-
عن الهُوية ودور الدين في المجتمعات العربية
عن الهُوية ودور الدين في المجتمعات العربيةصبحي غندور* كثيرون من العرب، في داخل بلدان الأمّة وخارجها، يتساءلون الآن عن ماهيّة بديل الحالة العربية الراهنة التي سماتها الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية، وتصاعد التدخّل الأجنبي وانهيار أوطان ومجتمعات. ويشترك كلّ العرب في وصف واقع الحال ورفضه، لكنهم يختلفون في فهم أسبابه وبدائله المنشودة. البعض يضع الملامة فقط على حكومات مستبدّة ويرى الحلَّ فقط باعتماد الحياة السياسية الديموقراطية، بينما تجارب عربية حديثة تؤكّد أنّ سقوط "حكم الاستبداد" لا يعني أنّ البديل عنه سيكون أفضل، وبأنّ الحلَّ لا يكون فقط بالانتخابات وباعتماد آليات ديموقراطية حتّى يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. كذلك الأمر، ما حصل حينما دعا البعض إلى شعار "الإسلام هو الحل"، وبأنّ وصول حركات سياسية دينية للحكم سيُخرج الأوطان من أزماتها، فإذا بهذه الأوطان والمجتمعات تزداد بعد ذلك تأزّماً وانقساماً.أيضاً، هناك رأي مقابل في الفكر العربي المعاصر، يرى أنّ معظم مصائب الأمّة العربية سببها التدخّل الأجنبي والقوى الخارجية، بينما تجارب النصف الثاني من القرن العشرين تؤكّد أنّ العرب نجحوا في معارك التحرّر الوطني وفي طرد المستعمر الأجنبي من بلادهم، لكنّهم فشلوا في بناء المجتمعات المدنية الحديثة، وفي تحصين الداخل الوطني من مشاريع ومؤامرات الخارج. ربّما المشكلة هي في "آحادية الأفكار والحلول"، وفي المراهنة على عنصر واحد فقط من جملة عناصر تُكمّل بعضها البعض في عملية بناء المجتمعات الحديثة الناجحة. فممارسـة الديموقراطيـة السـليمـة تحتاج إلى توافّر مجتمعات مدنيـة متحرّرة من أي هيمنـة خارجيـة وقائمـة على مرجعيـة الناس في الحكم والتشـريع، وممّا يُحقّق حرّيـة الوطن والمواطن معاً، وصولاً إلى العدل السـياسـي والاجتماعي، وبذلك يسـود الاسـتقرار ويتعزّز مفهوم المواطنـة المشـتركـة.لكنّ المشكلة أيضاً في المجتمعات العربية هي في عدم التوافق على مسألتين، هما بمثابة مسلّمات ومنطلقات في المجتمعات الحديثة الناجحة: الهُويّة ودور الدين. فحسم كيفيّة فهم هاتين المسألتين هو الأرضية الأساسية لبناء أوطان عربية متقدّمة وموحّدة، ومن دون ذلك، سيبقى الخلل قائماً، والتصدّع محتملاً، في بنية ووحدة أي بلد عربي. فالإصرار على أولوية "الهُويّات" غير الوطنية والعربية سيجعل ولاء بعض المواطنين لخارج وطنهم، بحكم "المرجعيات الدينية أو الإثنية"، وسيوفّر المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي ولصراعات أهلية. هذا ليس بموضوعٍ جديد على منصّة الأفكار العربية. فهو موضوع لا يقلّ عمره عن مائة سنة، إذ منذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية إلى دول وكيانات وفق اتفاقية (سايكس ـــــ بيكو). لكن ما حدث خلال القرن العشـرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقـة العربيـة ما بين العروبـة الثقافيـة والعامل الديني الحضاري؛ فالعروبـة والإيمان الديني حالـة متلازمـة في المنطقـة العربيـة، وهي مختلفـة عن كل علاقـة ما بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسـلامي. فقد كان على تركيا مثلاً، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية وأن تستبدل أبجديتها العربية باللاتينية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضاً عن دينهم، قياساً على التجربة القومية التركية في مطلع القرن العشرين، بينما الأمر يختلف من حيث خصوصيـة العلاقـة بين العروبـة والرسـالة الإسـلاميـة؛ فهي مسـألـة خاصّـة بالعرب لا تـشترك معهم فيها أيّـة قوميـة أخرى في العالم الإسـلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم. وكما صحَّ القول المعروف: "كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية"، فإنّ جرائم عربية عديدة كانت تُرتكب باسم "الهويّة" الوطنية أو العربية... لكن، هل أدّت الجرائم باسم "الحرية" إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فردٍ وجماعة وأمَّة..؟! لقد كانت "الهُويّـة العربيـة" تعني ـــــ وما تزال ـــــ القناعـة بأنّ العرب أمَّـة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تُشـكّل فيما بينها إمتداداً جغرافياً وثقافياً وحضارياً واحداً، وتتكامل فيها الموارد والطاقات البشـريـة والماديـة. والمتضرّرون من تثبيت وتفعيل هذه "الهُويّـة" هم حتماً من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شـعوب الأمَّـة العربيـة؛ حفاظاً على مصالحهم في المنطقـة، وعلى مسـتقبل اسـتنزافهم لثرواتها.لكن دور الدين في الحياة العربية هو سيفٌ بحدّين، حيث من المهمّ التمييز بين ما في الإسلام وكل الرسالات السماوية من قيم ومبادئ هامّة جداً، لكلّ زمانٍ ومكان، للإنسان الفرد وللجماعة، وبين المسائل الفقهية وأمور المعاملات التي ترتبط بظروف معينة وبأزمان مختلفة، وبأساليب العبادات التي تختلف الاجتهادات حولها حتّى داخل المذهب الواحد، فكيف مع مذاهب وطوائف أخرى؟! لذلك يُصبح الحديث عن المجتمعات المدنية الحديثة الناجحة متلازماً مع مسألة "العلمانية"، بمعناها العام الداعي لفصل دور "رجال الدين" عن قضايا الحكم وسياسات الحكومات، والتي عليها حتماً أن تسترشد بالقيم والمبادئ الدينية والإنسانية المشتركة. إنّ العلمانيـة لم تكن في نشـأتها الأسـاسـيـة في أوروبا مذهباً فكرياً مضادّاً للدين؛ بل العلمانيـة دخلت أولاً على المجتمعات المسـيحيـة وتطورت معها ولم تدخل التجارب الإنسـانيـة إلا من خلالها. فقد ارتبطت نشأة العلمانية بصراع بين مؤسسة دينية كاثوليكية أوروبية احتكرت كل شؤون الدين والدنيا، وبين مؤسسات غير دينية نامية رافقت نشوء الدول والقوميات في أوروبا. ولم تكن العلمانية في أساسها دعوة إلى الكفر بالدين، بل كانت محصّلة عوامل سادت في أوروبا نحو 7 قرون امتزجت فيها الثورة على استبداد الكنيسة أيام الأمراء والإقطاع، ثمّ على تدخّل الكنيسة أيام الثورة الصناعية. ولقد كان جوهر "حركة التنوير الأوروبي" هو الثقـة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقـة.. وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمّونها (المدرسة الرشدية) نسبةً إلى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (توفّي عام 1198). وكانت العلمانيـة الأوروبيـة تعني عزل الدولـة عن سـلطـة الكنيسـة وليـس عن الدين، وكانت تعني استمرارية لحركة التنوير والنهضة (التي بدأها مارتن لوثر في أوائل القرن 16)، وكانت تعني اسـتخدام العقل وعدم القبول بقدسـيـة كل ما تقوم بـه الكنيسـة. أيضاً، فإنّ تعبير العلمانية لا يعني مطلقاً الارتباط مع كلمة العلم، حيث نصّ المنجد اللغوي العربي أنّ أساس التعبير هو "العامّي غير الإكليركي" الذي قد يكون فلاحاً أو طبيباً، وقد يكون أمّياً أو متعلّماً. لذلك، من الضروري التمييز بين دعاة العلمانيـة وعدم وضعهم جميعاً في سـلّة واحدة؛ فهناك علمانيون يؤكّدون على دور الدين في المجتمع ويدعون لحقوق المواطنة للجميع دون ابتعادٍ عن الدين أو قيم الأديان، وهناك من يرفض أي دور للدين في الحياة العامّة، كما كان حال التجارب الشيوعية في القرن الماضي. ومن الضروري أيضاً الأنتباه إلى أنّ المنطقـة العربيـة هي مهد كل الرسـالات السـماويـة والأنبياء ومواقع الحجّ الديني، وبالتالي فإنّ تغييب أو تهميـش دور الدين فيها هو مسـألـة مسـتحيلـة عملياً.إنّ فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمّة إلا بفعل القوة (مثال تجارب الأنظمة الشيوعية). أمّا فصل الدين عن الدولة أو الحكم في الأنظمة الغربية فكان نسبياً، فهو في فرنسا فصلٌ كامل في السلوك السياسي والشخصي، وهو في أمريكا فصلٌ فقط بقضايا الحكم.. وهو يختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأمريكي.. وهناك في إيطاليا، وبعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (كالحزب الديموقراطي المسيحي)، أمّا في يوغوسلافيا فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن) في إزالة العصبيات الدينية حتّى بين الكاثوليك والأرثوذكس، وانشطرت يوغوسلافيا دينياً في عقد التسعينات رغم علمانيتها! فالعلمانيـة وحدها لم تكن تلك العصا السـحريـة التي بنت أوروبا وأمريكا في العصر الحديث، ولم تكفِ العلمانيـة والديموقراطيـة وحدهما، في كلّ بلدٍ أوروبي، لتحقيق التقدّم والبناء الاقتصادي والاجتماعي، لذلك كانت الحاجة إلى الاتّحاد والتكامل مع الآخرين الأوروبيين (الاتّحاد الأوروبي). كذلك الأمر في النموذج الأمريكي، حيث تعجز أيّة ولاية أمريكية عن بناء تقدّمها الاقتصادي والاجتماعي، بمعزلٍ عن الولايات الأخرى. ونجد بعض الإعلام العربي يوزّع الحركات السياسية العربية إلى مجموعتين" "إسلامي" أو "ليبرالي" دون إدراكٍ أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلاً عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. ولا يجوز أصلاً اعتماد تسمياتٍ تجعل من الآخر في موقع الضدّ لها. فهل غير المنتمي لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفةً دينية يعني أنّه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيّارٍ سياسي ديني يعني أنّه رافض للحرّيات وللمجتمعات المدنية التي يدعو لها الفكر "الليبرالي"؟! إنّ قضايا التحرّر والهُويّـة القوميـة والعدالـة الاجتماعيـة ومقاومـة الاحتلال ومحاربـة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسـانيـة عامّـة لا ترتبط بمنهجٍ فكريٍّ محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّياً عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة. إنّ الاختلاف الفكري بين الناس هو ظاهرة صحيّـة حينما تحصل في مجتمعات تصون التعدّديـة الفكريـة والسـياسـيـة وتسـمح بالتداول السـلمي للسـلطـة وباحترام وجود ودور "الرأي الآخر". وهي مواصفات وشـروط لمجتمعات تعتمد الحياة السـياسـيـة الديموقراطيـة، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدسـاتير المجمَع على الالتزام بها بين كلّ الأطراف. فلا ينقلب طرف على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته لمجرّد الوصول إلى الحكم. لكن من الأمور، المهمّ التوقف عندها أيضاً، هو حال التخبّط أحياناً في استخدام المفاهيم والمصطلحات، عِلماً أنْ ليس هناك نموذج تطبيقي واحدلأيٍّ من المصطلحات المستخدمة ("الديني" و"العلماني"). ففي الدائرة الغربية الديموقراطية نجد اختلافاً كبيراً في المفهوم وفي التطبيق بين بعض تجارب العلمانية الأوروبية وأيضاً بالمقارنة مع التجربة العلمانية الأمريكية، فكيف بالخلافات الفقهية بين المسلمين وبتجارب الصراعات على الحكم باسم الدين الإسلامي على مدار أكثر من 14 قرناً؟! إنّ أسـاس الخلاف بين التيّارين "العلماني" و"الديني" (وليسـت تصنيفات "الإسـلامي" و"الليبرالي" هي الدقيقة) هو فكريٌّ محض، ولا يجوز إلحاق القضايا السـياسـيـة المتصارع حولها بطبيعـة هذا الخلاف. ومن المهمّ أن يبقى الاختلاف قائماً في المسـألة الفكريـة وأن يتمّ البحث عن المشـترك من القضايا الوطنيـة والاجتماعيـة. فالاحتلال الإسـرائيلي مثلاً لم ولا يميّز بين التيّارين في الأراضي المحتلّـة؛ إذ المسـتهدف هو الفلسـطيني إن كان من هذا الدين أو ذاك، أو إن كان "علمانياً" أو "إسـلامياً". الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية حيث لا دين أو لوناً فكرياً للفقر أو للظلم الاجتماعي! *مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى