-
جدران ملساء
ريم بدر الدين بزال
بدأ النور يشق ستور العتمة كأنه طفل فضولي يدخل يديه المخفيتين في قلب السماء ، يتلمس أطراف نسيجها و يزيحها رويدا رويدا ثم يترك المهمة التالية لأشعة الشمس.
عندما يكمل النور دورته الكاملة اعتبرها لحظة مقدسة ، أحب أن أرتشفها كل يوم مع قهوتي الصباحية. شرفتي صغيرة تتسع لمقعدين، من خلال زجاجها المغلق اطلع على الحياة.
هذا الصباح ككل الصباحات، لم يستيقظ جيراني في الأبنية المجاورة إذ لم تعبق رائحة القهوة من نوافذ المطابخ و في فضاءات السلالم. لم تفتح أبواب الشرفات بعد و لم أرَ المؤشر اليومي لاستيقاظ ربات البيوت و هو الغسيل الندي الطازج يمارس شعور الأراجيح مع النسمات ،و مع ضوء الشمس. قالت لي المرحومة زوجتي ذات مرة أن ظاهرة نشر الغسيل على الشرفات ظاهرة غير حضارية لكنني أراها وجها من وجوه الحياة .
لمحت كتلة سوداء تتسلق البناء المقابل. حدقت قليلا فتبين لي أنه جرذ متوسط الحجم ، كان يتشبث بحائط البناء المكسو بالاسمنت الخشن كما يفعل متسلقو الجبال. شعرت بالتقزز من منظره و يعود هذا إلى فوبيا من الحيوانات الحية و الميتة تسكنني منذ كنت طفلا.
كانت نافذة المنور الأمامي للبناء مفتوحة ، تسلل الجرذ إلى الداخل !.
احترت بين أن أحذر السكان من هذا الضيف غير المرغوب به أو أترك الأمور تجري على عواهنها، غير أن قراراتي طويت مع صوت انطباق باب شقتي. هاهي ابنتي قد أتت لتتفقدني و تقوم ببعض شؤوني.
في الصباح التالي و أثناء موعد قهوتي على شرفتي لمحت عددت من الجرذان تتسلل عبر المنور المفتوح في البناء المجاور . شعرت بالقلق الفعلي و عزمت أن أبلغ سكان البناء المقابل لي لكن ابنتي منعتني فقد خشيتْ أن يعتبرني الجيران عجوزا خرفا يعاني من هلاوس بصرية بفعل تقدم السن.
كل صباح أشاهد تزايداً في أعداد الجرذان السوداء التي تتسلق الجدار و يخيل لي أن أحجامها أًصبحت تكبر بسرعة.
لم يطل الوقت عندما بدأت صيحات النسوة تتعالى من البناء المجاور عندما يكتشفن الغزو الجرذي في بيوتهن.
لم تجد مصائد الفئران نفعا في الحد من تدفق الجرذان بل بدا أن الجرذان تعتبر المصائد المنصوبة نوعا من التسلية و الترفيه.
بدأ سكان الأبنية المجاورة باتخاذ الإجراءات الوقائية و التفتيش الحثيث عن جحر هنا أو هناك داخل بيوتهم و سده، و بدأوا في سكب المواد الكيماوية الحارقة في المصارف ، و إحكام إغلاق النوافذ و الأبواب. لم يجد هذا نفعاً فهرب السكان من بيوتهم تدريجيا و لم يبق إلا السكان الذين لا يملكون ما يمكنهم من الهرب إلى مكان آخر.
بقي بناءنا الوحيد الذي لم تغزه الجرذان لأنه مكسو بمادة رخامية ملساء لا يستطيع الجرذ أن يتسلقها إضافة إلى وسائل الحماية الأخرى التي اتبعها السكان و الأبواب الموصدة بإحكام.
لم أعد أخرج للشرفة أبدا و اصبحت أراقب ما يحدث من النافذة الموصدة بإحكام، أرى الجرذان بأعدادها الكبيرة تدخل و تخرج من أبواب البناء و كأنها في نزهة.
لم أعد أرى السكان المتبقين في الأبنية المجاورة فلعلهم ماتوا أو هربوا أو . ..ربما أصبحوا رقيقا.
انقطعت ابنتي عن زيارتي حتى إشعار آخر، كانت تود أن تخرجني لكن الطرق انقطعت و تعذر عليها هذا.
تقوم الطائرات الحكومية بمسألة التموين الغذائي و الطبي حيث تقذف لنا المروحيات ما نحتاجه و يقوم فريق من الشباب بجمعه و توزيعه على سكان البناء
في الليل نسمع هدير قطعان الفئران و هي تجول في المكان كما لو أنها خيول برية هاربة من فيلم أمريكي قديم و هي تهددنا بدك باب البناء الموصد
أعتقد أننا لن نصمد طويلا في وجه هذا الغزو، فقد لمحت اليوم من نافذتي جرذاً يقف على قائمتيه الخلفيتين في مطبخ جيراني في البناء المقابل و كانت جارتي تغسل الأطباق و (هو )يمسك السوط . الغريب أنه في مثل حجم الإنسان ، رآني و لوح لي بيده في تهديد واضح.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى