غزة مقبرة الدولة الفلسطينية! (2-4)
مصطفى إنشاصي
إن حالة الفشل والعجز الصهيوني عن تحقيق انتصار حاسم رغم التفوق العسكري الصهيوني الهائل على المقاومة الفلسطينية واستخدامه لكافة الأسلحة التقليدية والمتطورة والمحرمة دولياً، اضطرت (يوفال شتاينش) رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الصهيوني الإعلان عن إخفاق الجيش الصهيوني في الحرب التي يخوضها ضد فصائل المقاومة الفلسطينية. وقد رأى ما يسمى بـ(مجلس السلام والأمن) الصهيوني الذي يعتبر مجلساً مستقلاً ويضم خبراء في الأمن الصهيوني وقادة عسكريين سابقين أنه يمكن وقف الضربات وضمان الأمن والهدوء لليهود: "من خلال إخلاء (مستوطنات) قطاع غزة بشكل كامل، وإخلاء المغتصبات المعزولة في الضفة الغربية، وسحب جيش الاحتلال إلى خارج المدن الفلسطينية، وإقامة عوائق مادية بين الدولة (العبرية) والفلسطينيين ... كلنا نعرف الحقيقة أنه لا يمكن الحفاظ على أمن (مستوطني الدولة العبرية)، دون الانفصال التام عن الفلسطينيين، باتفاق أو بغير اتفاق مع الفلسطينيين". وللعلم أن شارون لم يكن ضد فك الارتباط مع غزة من طرف واحد لكنه كان كما أكد في أكثر من مناسبة ضد الخروج من غزة تحت نيران المقاومة، لأنه يعتبر ذلك هروب وهزيمة! ومما يؤسف له أن فصائل المقاومة حققت له ذلك وخرج وكأنه منتصر وليس فاراً بموافقتها على التهدئة لمدة سنة في تفاهمات القاهرة في آذار/مارس 2005!
خطة فك الارتباط خطة أمنية
بعد أن نضجت فكرة فك الارتباط داخل كيان العدو الصهيوني وتهيأت لها كل أسباب القبول والنجاح طرح شارون خطة فك الارتباط في مثل هذا اليوم 18/12/2003 في مؤتمر هرتزيليا، وجوهر الخطة واضح منذ بداية طرحها مثل سابقاتها، أنها ذات ملامح أمنية تستند إلى تسوية مرحلية طويلة الأمد وتأجيل النقاش في قضايا الحل النهائي! فقد كشفت مصادر لـصحيفة (المنــار): أن آريئيل شارون رئيس الوزراء (الإسرائيلي) الذي أشرف شخصياً على وضع الخطة، أبلغ طاقماً خاصاً شاركه وضع الخطة، أن الظروف والمتغيرات في الساحة الدولية وبشكل خاص عودة جورج بوش إلى البيت الأبيض، ستفتح الأبواب واسعة أمام تمرير هذه الخطة حلاً للصراع مع الفلسطينيين، دون تقديم ما أسمته المصادر بأية تنازلات تؤثر على الأمن القومي (الإسرائيلي)، وبعيداً ودون ارتباط بأية خطط أخرى طرحت من هذا الجانب أو ذاك وفي مقدمتها خطة خارطة الطريق. وذلك ما أوضحه شارون نفسه في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر هرتزيليا، فقد أعلن: أن "خطة فك الارتباط ستضمن إعادة انتشار للجيش (الإسرائيلي) في خطوط أمنية جديدة وتغيير انتشار التجمعات السكانية بحيث يتقلص قدر الإمكان عدد (الإسرائيليين) المتواجدين في قلب السكان الفلسطينيين ... سيتوفر الأمن من خلال انتشار الجيش (الإسرائيلي)، جدار الأمن، وعوائق مادية أخرى، خطة فك الارتباط ستقلص الاحتكاك بيننا وبينهم ... بودي أن أشدد على أن خطة فك الارتباط هي خطة أمنية وليست سياسية ... واضح أن في خطة فك الارتباط سيحصل الفلسطينيون على أقل بكثير مما يمكنهم أن يحصلوا عليه في مفاوضات مباشرة ووفقاً لخريطة الطريق. يحتمل أن يكون أجزاء من خطة فك الارتباط التي ترمي إلى توفير الحد الأقصى من الأمن لمواطني (إسرائيل) ستنفذ في إطار محاولة لتطبيق خريطة الطريق، وفقا للظروف الناشئة". يقصد هنا (الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة) التي نصت عليها خطة خارطة الطريق دون أن تحدد لها حدود ولا مضمون!
الهدف ضرب المقاومة والحرب الأهلية
هناك كثير من التصريحات التي تؤكد أن هدف العدو الصهيو- أمريكي من خطة فك الارتباط هو القضاء على المقاومة بالدرجة الأولى، لأن بقية الأهداف الأخرى لا يمكن أن تتحقق إذا ما فشل في تحقيق ذلك الهدف. فقد أوضحت أوساط أمريكية قبل أن يعطي بوش (خطاب الضمانات) لشارون بنحو شهرين، أن "الولايات المتحدة لا ترى في خطة فك الارتباط سياسة بعيدة المدى بحد ذاتها، بل جزء من تنفيذ القسم (الإسرائيلي) في خارطة الطريق". ذلك ليس له سوى معنى واحد بحسب استحقاقات خارطة الطريق التي على رأسها وقف المقاومة وجمع سلاح الفصائل واعتقال النشطين ومحاكمتهم، والسلطة لازالت لم تفِ بهذا الاستحقاق! وذلك ما أكدته وثيقة سرية قدمتها كونداليزا رايس إلى الرئيس بوش في بداية ولايته شباط/فبراير 2005، يقول أحد بنودها: "أنه يجب أن يكون الهدف الكبير للقيادة الفلسطينية هو إنهاء الدور القتالي والتسليحي لحركة حماس وسائر التنظيمات الفلسطينية المعارضة لـ(عملية السلام) من خلال تفكيك وإزالة أجنحتها العسكرية والقضاء على بناها التحتية ومصادرة أسلحتها ومصانع إنتاج أسلحتها والمتفجرات، ووقف عمليات تهريب الأسلحة إليها. لكن يجب التحرك بواقعية ومرونة على هذا الصعيد وبالتالي تأجيل تحقيق هذا الهدف الكبير إلى مرحلة لاحقة، وترك المجال أمام أبو مازن الذي تثق به واشنطن لاتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق هذا الهدف في هذه المرحلة لوقف الكفاح المسلح الفلسطيني بالكامل ضد (الإسرائيليين)". ذلك نفسه ما أكده بوش في مقابلة مع القناة (الإسرائيلية) الأولى رداً على أحد أسئلتها، بقوله: "بأن هدف خطة خريطة الطريق قيام دولة فلسطينية إلى جانب (إسرائيل)، كما كرر دعوته للفلسطينيين لتفكيك فصائل المقاومة". ثم عاد وأكدعلى ذلك عندما أكد التزام بلاده المضي قدماً في تطبيق خارطة الطريق لتسوية فلسطينية (إسرائيلية) نهائية. كما اعتبر أن الخطوة التالية يجب أن تكون مساعدة الحكومة الفلسطينية على توحيد المؤسسات الأمنية لضبط (الفصائل المتطرفة)، وبناء الاقتصاد الفلسطيني وضمان وجود حكومة فاعلة في قطاع غزة. وأشار إلى أن عباس أكد التزامه مكافحة (العنف) ... فهو يعرف أن من غير الممكن بناء ديمقراطية مع جود (إرهابيين) يرفضون احترام سيادة القانون. ومن أجل تحقيق ذلك طلب شارون في كلمة ألقاها في نيويورك أمام رؤساء المنظمات اليهودية في أمريكا من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة "ممارسة الضغوط على السلطة الفلسطينية لنزع سلاح حركة حماس". تلك الأهداف الصهيونية الخبيثة التي أوقعنا فيها شارون بعد فك الارتباط مع غزة أدركها السياسي الصهيوني يوسي بيلين، وقد كشف عنها في هجومه على قول شارون: "لدينا خطة واحدة، خريطة الطريق". قائلا:ً إن "شارون عاد إلى عادته". وقال بيلين أن أقوال شارون عن تمسكه بخريطة الطريق تثبت أن الخريطة أصبحت بالنسبة له المهرب من استمرار النشاط السياسي. وأضح بيلين أن: "خريطة الطريق تستدعي تجميداً تاماً لـ(لمستوطنات) واقتلاعاً للمواقع (الاستيطانية) غير القانونية. وأضاف محذراً من أهداف شارون لإشعال حرب أهلية فلسطينية بالقول: "أما شارون فاخترع مرحلة ما قبل خريطة الطريق، ومن هنا ينتظر الحرب الأهلية الفلسطينية دون أن يكون ينوي تحريك ساكن". وكلام يوسي بيلين فيه إشارة إلى أن شارون أراد من خطة فك الارتباط أن يشعل حرب أهلية فلسطينية تشغل المقاومة عن العدو المركزي لها وللأمة وتنهِ القضية.
تصفية القضية المركزية للأمة
لقد أوضح شارون في خطاب إعلانه خطة فك الارتباط: "واضح أن في خطة فك الارتباط سيحصل الفلسطينيون على أقل بكثير مما يمكنهم أن يحصلوا عليه في مفاوضات مباشرة ووفقاً لخارطة الطريق". وعاد وأوضح ذلك أكثر خلال جلسة لحزب الليكود في 23/2/2004، عندما قال: "أن هذه الخطوة ستحول دون ممارسة ضغوط على (إسرائيل) من أجل التقدم السياسي مع الفلسطينيين، وسيضمن بقاء أكبر عدد من (المستوطنات) في أيدي (إسرائيل)، كما سيضمن أفضل الظروف الأمنية والإقليمية لـ(إسرائيل) إذا ما تم استئناف المفاوضات". وفي خطابه أمام الكنيست في 15/3/2004، عاد وأكد أن ما يقوم به يأخذ بُعداً تكتيكياً بما لا يتعارض مع الأبعاد الاستراتيجية المنغرسة في فكره: "أنني لا أعتبر نفسي مع أولئك الذين يقدسون الوضع القائم، الذي يؤدي بالضرورة إلى خلق فراغ سياسي، بل أعتقد أننا ملزمون بتغيير الوضع الراهن". وأضاف "إن الفراغ السياسي سينبثق عنه مقترحات سياسية، ستضطر (إسرائيل) في ظلها تنفيذ خطوات بعيدة المدى تنطوي على تنازلات تحت وطأة (الإرهاب)". كما أنه صرح للقناة الثانية في التليفزيون (الإسرائيلي): "إن فك الارتباط يعني وضع مشروع التسوية على الرف لعدة عقود من الزمن، ولينسَ الفلسطينيون أي إمكانية للتنازل عن شبر من الأرض في الضفة الغربية وغور الأردن". ثم جاء تأكيده المتواصل في مناسبة وغير مناسبة بما عرف بلاءات شارون (لا لدولة فلسطينية في حدود الأراضي المحتلة عام 1967، لا لعودة اللاجئين، لا لعودة القدس). وأخيرا كشفت إحدى الصحف الصهيونية: أن شارون صرح في جلسة خاصة، أن الهدف من خطة فك الارتباط هو تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، ومنع إقامة دولة في الأراضي المحتلة عام 1967. وشطب القضية نهائياً من جداول أعمال الأمم المتحدة، وتحول الصراع إلى خلاف على الحدود بين دولتين. أما دوف فاسيغلاس كبير مستشاري شارون فقد أعلن صراحة في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "هآرتس" الصهيونية بتاريخ 8/10/2004 وأثارت في حينها ضجة وردود أفعال متنوعة، بأن الهدف من فك الارتباط هو الالتفاف على خارطة الطريق: أن الهدف من خطة شارون فك الارتباط أحادي الجانب هو تجميد العملية السياسية بصورة شرعية، بما يمنع إقامة دولة فلسطينية ومنع بحث قضايا القدس واللاجئين والحدود. وقد أشار إلى أن ذلك اتفاق أمريكي – (إسرائيلي) على شطب إقامة الدولة الفلسطينية من جدول الأعمال نهائياً، والإبقاء على (المستوطنات اليهودية) المقامة في القدس والضفة الغربية. ويجدر بنا التذكير هنا: أن العدو الصهيوني حاول عام 2004 تمهيد السبل لنجاح خطته ويهيئ الأوضاع القانونية لفصل غزة عن الضفة، لتكون غزة فقط هي الدولة الفلسطينية بعد تنفيذه خطة فك الارتباط، حيث سعى لانتزاع تنازل من الرئيس الراحل ياسر عرفات يؤسس به لفك الارتباط بين غزة والضفة، ويجعل منهما كيانان منفصلين ومستقل كلٍ منهما عن الآخر، وذلك عندما طلب من السلطة الفلسطينية أن يضع تعرفة جمركية لغزة منفصلة عن التعرفة الجمركية للضفة! فأدرك عرفات أبعاد ذلك المطلب ورفضه بشدة على الرغم من كل الضغوط التي مُرست عليه.
الخطاب المجزرة .. والختام
بعد ما تقدم يحق لشارون أن يلقي الخطاب المجزرة، المجزرة بحق، من أعلى منبر أممي (هيئة الأمم المتحدة)، الذي ألقاه بعد إعادة الانتشار حول قطاع غزة في شهر أيلول/سبتمبر 2005، ذلك الخطاب الذي كان مفعماً بالروح والمصطلحات التوراتية اليهودية كما هو مفعم بالتزييف والتزوير لحقائق التاريخ والجغرافية والواقع، الذي أعلن فيه للعالم أجمع انتهاء الصراع العربي- الصهيوني، والتصفية النهائية لقضية الأمة المركزية: "جئتكم من أورشليم القدس. عاصمة (الشعب اليهودي) منذ ثلاثة ألاف سنة، ومن (أرض الميعاد) التي تحت سمائها ظهر أنبياء إسرائيل وتنبئوا بها". ولم ينسى أن يُظهر كيانه المغتصب لوطننا بمظهر الضحية عندما تحدث عن التنازلات المؤلمة التي تنازل فيها عن "جزء من أرض (إسرائيل) التاريخية" - غزة - وقدمه لمن سماهم "جيرانه الفلسطينيين، من أجل أن يقيموا لهم فيها دولة ذات سيادة، ولها حدود معترف بها"! لقد جزر شارون واختزل تاريخ فلسطين للآلاف السنين في خطابه المجزر وصادر حقوقنا الثابتة طوال ذلك التاريخ، وألغى وجودنا في تلك الأرض، وصورنا وكأننا طارئين، مغتصبين لجزء من وطنه وليس هو المغتصب لكل وطننا، وأنه هو تنازل عن جزء عزيز من وطنه لنا من أجل أن يعم السلام المنطقة، وليظهر المقاومة الفلسطينية بعد ذلك أنها (إرهاب)؟! بعد الحوار الفلسطيني في القاهرة في 15/3/2005 وشاركت فيه حركتي حماس والجهاد، وكان لبرنامجه علاقة بخطة فك الارتباط مع غزة، وقد تم الاتفاق فيه على: وقف الانتفاضة لمدة عام تحقيقاً لشرط شارون عدم الانسحاب تحت إطلاق النار! ووافقت حركتي حماس والجهاد على الانضمام لمنظمة التحرير، ومشاركة حماس في الانتخابات التشريعية التي ستجرى في 25/1/2006! زف الكاتب الصهيوني (يتساف بارئيل) الانتصار الصهيوني العظيم الذي تكلل في اختزال القضية من صراع بين الأمة جميعها واليهود إلى صراع محلي بين الفلسطينيين واليهود، فكتب: "إن إنجاز هذه المرحلة يعني حدوث تحرر جديد، أي تحرر النزاع (الإسرائيلي) - الفلسطيني، من النزاع العربي - (الإسرائيلي) ويعيد مشكلة فلسطين إلى الفلسطينيين". ذلك الاتفاق كان باكورة العبقرية والذكاء والوعي والحس السياسي الذي تتمتع به قيادات المقاومة الطامحة لقيادة م. ت. ف والشعب الفلسطيني والأمة! التاريخ: 18/12/2019