الفصل السابع عشر: من انتقال التكنولوجيا الى الاستقلال التكنولوجي

الحلقة الأخيرة

تقديم: هاياشي تاكيشي/ معهد الاقتصاديات النامية ـ طوكيو

خمسة مكونات وخمس مراحل

يمكن أن نُعرِّف التكنولوجيا بأنها نظام من المعرفة والخبرة تم اختياره عن قصد لإدارة وسائل الإنتاج والحصول على نتاج معين (كالسلع والخدمات والمعلومات).
والتكنولوجيا تختلف بين أمة وأخرى. فالعلم كوني من الوجهتين النظرية والعملية، لكن هذا ليس صحيحاً بالنسبة للتكنولوجيا.

وحتى تنتقل التكنولوجيا الحديثة من محيط الى آخر، تستلزم عدة شروط، وعدم اكتمالها هو ما يفسر تفاوت الأداء بحسب الزمان والمكان.

هناك خمسة مكونات أساسية للتكنولوجيا: 1ـ المواد بما فيها الطاقة. 2ـ القوة العاملة البشرية. 3ـ الآلات. 4ـ الإدارة. 5ـ الأسواق. ومن الأخطاء الشائعة في النقاشات حول التكنولوجيا والإنماء التركيز فقط على العنصر الثالث. فتكنولوجيا الإنتاج لا تعمل بصورة جيدة في غياب أي من العناصر الخمسة.

حينما نسعى الى الإنماء بواسطة انتقال التكنولوجيا الهادف للتحديث، فإن الاستقلال التكنولوجي يمر بخمس مراحل: 1ـ اكتساب التقنيات العملاتية 2ـ تجميع المهارات الميكانيكية ومهارة الصيانة. 3ـ تقنيات التصليح والتحسينات الصغيرة 4ـ التصميم 5ـ الإنتاج المحلي أو إدارة أنظمة جديدة للإنماء.

إن تشغيل آلة دون تدريب كافٍ أمرٌ خطير على المشغل وعلى الآلة. والتقنيات التشغيلية لا تكتسب إلا بالممارسة المتكررة. وعندما تتراكم مثل تلك الخبرات يصبح المُشغِّل ماهراً ويكتسب تقنيات أكثر تعقيداً وتقدماً. إن طول حياة الآلة وفعاليتها يعتمدان على صيانتها بصورة صحيحة، وبالتالي لا يمكن الفصل بين المرحلتين (1 و 2).

الصيانة هي لُب الإدارة التكنولوجية. وكل مهندس يعلم أنه لا توجد آلة (أو مصنع) تعمل باستمرار بالكفاءة نفسها التي بدأت بها، من هنا فإن الأساليب الهندسية في إدخال التحسينات على الآلة ترتبط بالقدرات الهندسية في جميع القطاعات.

تعتبر المرحلة الرابعة، وهي التصميم، أكثر المراحل التي تأخذ فيها العملية طابعا مؤسساتيا منهجياً. ومن السهل تعلم ونقل خبرات علمية وهندسية في التصميم.

فالاستقلال التكنولوجي في حقل صناعي ما، يتوقف على تطوير القطاعات التكنولوجية المرتبطة به، وهذا ما يشترط ارتباط قطاعات الدولة (عامها وخاصها) بخطط مترابطة للقيام دون تكاسل في مجالاتها كافة.

إرث ما قبل الحداثة

يحاول اليابانيون تشبيه أنفسهم بالأوروبيين والابتعاد عن نموذج الاتحاد السوفييتي (السابق) أو الصين. ويسوقون أوجه الشبه فيما بين حضارتهم والحضارة الأوروبية.

لقد انتبه اليابانيون الى دوام تراكم الخبرة في حرفة أو عملٍ ما، وما لذلك من أثرٍ في سرعة الإنتاج وزيادته [وهذا ما يسمونه في اليابان بالالتزام بالنمطية، ففي قطاع صناعة السيارات مثلاً من يعمل في شركة تويوتا في شد براغي المحرك مثلا، يبقى في تلك المهنة حتى تقاعده، وهناك أشبه ما يكون بالميثاق بين الشركات، أن لا تقبل عاملاً أو فنياً عمل في شركة، حتى لا تنقطع عملية تراكم الخبرات لديه، وفي نفس الشركة فإنه لا ينتقل من شد البراغي الى الدهان مثلاً، فهذه (النمطية) ستزيد من سرعته في إنجاز عمله بشكل متقن]
حاول اليابانيون الالتزام بعدم زج أفراد لا يتلاءمون مع أدوار مهنية، فلا يصلح مثلاً مربي دودة القز لأن يكون مشتركاً في تشغيل مصنع للصلب، حتى لو تم تدريبه، فهو سيحتاج أوقات مضاعفة لما يحتاجه ابن حرفي عمل في الحديد أو طالب تكنولوجي [ هذه الظاهرة نلاحظ ما يتعارض معها في كثير من البلدان العربية حيث يُزج بمتقاعدين لأن يكونوا فنيين في مسلخ أو جامعة أو غيرها]

كان المزارعون على أهبة الاستعداد ليكونوا متخصصين في إنتاج الأرز ضمن وسائل وتقنيات حديثة، وكانوا متطلعين للأخذ بشراهة ما يتم نقله لهم، كذلك كان يفعل ذلك من هم في كل المهن.

تكوين المهندسين اليابانيين

كان يوجد عدد قليل من الخبراء نسبياً وكان هؤلاء ينتقلون من مكان الى آخر ويعملون أحياناً في أكثر من عمل واحد في الوقت نفسه، كأن يعمل أحدهم لدى الحكومة وفي شركة خاصة وفي إحدى الجامعات. ونتيجة لذلك برز صنف فريد من المهندسين اليابانيين المؤهلين للاضطلاع بجملة أدوار نظراً لخبرتهم في تقنيات تشغيل الآلات. وكثيراً ما ساعد هؤلاء على ملء الفراغ الناتج عن نقص الميكانيكيين الأساسيين. وقد ساهموا أيضاً بالتدريب الميداني فأوجدوا بذلك أعدادا متزايدة من العمال المهرة.

صمم أحد المهندسين الألمان مصنعاً للحديد في اليابان، وكان هذا المهندس (ل. بيانشي) يعتبر من أفضل المهندسين في العالم في صهر المعادن، وقد كلف المصنع (الفرن) أموالاً طائلة، وبعد أشهرٍ قليلة تعطل الفرن لأن المصمم الألماني لم يراع فوارق الوقود المستعملة في اليابان عنها في أوروبا. وقد تم دراسة تلك الأعطال على يد خبراء يابانيين وحلها دون الاستعانة بالألمان.

تشكيل شبكة تكنولوجيا وطنية

في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، بلغت العلاقة التكاملية العمودية والأفقية في ميدان التكنولوجيا بين الصناعات الرئيسية للتنمية الوطنية، مثل الصلب وسكك الحديد والاتصالات، والصناعات الكيميائية والثقيلة التي يدعوها الكاتب ب (الشبكة القومية العريضة للروابط التكنولوجية) بلغت مستوى موازياً لما بلغته في البلدان الأوروبية.

ولقد وفرت الحربان العالميتان الأولى والثانية فرصا لتطوير التكنولوجيا اليابانية من دون أي منافسة من الغرب. وقد بدأ العالم منذ عام 1960 يبدي اهتماما بالتكنولوجيا اليابانية. حتى غدت اليابان بما هي عليه من شهرة وقوة اقتصادية.

انتهى