لدى من لديهم ما يسمى بــ ( بيت المونة ) .
أرجو أن يروق لكم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
بيت المونة
قالوا قديماً إن ( ست البيت ) المثالية هي التي تطبخ أطيب الأطعمة على مدار العام ومختلف الفصول ، ولكي تتمكن من ذلك كانت تقوم بتحضير وتخزين الخضار والبقوليات والمربيات خلال أشهر تموز وآب وأيلول وتشرين الأول من كل عام استعداداً لموسم الصقيع والمطر .‏
منذ زمن بعيد لم تكن هناك برادات ولم تكن الخضار تأتي إلينا في غير وقتها ؛ أحسَّ السوريون بضرورة القيام بتخزين المواد الغذائية في فصل الصيف لاستخدامها في فصل الشتاء ؛ وقد برعوا في ذلك براعة كبرى ؛ وأخذوا يبتكرون طرقاً في تخزين المواد الغذائية مع المحافظة عليها ، وبما أن هذا يحتاج إلى مكان واسع في دار السكن ، فقد قاموا بتصميم مكان خاص لهذا سمُّوه بيت المونة ؛ وغالباً ما يكون بيت المونة في القبو الذي يعطي برودة تناسب الحفظ . . . أو في ساحة المنـزل . . . أو في السقيفة التي تكون عادة بالمطبخ أو قريبة منه ، وهي غرفة مرتفعة يحتاج الصعود إليها إلى سلم أو كرسي .
أما السقيفة فيخزن بها الكثير من الأكلات السورية الشهيرة مثل ورق العنب والمكدوس واللبنة والزعتر والأرضي شوكي والفاصولياء الخضراء . . .
وأما بيت المونة فكان لتخزين المربيات والفواكه المجففة والبقوليات والخضار وحواضر البيت . . .
أما المربيات فكانت متعددة مثل مربى المشمش ومربى التين ومربى الكباد ومربى السفرجل ومربى القرع ومربى النارنج ومربى الباذنجان ؛ ولم يكن هذا الأخير بالأمر السهل فقد كان يحتاج إلى معاملة بالكلس ليصبح قاسيا ، وكنَّ يتذوقنه قبل البدء بإعداده حتى يطمئِنَنَّ إلى أنه أصبح له ( أرشة ) في الطعم ، ثم يحشى بالجوز المضاف إليه قرفة فتصبح نكهته مميزة . . .
وأما البقوليات فكنَّ يخزنَّ الفول اليابس والحمص والعدس الحب والمجروش والبرغل الناعم والخشن ، و الفاصولياء الحب البيضاء أو الملونة الكبيرة والصغيرة " عيشة خانم وفطمة خانم " .
وطبعاً كانت هذه من الأمور المهلكة لربة المنـزل ، إذ لا يخفى اليوم على أحد مقدار الجهد المضني الذي يجب أن يُبذل للقيام بعملية تجفيف الكوسا والباذنجان والبامياء ؛ ورصف هذه الأخيرة على الخيط ، وكم هي مزعجة عملية فصفصة الفول حيث تصطبغ الأصابع باللون الأسود جراء كثرة العمل بهذه الفصفصة . . . انظر كيف كنَّ يُكسِّرنَ الجوز الأخضر لاستخراج اللب وتجفيفه . . . ويُخزنَّ الحمص والبصل والثوم . . وسواهم . . ويحفظن ورق العنب ( مشروشاً ) بالملح . . .
وأما حواضر البيت فقد كنَّ يغلين الجبن مع حبة البركة و( مسكة دراس ) وملح ليُحفظ طوال العام ، والزيتون كان ( يفقَّش ) ويوضع في قطرميزات كبيرة مع الزيت ، والمكدوس ( الباذنجان المحشو بالجوز والثوم ) يُكدَّس في قطرميزات كذلك ، ويعتبر المكدوس يعتبر غذاءً فاخراً ومغذياً جداً لا غنى عنه أبداً ، وكذلك أيضا اللبن حيث يصفى لتصنع منه اللبنة ، ثم يتم دعبلتها وتدويرها ، لتوضع أخيرا في قطرميزات الزيت ، فضلاً عن تخزين الجوز والثوم والفليفلة والملح والزيت .
وأما الفواكه ، فكانت النساء تقمن بتجفيفها للحصول على الزبيب والتين اليابس , ولكل نوع طريقة في التخزين تتَّبعه السيدات لينقلن فواكه وخضار الصيف إلى موائد الشتاء .
إن تخزين الأطعمة يتطلب عناية كبيرة حتى لا تفسد ، لذلك كانت النساء تلجأن إلى تجفيف الخضار الصيفية تحت أشعة الشمس على أسطح البيوت . .
ومما يلفت النظر في بيت المونة الريفي هو الوقود المؤلف من الخشب والحطب , وهو يعتبر جزءاً من مونة الشتاء , حيث كان أهل القرى يقومون بحفظه في المنزل لاستخدامه في أيام البرد الشديد .‏
أما اليوم فيبقى منظر تلك القطرميزات القديمة الكبيرة المخصورة التي كانت تستخدم لتعبئة الزيوت ، ومنظر البراميل الزئبقية التي كانت تُعبأُ فيها كميات البرغل والأرز والعدس . . . تبقى هذه المناظر تراثاً ممتعاً ومؤلماً ، . . . إذ ما فائدة تلك الأواني وما قيمة بيوت المونة إذا لم تكن تعيش فيها امرأة تهتم بالطعام والشراب ، امرأة تهتم بشؤون البيوت والأطعمة والأمزجة والعقول والأوقات ، أكثر مما تهتم بالأزياء والكلمات والمحادثات والمساجلات والمسلسلات ، امرأة تضع بين عينيها المثل القديم الذي يقول : ( إن أقرب طريق إلى قلب الرجل هو معدته ) ، امرأة تصنع تاريخي ، امرأة . . .
ربما تكاد هذه المرأة تزول ويكاد بيت المونة يختفي لأنه لم يعد يوجد أيضاً أزواج يعرفون حقوق الزوج ويكرمونها الإكرام المطلوب .
وللحق أقول : كما زالت من حياتنا بيوت المونة وزال معها معظم تلك النساء البارعات زال أيضاً أو كاد معظم الرجال ( الذواقين ) ، إذ ما قيمة طبخة شهية إن لم تجد فماً يميز بين الطعام الصحي اللذيذ المفيد وبين لفافة الـ ( ) التي كانت بالأمس يحوم حولها الذباب والحشرات الضارة ، وغدت اليوم ( سندويشة ) ملأى بالبهارات التي تخفي طعم الفساد ، لكنها لذيذة في نظر الكثيرين . . . اليوم تُبهت وتزعل المرأة إذا ذكَّرها الرجل بموضوع أكلات وتحضيرات المونة ، وكأن هذا الموضوع اختراع قديم يتذرع به ليوجه إليها النقد ، ويحق لها ذلك إذ لم تعد المعدة هي أقرب طريق ، فقد تعددت الطرق إلى القلوب وتنوعت وتزخرفت وتزركشت ، وتعددت الوجبات الجاهزة وتفلفلت وتبهرت ، وغدا رجال تغويهم نظرة وتستميلهم ابتسامة ؛ لا يهمهم طعام ولا شراب ؛ إلا ما ندر ، وأصبحت نساء تستهويها الأزياء وتبهرها الألوان وتستعطفها الدموع ؛ إلا القلة القليلة ، ومات بيت المونة ؛ قتلته علب الكونسروة وقضت عليه محال الوجبات الجاهزة ، وتحول أو كاد إلى ثلاجة صغيرة وأكياس نايلون فيها بعض المجمَّدات وانتهى الأمر . . .
فاهنأ أيها الجيل الجديد بما وصلت إليه من تقدم ورقي و . . . طعام لذيذ .
حقاً لقد صدق المثل الشعبي القائل ( المونة بدها ركونة ما بدها واحدة مجنونة )