--------------------------------------------------
-6- من سلسلة عباقرة الفكر والأدب المعاصرين ---
====================================
تنبأ باكثير بمأساة فلسطين قبل وقوعها بسنوات، ووضع أكثر من تصور لنهاية إسرائيل، وبقي متفائلاً حتى آخر لحظة من حياته.
خلَّد القضية الفلسطينية بمسرحياته بعد ما تحوّلت إلى مأساة ومعاناة رافقت دقات قلبه طوال حياته، فأصبحت فلسطين همّه الذي يؤرقه، وحلمه الذي يعيشه...
ـ ولد علي أحمد باكثير في مدينة (سورابايا) بأندونيسيا عام 1910 من أبوين عربيين حضرميين، أرسله والده إلى حضرموت صغيراً لينشأ في الوطن الأم تحت رعاية عمّه العالم الأديب، فتلقى ثقافته الأولى وتعلّق بالشعر فنظّمه وهو ابن ثلاث عشر سنة.
في عام 1933 توفيت زوجته فسافر إلى الحجاز وأقام حوالي عامين، ثم قَدِمَ مصر والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية وتخرّج منها عام 1943، وفي نفس العام تزوّج سيدة مصرية.
درَّس الأدب الإنكليزي في مدرسة الدواوين حتى عام 1953 انتقل بعد ذلك إلى وزارة الثقافة، حيث أعطته منحة التفرغ لعامين ليكتب ملحمة مسرحية ضخمة بعنوان (ملحمة عمر) وجاءت في 18 جزءاً نشر منها 12 جزءاً فقط.
اشترك في سبع مباريات أدبية فاز فيها كلها بجوائز القصة والمسرحية من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ونال في عام 1963 جائزة الدولة التشجيعية في الآداب، كما كان عضواً في لجنة الشعر للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في الجمهورية العربية المتحدة، وكانت وفاته في 10 تشرين الثاني عام 1969.
زار باكثير عدّة بلدان شارك في عدة مؤتمرات، وكانت آخر مشاركة له في مؤتمر الأدباء العرب السابع المنعقد في بغداد، وترك مؤلفات عديدة حيث شُغل بكل جوانب الثقافة العربية وتراثها. وكان همّه الأكبر أن يعبّر عن الواقع الذي يراه دون المستوى الذي يطمح ويريده لأمته العربية وثقافتها ولغتها، فكتب في ذلك القصة والرواية والشعر والمسرح الشعري والنثري، والمسرح الاجتماعي والسياسي والتاريخي والأسطوري والمترجم، وقد ترك عبر كل هذه الأجناس الأدبية مواقفاً خلّدته كعظيم من عظماء الأمة العربية، وكأديب متميّز من أدباء القرن العشرين.
وقد صدر له في الشعر ديوان أزهار الرُّبا في شعر الصبا، وسحر عدن وفخر اليمن، وصبا نجد وأنفاس الحجاز، ووحي ضفاف النيل، وترجم في المسرح روميو وجولييت والليلة الثانية عشرة لشكسبير، وله رواية سلامة القس، ووا إسلاماه، والثائر الأحمر، وسيرة شجاع، وليلة النهر، والفارس الجميل، وفي المسرح التاريخي كتب عشرات المسرحيات التاريخية الطويلة والمتوسطة والقصيرة، منها النثري ومنها الشعري، فمن مسرحياته التاريخية الشعرية مسرحية همام، وأخناتون ونفرتيتي، وقصر الهودج، والوطن الأكبر، والشيماء، وله في المسرح التاريخي النثري مسرحية سر الحاكم بأمر الله، وإبراهيم باشا رسول الوحدة العربية، وأبو دلامة، ودارة ابن لقمان، والفلاح الفصيح، وهاروت وماروت، والدودة والثعبان، وملحمة عمر، وهكذا لقي الله، ومن فوق سبع سماوات، والفرعون الموعود، أما مسرحه الأسطوري الذي كتبه باكثير، فمسرحيته مأساة أوديب تعد أهم ما كتبه في هذا الجانب، وبعدها سر شهرزاد، وأوزوريس، وكتب في المسرح الاجتماعي السلسلة والغفران، والدنيا فوضى، وقطط وفئران، وجلفدان هانم، وحبل الغسيل، وشلبية، أما مسرحياته السياسية فكثيرة، أهمها التي تناولت القضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية والاستعمار.
أهم ما كتبه باكثير من قضية العرب مع اليهود مسرحية شعب الله المختار، وشيلوك الجديد، وإله إسرائيل، والتوراة الضائعة، وإمبراطورية في المزاد، وحرب البسوس، ومسمار جحا، وعودة الفردوس، والزعيم الأوحد، وغير ذلك...
فلسطين واليهود في مسرح باكثير
شارك علي أحمد باكثير قبيل وفاته في مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في بغداد عام 1069، ألقى محاضرة بعنوان (دور الأديب العربي في المعركة ضد الاستعمار والصهيونية، حدَّد فيها مهمة الأديب العربي في مواجهة الصهيونية والاستعمار، كما قدَّم بعض المقترحات المهمّة والبنّاءة، وقال: (إن أمام الأديب العربي مجالين للعمل، مجال عربي أو محلي ومجال عالمي، ولكل منهما أسلوبه) كما ركز على الأصالة العربية.
هذا الذي كان منه في حياته، أما ضمن مسيرته الأدبية وحياته الفكرية فقد كان يؤرّقه ما يلقاه العرب على أيدي شذاذ الآفاق من اليهود، فورد معامع الكفاح السياسي بسلاح الأديب، وليس للأديب من سلاح سوى قلمه يدافع به عن أمّته وحقها في الحياة، ويجلد به أعداء الحق والأمة العربية، فعالج القضية الفلسطينية، وكان رائداً في عدد مسرحياته في وقت مبكر، في وقت لم يكن الشعب العربي قد تنبّه إلى حقيقة الخطر الصهيوني الأخطبوطي على وجوده بعد، لقد كتب باكثير خمس مسرحيات طويلة، وعشرات المسرحيات القصيرة، عالج فيها قضية فلسطين، ومشكلة اليهود قبل وقوع النكبة وبعدها.
هذا ويعد باكثير من الأدباء العرب القليلين الذين التزموا قضايا الأمة العربية، وعده بعض النقاد وحيداً في هذا الميدان، خاصة أنه وُجد في وقت تنكّر فيه بعض الأدباء العرب لعروبتهم، وانسلخوا عن جلدة حضارتهم وتاريخهم، وبعضهم عاش في أبراج عاجية بعيداً عن هموم الأمة وقضاياها.
في هذه الأثناء كان باكثير يقظاً متأهباً للشروع في الدفاع عن قضايا أمّته، يقول عنه محمود تيمور: (..إن باكثير قد رسم لنفسه هدفه الأدبي قبل أن يرتفع صوت عن الأهداف، وهدفه الأكبر فيما يكتب الدفاع عن قضايا أمّته، لقد تعرف باكثير على هويته مبكراً فعض عليها بالتواجذ، وأدرك أن رسالته كأديب عربي تتطلب منه أن يكون رائداً لأمته يُبصرها بالأخطار قبل وقوعها لتتصدى لها أو تنقيها، وانطلاقاً من إيمان باكثير بهذه المهمة العظيمة، فإن حسّه السياسي المرهف قد جعله يضع قضية فلسطين قبل أن يستفحل أمرها في مقدمة القضايا العربية، ففي سنة 1944 كتب مسرحية (شيلوك الجديد) وتنبأ فيها بنكبة فلسطين 1948 قبل وقوعها بسنوات، ثم توالت مسرحياته بعد ذلك، ولم يكتف بكتابة المسرحيات الطويلة، إنما كتب مسرحيات قصيرة عديدة تهاجم الاستعمار والصهيونية، وتفضح ألاعيب تحالفه في فلسطين.
وكانت مسرحياته التي كتبها حول القضية الفلسطينية واليهود على نوعين، قسم منها يتناول القضية بشكل مباشر، وقسم آخر يتناولها بطريقة الرمز أو التناول غير المباشر.
أما كتابه (مسرح السياسة) فهو جزء صغير من حوالي سبعين مسرحية سياسية قصيرة كتبها ونشرها مسلسلة في صحف ومجلات مصر، اختار بعضها ونشرها في كتاب بعنوان (مسرح السياسة) صدر عام 1954، ووضع لها عنواناً فرعياً (تمثيليات سياسية، تصوير فني الكفاح العربي ضد الاستعمار) ويحتوي هذا الكتاب على اثنتي عشرة مسرحية، ست منها يتصل موضوعها باليهود، وتقوم فكرة هذه المسرحيات على منهج مسرحة الأحداث الجارية والأخبار التي تحملها الصحف، وتحمل فكرة الكتب وموقفه منها، كما تعد هذه المسرحيات لوناً جديداً من الأدب التمثيلي الساخر، لم يسبق إليه باكثير في الأدب العربي، وتختلط فيها الأحداث الواقعية بالخيال وتفسير الكاتب لتصرفات تلك الشخصيات والتهكّم بها والسخرية منها.
كتب باكثير هذه المسرحيات بروح السخط والغضب الذي يغلي ضد الاستعمار والصهيونية، وتختلط الفكاهة في هذه المسرحية بنوع من النقد المقذع للشخصيات الاستعمارية، وتبرز القيمة التاريخية لهذه المسرحيات في أنها تعدّ مسرحاً لعرض الحقائق التاريخية عن السياسة الغريبة في موالاتها لليهود والصهاينة وعدائها التام للعرب.
وقد كان باكثير يهدف من وراء هذه المسرحيات إلى توعية الجمهور وتعليمه حقيقة الأوضاع الراهنة ودعوته إلى التفكير في حلول لهذه المشكلات التي تأخذ بخناقه، فهيئة الأمم المتحدة في رأي باكثير ما هي إلا خدعة صهيونية عملت على إنشائها اليهودية العالمية تحت ستار السلام العالمي لتستغل جهود الدول وأموالها في خدمة مآربها الجهنمية.
ويَودُّ باكثير لو أن العرب ينسحبون منها وينفقون بدل اشتراكهم فيها في تحسين أحوال بلادهم، ورفع مستوى معيشة الطبقات المحرومة فيها، وليكتفوا بجامعتهم العربية، أو فليدّعوا إن شاؤوا إلى تكوين هيئة أمم شرقية لا يستحوذ عليها نفوذ اليهود كما يستحوذ على الدول الغربية.
وقد ذكر أحمد السعدني واتفق معه د. الزبيدي على أن باكثير يستخدم المسرح لإثارة الرأي العام، ويتفق باكثير في ذلك مع الكاتب المسرحي (بريختي) الذي دعا في أربعينيات القرن العشرين إلى المسرح الملحمي، وهي المدة نفسها التي ظهر فيها هذا الاتجاه عند باكثير، على أن باكثير قد تميز بأنه لم يتدخل في الأحداث كما فعل بريختي، كما أن بريختي يدعو إلى فكرة أما باكثير فيدعو إلى عمل.
وأخيراً...
إن ما قدمه علي أحمد باكثير.. يؤكد أن مأساة فلسطين تحولت عنده إلى معاناة، هذه المعاناة فجرّت مواهبه الفنية، لأنها تجربة صادقة عقلياً ووجدانياً، رافقت دقات قلبه طوال حياته، حيث أصبحت فلسطين الهم الذي يؤرقه، والحلم القادم الذي يعيش من أجله وينتظره، ولما طال انتظاره حمله هماً طوال حياته.
والحق أقول أنه نتيجة للبحث في نتاجات أدباء جيل علي أحمد باكثير، أكاد أن أجزم أنه الأديب الوحيد من كتّاب المسرح العربي الذي أهمته القضية الفلسطينية في وقت مبكّر جداً، وتنبه لأخطار اليهودية الصهيونية، فقد كتب شيلوك الجديد عام 1944 في وقت سئل فيه رئيس وزراء مصر من قبل صحفي عن القضية الفلسطينية فيجيبه.. أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين..!
لذلك أتمنى من المخرجين العرب أن يبادروا إلى إخراج أعمال باكثير التاريخية والاجتماعية والسياسية ليراها الناس معروضة على المسارح وعبر شاشات السينما والتلفزيون، لأنها كلّها حقائق تعرّي الدعوة الصهيونية وعناصرها المخربة من الفاسدين المفسدين من اليهود شُذَّاذ الآفاق أعداء البشرية.
هذه لمحة سريعة حول مسرح باكثير السياسي، وهو جدير بأن تفرد له دراسات طويلة، كما نتمنى من دور النشر أن تعيد طبع أعماله، التي كلّها مليئة بشروح وافية لقضايا الأمة العربية عامة، وللقضية الفلسطينية خاصة.
هذه الأعمال كما فضحت الصهيونية والاستعمار، فيها أحلام وتوقعات.
وإذا فعلنا ذلك.. لعلّنا نكون قد وفيناه بعض حقه، وأحيينا ذكراه بعد أربعين عاماً من وفاته.
المصادر==================
1 ـ فن المسرحية من خلال تجاربي ـ علي أحمد باكثير ـ ط مكتبة مصر ـ القاهرة.
2 ـ فلسطين واليهود في مسرح علي أحمد باكثير ـ عبد الله محمود الطنطاوي ـ ط1 دار القلم دمشق 1997.
3 ـ اليهود في مسرح علي أحمد باكثير ـ د. عبد الحكيم الزبيدي ـ ط1 دار الفكر ـ دمشق 2009.
4 ـ علي أحمد باكثير ـ ملف خاص عن حياته وأدبه ـ محمد الحسناوي..
5 ـ علي أحمد باكثير رائد قضية فلسطين في المسرح العربي ـ د. محمد أبو بكر حميد ـ مجل الكويت ـ العدد15.
6 ـ علي أحمد باكثير مكتشف الفن المسرحي ـ د. محمد أبو بكر حميد ـ موقع إنترنيت.
7 ـ حول المسرح الإسلامي ـ د. نجيب الكيلاني ـ ط1 مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1987.
8 ـ دور الأديب العربي في المعركة ضد الاستعمار والصهيونية ـ علي أحمد باكثير ـ مجلة الآداب ـ بيروت ـ العدد 5/ آيار/1969 ـ ص10-13.
9 ـ معظم مسرحيات علي أحمد باكثير المطبوعة.
=================================
هذا النص جزء من دراسة كنت قد نشرتها بدوريات الاتحاد سابقا--
------------------------------------------------------------
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي