لا تعرفه عن الهُكسـوس! (3-4)
التقدم الحضاري لدى الهكسوس في القرآن
رداً على الذين اتهموا الهكسوس بأنهم كانوا بدو همج ولم يعرفوا حياة الاستقرار ولم يكون لهم نصيب من الحضارة كبقية الشعوب الأخرى وخاصة في مصر ـ وقد سبق توضيح ذلك من خلال شهادة علماء الآثار ـ نود هنا أن نقدم بعض الإشارات التي وردت في القرآن الكريم التي يتضح من خلالها أن الهكسوس كانوا قوم متحضرين، وعلى درجة كبيرة من المستوى الحضاري في نواحي الحياة المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية والإدارية وغيرها. ومعلوم أننا علمنا من خلال قصة يوسف في القرآن الكريم أن الهكسوس كانوا هم حكام مصر، ومن خلال تتبعنا للقصة نستطيع أن نتعرف على مدى التقدم الذي كانوا عليه في ذلك الوقت المتقدم من الزمن. وأول ما يشير إلى المستوى المتقدم الذي كان عليه الهكسوس من تقدم اقتصادي، قوله تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ {يوسف:19ـ20}. وقد ذكرت الآيات كلمة "بضاعة" وكلمة "دراهم"، وقد اعتبر الذين عثروا على يوسف في الجب يوسف بضاعة، وباعوه للذي اشتراه من مصر بدراهم معدودة، ولم تذكر كلمة "بضاعة" في القرآن الكريم إلا في سورة يوسف! ما يعني أنهم عرفوا البضائع وعرفوا صك العملة في شكل دراهم وبقيم متعددة، بدليل قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾. ومعلوم أن معرفة شعوب العالم في ذلك الزمن المتقدم تاريخياً لصك العملة في شكل دراهم للبيع والشراء وتداولها بين الناس لم يكن بالأمر الشائع، وفي ذلك دليل عن صدق مَنْ قال من علماء الآثار أن الهكسوس لم يكونوا بدواً همجاً ولا متخلفين ولا أقل مستوى حضاري عن غيرهم، بل كانوا يفوقا غيرهم تقدماً وحضارة.وشكل آخر من أشكال التقدم الحضاري للهكسوس في ذلك العصر، وهو الفن المعماري وتقسيم البيوت والقصور إلى حجر وأجنحة، ذات أبواب مغلقة ومحكمة الإغلاق، ونفهم ذلك من قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف، وتوفريها شروط الخلوة والبعد عن أنظار سكان البيت من الخدم والحرس وغيرهم، لترتكب فعلتها دون أن يراها أو يحس بها أحد، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت للغرف أو الأجنحة أبواب تقفل بإحكام وتمنع تمنع الدخول وتمنع وصول الأصوات إلى الخارج أيضاً، ما يعني أن الهكسوس عرفوا الأبواب والأقفال التي تحكن إغلاقها بقوة على صعيد البيوت وليس الأماكن العامة والحكومية فقط. قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ﴾ {يوسف 23}. كما أنه الآية تدل على كثرة الأبواب التي أغلقت، وأنها لم يكن باب أو بابين كحالة نادرة في البيوت، وذلك دليل التقدم والرقي الحضاري عكس ما هو شائع عن الهكسوس من أنهم كانوا متخلفين!ومما يدل على شدة الإحكام عند غلق الأبواب؛ ومنع خروج الأصوات على الرغم من ارتفاعها، أن سيدنا يوسف عندما تمكن تغلب على وسوسة الشيطان واستطاع أن يصل على الباب ويفتحه تفاجئا بوجود العزيز أمام الباب، الذي لم يسمع أو يشعر بأي أصوات غير طبيعية كانت تحدث خلف الباب، قال تعالى: ﴿وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ {يوسف:25}.وما دمنا نتحدث عن فن العمارة والتقدم العمراني في عهد الهكسوس، هناك إشارة أيضاً إلى مدى تقدم الفن البنائي، وإلى مدى تقدمهم على الصعيد الإداري أيضاً، وكذلك العلمي وكيفية حفظ المحاصيل الزراعية وخاصة الحبوب لسنوات طويلة دون أن تفسد. وذلك في قصة تأويل يوسف لرؤيا الملك، قال تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ {يوسف 47}. ذلك يعني أن أنهم سيحتاجون إلى بناء مخازن ضخمة جداً تتسع لإنتاج مصر من الحبوب المختلفة التي كانت تنتجها مصر ولمدة سبع سنوات، وكذلك تخزينها لمدة سبع سنوات أخرى والحفاظ عليها من التسوس أو التلف، كما أن توزيعها دون نفاذها عبر تلك السنين السبع، يحتاج إلى معرفة متقدمة في فن الحساب والإحصاء والإدارة والتخطيط، وحساب عدد النفوس والمواليد وارتفاع عدد السكان في تلك السنوات، ومقدار حاجتهم للطعام، وحسن توزيع نصيب كل فرد ووصوله إليه...إلخ من تلك العلوم التي يحتاجها عمل مثل ذلك. كما أن القصة تظهر لنا جانباً آخر من جوانب التحضر والرقي الاجتماعي والترف المعيشي وكذلك التقدم الصناعي الذي كان عليه الهكسوس في آن واحد، وأن الهكسوس عرفوا إن صح التعبير الصالونات الكبيرة الواسعة في المنازل للضيافة، والمجالس الخشبية المرتفعة أو الكنب للجلوس (حرفة النجارة المتطورة)، واستعمال السكاكين في تناول الطعام (الحدادة الراقية)، قبل أن يعرفه الأوروبيين أو غيرهم من الشعوب المعاصرة التي تفاخر بذلك بنحو أربعة ألاف سنة، وكذلك مستوى ما كانت تتمتع به المرأة من الحرية والمكانة الاجتماعية والشخصية المستقلة والسيادة في المنزل والعلاقات الاجتماعية، قال تعالى:﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ واعتدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ {يوسف:31}.وفي سورة يوسف بالتأكيد الكثير الذي يمكن للمختصين أن يستخلصونه عن مدى التقدم والرقي الحضاري الذي كان عليه الهكسوس في مجالات الحياة المختلفة.