أنشأت أولى البنوك في العالم لحفظ الأموال ، وكانت تعتبر فتحا كبيرا في عالم الاقتصاد والأموال ، وهنا عرف معنى كلمة بنك وهو المكان الذي تحفظ فيه أموال المودعين ، ويستردونها في حالة الحاجة إليها . وجاء تطور الطب عبر السنين باكتشاف عمليات نقل الدم والاستفادة منه . ولعدم إمكانية تصنيع الدم صناعيا ، فقد قام العلماء على إيجاد طريقة لحفظ كميات كبيرة من الدم المتبرع للاستفادة منها في حالات الحرب والسلم . وحاليا بدأ النوع الجديد من البنوك بالظهور والتي بدأت تأخذ طريقا جديدا من خلال اكتشاف فوائد دم الحبل السري الذي يعتبر أحد معجزات الولادة والذي لم يهتم إليه أحد سابقا ، واصبح الآن منقذا لحياة آلاف من المرضى ، ولكون هذا الدم يحتوي على كمية من الخلايا الجذعية القادرة على إعادة بناء خلايا الدم والجهاز المناعي لدى المرضى المصابين بأمراض كابيضاض الدم leukemia وأنواع أخرى من السرطان ، مما أهله لأن يكون المنقذ في علاج الكثير من الأمراض . ولأن هذا الدم يتم الحصول عليه أثناء عملية الولادة ( وهو وقت محدود نسبيا ) ، فلابد من حفظه في ظروف خاصة للاستفادة منه في علاج الكثير من الأمراض ، ويبشر استعمال دم الحبل السري بآفاق جديدة في عالم الطب والعلاج .

يعتبر الحبل السري مصدرا غنيا للخلايا الجذعية المصنعة للدم Hematopoietic stem cells ، وهي السليفة لكل ما يحتويه الدم ، بدءا من الخلايا الدموية البيض white blood cells المقاومة للعدوى ، والخلايا الحمر red blood cells الحاملة للأوكسجين ، إلى الصفائح الدموية platelets التي تسهل عملية تخثر الدم بعد حدوث إصابة أو جرح ما .




وتكفي الخلايا الجذعية الموجودة في مشيمة واحدة لإعادة بناء خلايا الدم والجهاز المناعي عند طفل مصاب بابيضاض الدم leukemia ( وهو مرض يتميز بانقسام خلايا الدم البيض بصورة غير سوية مما يوجب قتلها بالمعالجة الكيمياوية ) ، وتكفي لعلاج شخص بالغ في حال تنميتها في ظروف خاصة .


وعند الرجوع للماضي كان على الأطباء البحث عن مانح ليؤمنوا نقي (نخاع) العظم bone marrow الذي يحتوي أيضا على خلايا جذعية منتجة للخلايا الدموية والمناعية . ولكن لسوء الحظ كان الكثيرون يموتون خلال فترة البحث الطويلة عن مانح يطابق النوع النسيجي للمريض . أو بسبب المضاعفات الناتجة عن عدم تطابق النقي الممنوح تطابقا جيدا ؛ أما دم الحبل السري القابل للحفظ لفترات طويلة ، فهو اكثر احتمالا للتطابق الجيد واقل احتمالا لأحداث المضاعفات لان الخلايا الجذعية في دم الحبل السري تختلف مناعيا عن تلك الموجودة في نقي العظم عند البالغين ، وكذلك تتميز بأنها اكثر تحملا tolerance .

وعلى الرغم من أن العلاج بهذه الطريقة لا يشمل علاج جميع الأمراض . ولكن العلماء يتأملون بإمكانية تطوير هذه الطريقة العلاجية لتشمل علاج أمراض أخرى في المستقبل القريب ، ولكون هذه الطريقة قد حققت نجاحات كبيرة ، فأن العلماء ينظرون إليها نظرة مشرقة في سبيل تحقيق مكاسب طبية كبيرة . ومن أهم الأمراض التي يسعى العلماء الآن لتحقيق نجاحات فيها ، وقد تم فعلا النجاح في قسم منها :

أمراض الدم: ابيضاض الدم leukemia باختلاف أنواعه الحادة والمزمنة ، وفقر الدم بأنواعه المختلفة ( فقر الدم المنجلي Sickle cell anemia ، فقر الدم الفرانكفوني ، فقر الدم الغير مستجيب للعلاج ، الخ ... ) .

أمراض النخاع الشوكي .

مرض هوجكن Hodgkin's disease.

أنواع متعددة من السرطان ( سرطان الثدي ، سرطان الدم ، سرطان الكلى ، الخ ... ) .

أمراض جهاز المناعة ( نقص خلايا T ، نقص خلايا B ، إعادة تشكيل الجهاز المناعي للرضع المولودين ولديهم عوز مناعي مشترك sever combined immunodeficiency ، الخ ... ) .

متلازمة هرلر Hurler's syndrome ، التي تسبب تنكسا عصبيا مستفحلا يؤدي في النهاية إلى الوفاة . وفي هذه الحال يستفاد من الخلايا الجذعية ليس فقد لتكوين خلايا الدم الحمراء والبيضاء ، بل أيضا في تكوين خلايا داعمة للدماغ .

وهناك آمال كبيرة من العلماء على هذا النوع من العلاج لتحقيق فتحا مهما في مجال الطب والعلاج الحديث .

بعد التعرف على المميزات الواضحة لاغتراس دم الحبل السري ، قامت عدة مراكز طبية ومستشفيات وبعض الجامعات بتأسيس بنوك لحفظ دم الحبل السري ، تمكن الأم الراغبة في منح دم الحبل السري الخاص بوليدها ليستعمل من قبل الغرباء المحتاجين إليه . وقد أنشأت الكثير من هذه البنوك وانتشرت في أنحاء مختلفة من العالم ، منها الولايات المتحدة الأمريكية و ألمانيا وإيطاليا وتايوان وسنغافورة وبريطانيا واستراليا .


تاريخ تطور نقل دم الحبل السري :

ظهر أول دليل على إمكان الاستفادة الطبية من دم الحبل السري عام 1972 ، و تم ذلك عن طريق إعطاء مصاب بابيضاض الدم عمره 16 سنة دم الحبل السري بالتسريب الوريدي infusion . وبعد مرور أسبوع واحد وجد أن دم المريض يحتوي على خلايا حمر منشؤها الخلايا الجذعية للمانح .

في عام 1980 بدأ التفكير والمقارنة بين خلايا الحبل السري ونقي العظم المنقول ، ولم يتم التأكد من ذلك إلا في عام 1989 عبر التوضيح أن دم الحبل السري يحتوي على نفس كمية الخلايا الجذعية الموجودة في نقي العظم .

وفي العام نفسه تمت أول عملية نقل خلايا جذعية من حبل سري إلى طفل مصاب بمرض وراثي ( الأنيميا الفانكوني Fanconi anima ) عن طريق استعمال دم الحبل السري لأخته الوليدة .

في عام 1991 تمت أول عملية لنقل دم الحبل السري لطفل مصاب بابيضاض الدم المزمن ( اللوكيميا ) . وكلا العمليتين نجحتا ، وأدت إلى ولادة آفاق جديدة في عملية نقل دم الحبل السري واستبداله
بعملية نقل نقي العظم .

عام 1997 توصل العلماء إلى دليل أن اغتراس دم الحبل السري – حتى بين مانح ومتلق غير قريبين – هو أكثر أمانا من اغتراس نقي العظم .

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


أهداف اغتراس دم الحبل السري :

يهدف اغتراس دم الحبل السري إلى الحصول على مصدر للخلايا الجذعية الأكثر تطابقا مع النوع النسيجي لمريض معين . وهناك ست جينات رئيسية Human Leukocyte Antigens أو HLA ( وهي توجد على سطوح جميع خلايا الجسم ، ومن خلالها يتعرف جهاز المناعة على الخلايا ويتعامل معها على أساس كونها خلايا طبيعية ، أي تنتمي للذات ( self ) وما عدا ذلك يقوم بقتلها باعتبارها لا تنتمي للذات non-self . ومن هذه الجينات الست يمتلك كل شخص نسختين ( أو اليلين alleles ) لكل جينة من الجينات الست ، كل نسخة منهما تعود لأحد الأبوين ، ( يوجد من كل اليل أكثر من 30 نوعا مختلفا ) . ومن أجل اغتراس نقي العظم يهدف الأطباء إلى مطابقة الاليلات الستة ( من أصل 12 ) الأكثر ملائمة للاغتراس من الناحية السريرية . ولكن بسبب الاختلاف المناعي لخلايا دم الحبل السري عن خلايا نقي العظم ، يستطيع الأطباء استعمال عينات من دم الحبل السري تطابق خمسة فقط – أو حتى ثلاثة – من اليلات HLA . تتوضع النسخ الجينية المسؤولة عن صناعة بروتينات HLA على الصبغي رقم 6 . وبحسب قواعد علم الوراثة يكون احتمال أن يرث أخوان الصبغي رقم 6 نفسه من الأب والأم ، ومن ثم أن يكونا متطابقين نسيجيا بشكل جيد ، هو 25 % فقط .

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



إن الاختلافات في الجهاز المناعي للوليد يؤدي إلى تقليل احتمال قيام الخلايا المناعية في الحبل السري لديه بمهاجمة نسج المتلقي ( على أنها غريبة ) ، وبذلك تكون الخلايا المناعية في دم الحبل السري اقل إحداثا للضرر من ضرر خلايا نقي العظم . حيث أن تلقي غرسة من نقي عظم شخص لا يطابق النوع النسيجي للمريض بشكل جيد يمكن أن يكون مميتا ، في حالة إذا نجت كمية ولو قليلة جدا من الخلايا المناعية مؤدية إلى حصول داء الطعم حيال العائل Graft-versus-host disease أو GVHD ( وهي ظاهرة تتسم بمهاجمة الخلايا المغترسة ) ، وتقوم هذه الخلايا بمهاجمة جسم المتلقي على انه غريب . وتؤدي هذه الظاهرة إلى الإصابة بطفح جلدي مصحوب بقروح ، إضافة إلى أذية كبدية ، يمكن أن تتطور إلى فشل كبدي أو نزيف شديد بالجهاز العصبي ، وقد يؤدي هذا المرض سريعا إلى الوفاة .



يعتقد العلماء بأن مستقبل العلاج سيكون معتمدا على نقل دم الحبل السري . وسيوظف هذا التطور في تقوية جهاز المناعة لعلاج أمراض كالإيدز و السرطان . وتتميز هذه الطريقة بوجود الكثير من الفوائد التي تميزها عن عملية اغتراس خلايا من نقي العظم ، والتي تبشر بأفاق جديدة لتطور الطب الحديث وتفتح أبوابا في العلاج :

وجود عدد غير محدد من المتبرعين ( حيث أن أغلب الأطفال الأصحاء جنينيا وجسديا بإمكان أهاليهم التبرع بهذا الدم ) .

وجود استجابة أكبر للخلايا المنقولة من الحبل السري منه للخلايا المنقولة من نقي العظم .

يمكن خزنه للاستعمال الشخصي ( للطفل المولود نفسه ) أو يمكن التبرع به للآخرين .

انخفاض الإصابة بالمرض القاتل GVHD .

انخفاض التكاليف المادية .

قلة الآثار الجانبية .

سهولة الحصول عليه من دون خطر أو ألم على الأم أو الطفل .

ولكن مع وجود هذه الفوائد فهناك بعض المخاطر أو السلبيات في غرس دم الحبل السري ، ومن هذه السلبيات :

احتمال وجود أخطاء وراثية ( جينية ) في الخلايا الجذعية في عينة دم الحبل السري ، مما يمكن أن يسبب مرضا عند المتلقي وهذه الحالات – التي تشمل فقر الدم الخلقي أو نقص المناعة – قد لا تظهر عند المانح إلا بعد عدة شهور أو سنوات . يكون دم حبله السري قد نقل خلالها إلى أشخاص آخرين ، ويمكن لبنوك دم الحبل السري أن تتجنب هذا الخطر بدرجة كبيرة عن طريق إجراء ما يشبه الحجر الصحي للدم مدة تتفاوت بين 6 و 12 شهرا تتصل خلالها بعائلة المانح للتأكد من تمتعه بصحة جيدة .

وهناك سلبية أخرى لدم الحبل السري تتمثل في احتواء العينة الواحدة منه على عدد قليل نسبيا من الخلايا الجذعية . فمع أن دم الحبل السري يمكن أن يستعمل للاغتراس لدى البالغين ، توضح الدراسات انه بسبب العدد المحدود للخلايا الجذعية في عينة دم الحبل السري ، يستفيد المرضى الأضخم حجما ( الأكبر عمرا ) بشكل أقل من المرضى الأصغر حجما ( الأحدث عمرا ) . ويعمل الباحثون الآن على استحداث عدة طرق من أجل زيادة عدد الخلايا الجذعية في عينات دم الحبل السري عن طريق استعمال المغذيات nutrients وعوامل النمو growth factor . وكذلك يقومون بهندسة الخلايا الجذعية جنينا من أجل إصلاح الاضطرابات الوراثية كالعوز المناعي المشترك severe combined immunodeficiency ففي هذه الحالة ، يجمع الأطباء دم الحبل السري الخاص بالمريض ، ثم يقحمون جينات سوية في الخلايا الجذعية لدم الحبل السري ، ثم يعيدون حقن الخلايا في جسم الطفل .

يبشر كل ذلك باستعمالات اكثر إثارة لدم الحبل السري . فإذا احتفظ بهذا الدم الخاص بمولود به خلل وراثي في نقي عظامه أو في دمه . يمكن عن طريق الهندسة الجينية إصلاح الخلل في دمه الذي تم جمعه ، ومن ثم يحقن الطفل به . وبذلك لن يعاني هذا الطفل أبدا من التأثيرات السلبية لمورث الجيني . وبخلاف ذلك ، يمكن أن يعالج مثل هذا الطفل بحقن خلايا جذعية من عينة دم حبل سري – كامل التطابق – لمانح من غير الأقرباء عن طريق بنك الدم .