخرون من آسيا، وأقوامٌ من الأمم المجاورة كالحبشة و بربر ومصر وبلاد المغرب، واختلطوا بأهله بعض الاختلاط وامتزجوا بهم لحدٍ ما، وكانوا يحضرون إليه للتجارة والصيد واقتناء ريش النعام وسن الفيل والصمغ والماشية...
بعد الفتح الإسلامي، هجرت قبائل عربية وأفراد من مختلف المناطق بهدف بسط السيادة ونشر الإسلام، فتسيدت على السكان الأصليين، وتصاهرت معهم فاكتسب الوافدون شيئا فشيئا السحنة السمراء أو حتى السواد وشيئا من عادات السكان الأصليين.
طارد الوافدون الجدد ومن اعتنق الإسلام من السكان الأصليين الذين تسيدوا البلاد، طاردوا من رفض الانصهار طوعاً، الى الجنوب من السودان حيث بقوا على دياناتهم البدائية ...*6
وقد يكون لتطور تجارة القوافل التي أدخلت الإبل للمغرب في القرن الثالث الميلادي بعد أن سبقتهم اليمن والجزيرة العربية بذلك بأكثر من ألف وثلاثمائة عام، وقد يكون هؤلاء التجار قد وجدوا أعداداً كبيرة بحالة وحشية في السودان فشدهم فكرة صيدها واستخدامها*7
وهناك مسألة تستوجب الحذر في الأخذ بكتب التاريخ العربي القديمة، لما فيها من أخبار وقصص أقرب الى الخيال منها للواقع، فكتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) والواقع في 27 جزء، وأكثر من عشرة آلاف صفحة، لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن فضل العمري المتوفى سنة 1384م، أي قبل وفاة ابن خلدون بحوالي عشرين عاما...
يذكر المؤلف في كتابه عن حياة السودان، أن حجم ثمرة اليقطين يساوي حجم قارب، وأنه يخرج أمام السائر ليلاً مصباحٌ يسير أمام السائر فيلحقه وإن ضربه السائر بحجر يتشظى الى شهبٍ كثيرة*8
لكننا ونحن نحاول أن نقرب للقارئ الكريم كيف أن السودان، التي تكون للأمة العربية كما يكون البؤبؤ للعين، فلولاه لما كان للعين قيمة، فإننا نشير للجهد الهائل الذي قام به (البروفيسور عون الشريف قاسم) في موسوعته عن قبائل السودان العربية وغير العربية والذي يقع في ستة مجلدات وحوالي ثلاثة آلاف صفحة، واستغرق في تدوينه عشرات السنين، إن تصفح هذه الموسوعة كافٍ لتكوين القناعة بما نرمي إليه من عروبة السودان *9
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
من المراجع
*1ـــ آل عمران آية 106
*2ــ تمثيلات الآخر/صورة السود في المتخيل العربي الوسيط/ د. نادر كاظم
*3ــ لسان العرب/ ابن منظور
*4ـــ السودان عبر القرون/ مكي شبيكه/ بيروت/ دار الجيل 1964 صفحة16
5ــ موسوعة السياسة/ عبد الوهاب الكيالي/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الجزء الثالث/ص 268
*6 ـــ السودان من التاريخ القديم الى البعثة المصرية/ عبد الله حسين/ 1935/أعادت نشره مؤسسة هنداوي عام 2012
*7 ــ دور القوافل التجارية في التفاعل الثقافي بين ليبيا والمغرب العربي وما وراء الصحراء والسودان في العصر الوسيط/د زكية بالناصر القعود/ جامعة قاريونس/ نشرت المقالة في مجلة آفاق الثقافة والتراث/ العدد 86 حزيران 2014 صفحة 132
*8ــ مسالك الأبصار في ممالك الأمصار/ ابن فضل العمري/ بيروت دار الكتب العلمية 1971/الجزء الرابع: تحقيق كامل سلمان الجبوري صفحة 46
*9ـــ موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن/ عون الشريف قاسم/ جامعة الخرطوم 1996
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى