التصوف : بين "أسد"و"بيجوفيتش" 1 – 2

أخيرا،انتهيت من قراءة"كتاب اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا ... وسبق أن كتبت عنه"دين الله ودين الإنسانية بين"أسد"و"بيسوا"وقلت أن الأول تعرف على الإنسان في الشرق،وعلى دين الله،أما الثاني،فظل يدور في تهويماته في الغرب،وأضيف .. أنه سقط في براثن"التصوف" – بمعناه السلبي – وهاهو الأستاذ الذي قدم للكتاب يقول :
( واعتقد أيضا أن التجربة وحدها وتقشف الصوفية،هما القادران على قياسها عند الدنو المسنون من النفري،ابن عربي،والحلاج،الذين تخترق أصواتهم كتاب اللاطمأنينة بشكل مدهش ) {ص 12 مقدمة بقلم إدمون عمران المليح ،وترجمها إلى العربية / حسان بورقيبة (كتاب اللاطمأنية) / فرناندو بيسوا / ترجمة : المهدي أخريف / المركز الثقافي العربي / الطبعة الأولى 2016}.
لعل "بيسوا"ذهب ضحية"النفري،والحلاج"وابن عربي"!! وعلى كل حال،كتب بيسوا :
( تقودني،هذه التأملات المتواترة عندي،إلى إعجاب مباغت بذلك النوع من الأفراد الذين يكرهونني غريزيا. أعني المتصوفة والزهاد ومن شاكلهم من كل الأعمدة. هؤلاء يحاولون بالفعل ولو بالجنون رفض قانون الحياة،والانبطاح أمام الموت بدون التفكير فيه. ويجدّون في البحث،وإن متوقفين بأعلى العمود،متطلعون راغبون،وإن في زنزانة لا ضوء فيها،يريدون ما لا يعرفون،وإن بالاستشهاد المُعار والمرارة المفروضة){ص 472 – 473 (كتاب اللاطمأنينة) ..}.
التفكير في "الصوفية"قادني إلى دهاليز ابنين للثقافة الغربية .. النمساوي ،اليهودي سابقا،ليوبولد فايس،"محمد أسد"بعد إسلامه .. ودائما "علي عزت بيجوفيتش"،الأول في كتابه"الطريق إلى مكة"،والثاني في كتابه"هروبي إلى الحرية".
ولكن،قبل بسط حديث"أسدٍ وعليٍ"لابد من الحديث عن "الصوفية"ولا أعتقد أن المشكلة في الصوفية من حيث هي زهد .. ولكن المشكلة .. كل المشكلة في "التراكمات"والأفكار التي ظلت تتراكم،قرنا بعد قرن.
فالتصوف،بغير تلك"التراكمات"ليس أكثر من "صخرة"من"الزهد"يلقي بها الإنسان في قلبه،لكي لا تحتله زخارف الفانية،فتلهيه عن الباقية.. هكذا بكل بساطة،ولعل جزء من المشكلة،بعد أن طغت،أو كادت أن تطغى "تراكمات"القرون على التصوف،أن "المتلبس"به أصبح ينظر لغيره وكأنه"عدو"يجب الحذر منه،ولسنا أعداء،بل إخوة،أصل هدفنا واحد .. الوصول إلى مرضاة الله ... من منا لا يتمنى أن يضع "حجرا"من زهد في قلبه،لكي لا تحتله الدنيا،أو لكي لا تنسيه الآخرة؟
لكن الزهد،أو التصوف الذي أبحث عنه .. لابد له أن يرتكز على أساس متين .. ولا أقوى،ولا أمتن،من"الوحيين" .. ثم تأتي قضية أخرى .. بل قضيتان .. إن كنت شيخا لا أقترب من "جيب"أحد .. وإن كنت مريدا لا يقترب أحد من "جيبي" .. ولا يطلب مني أحد أن يكون لي زيٌ يميزني عن بقية إخواني المسلمين .. فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،يجلس بين أصحابه،فيأتي الأعرابي فيقول : أيكم محمد؟ {صلى الله عليه وسلم}... ثم ..وآه من ثم ... "عقلي" .. لا أستطيع أن أسلمه لغير المعصوم .. صلى الله عليه وسلم .. وأين أختبئ من "لعلم تتفكرون"،وحثي على"التدبر" -المنثورين في كتاب ربنا،سبحانه وتعالى،كما تنتثر النجوم في السماء - فألغي عقلي..أكون كالميت بين يدي مغسله؟ فالميت،لا يتفكر ولا يتدبر .. والتالي لا يفكر.
قلتُ من قبل أن المشكلة تكمن في "التراكمات"لا في التصوف ..ولا زلت أتذكر محاضرة استمعت إليها في السيارة – ذات سفر – قبل سنوات طوال، تحدث المحاضر عن "ولي الله" .. فمن هو؟
القرآن يقول : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانون يتقون) يونس 62.
الذين آمنوا وكانون يتقون : صدق الله العظيم.
ولكن"ولي" هذه وقعت تحت"تراكمات" عبر القرون .. وحُملت من المعاني،ما أبعدها عن الشرطين "آمنوا وكانوا يتقون"بعد المشرقين.
وعن "التراكمات"التي اعترت التصوف،يقول ابن الجوزي :
(كانت النسبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام،فيقال مسلم ومؤمن،ثم حدث اسم زاهد وعابد،ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها،وأخلاقا تخلقوا بها ){نقلا عن الصفحة رقم 69 من : (عندما يكون العم سام ناسكا! : دراسة تحليلية نقدية لموقف مراكز البحوث الأمريكية من الصوفية) / د.صالح عبد الله الغامدي / الرياض / مركز الفكر المعاصر / الطبعة الأولى 1436هـ}.
ويقول عن لفظة "تصوف" :
(وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين،ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس،ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة،وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى ..وعلى هذا كان أوائل القوم فلبّس إبليس عليهم في أشياء ثم لبّس على من بعدهم من تابعيهم،فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن،وكان اصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأرهم أن المقصود العمل،فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات){ ص 69 (عندما يكون العم سام ناسكا! ..)}.
وقد نقل أبو نعيم الأصبهاني،في "حلية الأولياء" قول الإمام الشافعي : (أسس التصوف على الكسل){ص 319 (عندما يكون العم سام ناسكا! ..)}.
ولا أظن ذلك"الكسل"إلا من التراكمات التي أشرت إليها.
ومن تلك التراكمات أيضا،الهوس بالرقص .. والمتأمل في الإسلام،سيجد به "رخصة"تتحدث عن" .. لتعلم يهود أن في ديننا رخصة" – أو كما قال صلى الله عليه وسلم – وشتان بين"رخصة" في عيدين .. وبين تحول الرقص إلى"ديدن"!!
نعود إلى "محور حديثنا"،ونبدأ بمحمد أسد .. النمساوي،أي سليل بلاد "موزارت"فهو رجل يعرف من أين تؤكل كتف الموسيقى،وهاهو يتذكر مشهدا راقصا لبعض الدراويش ..
(يبدأ الدرويش بالاستدارة البطيئة حول جذعه،على نغمات إيقاع الدفوف والناي التي كانت كأنها تأتي من مكان متنائي بعيد. ثم يطوحون رؤوسهم للخلف،مغمضين أعينهم،ويجتاح ملامحهم تقلص ناعم. ثم تتصاعد وتتسارع إيقاعات الحركة،وترتفع الجلاليب لتكون دائرة متسعة حول كل درويش مثل دوامات البحار،يبدو على وجوههم الانهماك والذوبان في عالم مختلف ..تحولت الدائرة إلى دوامات،اجتاحهم الانهماك،وشفاههم تكرر بلا نهاية كلمة واحدة : هُو .. هُو .. هُو،أبدانهم تدور وتدور،سحبتهم إيقاعات الموسيقى إلى عالم من الرتابة التكرارية الخالصة من صوت وحركة،رتابة متصاعدة،متسارعة،تشعر وأنت تراقب كأنها تسحبك معهم إلى داخل الدوامة المتصاعدة،على درج يعلو في التفاف حلزوني،أعلى فأعلى،دائما إلى أعلى،على درج صاعد متصاعد،دائما إلى أعلى،صعود حلزوني دائم لا تسبر علوه،ولا تصل إلى نهايته ..){ ص 299 ( الطريق إلى مكة) / ليوبولد فايس "محمد أسد" / ترجمة : رفعت السيد علي / منشورات الجمل /الطبعة الأولى 2010م}.
بعد أن زالت عن "أسد"نشوة الموسيقى والرقص .. قال :
(شغلت فكري ذكرى حلقة الذكر التي قام بها الدراويش في مدينة "سكوتاري"،واتضحت في ذهني معانٍ لم تبدُ لي عندما شاهدت حلقة الذكر. كان ذلك الطقس الديني لتلك الجماعة – وهي واحدة من جماعات كثيرة شاهدتها في مختلف البلاد الإسلامية – لا يتفق مع صورة الإسلام التي كانت تتبلور في ذهني ببطء. طلبت من صديقي الأزهري أن يحضر لي بعض كتب المستشرقين التي تتناول موضوع الذكر،وتبين لي أن شكي كان في موضعه،وأن تلك الممارسات والطقوس دخيلة على الإسلام من جهات ومصادر غير إسلامية.
لقد شابت تأملات وأفكار المتصوفة الإسلاميين أفكار روحية هندية،وفي أحيان أخرى تأثيرات رهبنة مسيحية – مما أضفى على بعض ذلك التصوف مفاهيم وممارسات غريبة تماما على الرسالة التي جاء بها النبي.
لقد أكدت رسالة النبي على أن السبببية العقلية هي السبيل الوحيد للإيمان الصحيح،بينما تبعد التأملات الصوفية وما يترتب عليها عن ذلك المضمون. والإسلام قبل أي شيء مفهوم عقلاني لا عاطفي ولا انفعالي،والانفعالات مهما تكن جياشة،معرضة للاختلاف والتباين باختلاف رغبات الأفراد وتباين مخاوفهم بعكس السببية العقلية ،كما أن الانفعالية غير معصومة بأي حال.){ص 300 ( الطريق إلى مكة .. )}.
حديث"أسد"عن المؤثرات الهندية والمسيحية .. يقودنا إلى المرابط الوداني،حسب تسمية الباحث"المحبوبي" – والمرابط هو : الطالب أحمد المصطفى بن طوير الجنة – وهذا المرابط – رحم الله والديّ ورحمه – ربما يحتاج إلى دراسة خاصة،فكأننا أمام شخصين .. أولهما ذكر "المحبوبي" أن له كتابا عنوانه"فيض المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان" :
( وقد أثار انتشار هذا الكتاب حقد بعض المتصوفة على المرابط الوداني){ص 199( أدب الرحلة في بلاد شنقيط خلال القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين "18/19 م" / محمذن بن أحمد بن المحبوبي / جامعة محمد الخامس }.
ويقول أيضا :
(وقد أثار انتشار هذا الكتاب،حقد بعض المتصوفة على المرابط الوداني وتنبؤوا بأنه لن يخرج سالما من فاس نظرا لما أقدم عليه من معاداة أولياء الله والتعرض لهم بالأذية بلسانه وقلمه){ص 100 ( أدب الرحلة ...}.
كما قال الباحث الكريم،أن المرابط الوداني :

( ساق في شأنهم {أي المتصوفة - محمود} حديث ابن عباس رضي الله عنهما : "سيأتي أقوام يبتدعون البدائع ويأكلون أموال الناس ويرقصون فإذا رأيت القوم على تلك الحالة فلا تخالطهم"،وإضافة إلى ذلك وظف كلام بعض السلف في التحذير من المبتدعين ،مشيرا إلى أن أبا زيد البسطامي كان يحذر من الاغترار بالمبتدعة من المتصوفين قائلا : "إذا رأيته – يعني المتصوف – يسر في الهواء فلا يغرنك حتى فعله حتى تراه واقفا عند الأمر والنهي"){ص 100 ( أدب الرحلة ..}.
هذا المرابط نفسه،قال عنه الباحث :
( ويبقى الهم الناصب لصاحبنا هو الزيارة فيطوف بقبور بعض الصالحين بادئا بعبد الرحمن الثعالبي ذاكرا انحطاط المسلمين،مقدما تفسيرات اعتمدها علماء عصره تلوذ بالخرافة،ساعية إلى تسويغ الضعف الإسلامي أمام القوة الأوربية ولعل أوضح مثال على ذلك ما قدمه الرجل من تفسير لاحتلال الجزائر معولا في ذلك على مقولة القضاء والقدر واجتماع ديوان الأولياء فهو يذهب إلى أن ديوان الأولياء اجتمع وأصدر أوامره بمعاقبة الجزائر لمخالفتهم الشرع فقطب ذلك العصر صرح قائلا :"سلطوا الكفار على الفجار"ومن هنا جاء احتلال الفرنسيين للجزائر حسب رأي الرجل){ص 107 ( أدب الرحلة ..)}.
ويقول أيضا،عن تفسير سقوط الجزائر في أيدي المحتلين،أن ذلك :
(بسبب تخلي ديوان الأولياء عن حمايتهم لأن أهلها تعدوا حدود الله ونكبوا صراط الشرع يقول : "إن ديوان الأولياء اجتمعوا وقالوا نريد أن نأخذ الجزائر من أيدي المسلمين لأنهم طغوا وتعدوا حدود الله حتى برأ منهم وصيهم في الولاية سيدي عبد الرحمن الثعالبي"){ص 110 ( أدب الرحلة ...}.
من المؤكد هنا أن الحديث عن"وصيهم" .. سوف تحيل مباشرة إلى "الشفيع" لدى النصارى!
وإن الإنسان ليعجب،أين ذهب قول الحق سبحانه وتعالى : "كل يوم هو في شأن"الرحمن 29،وديوان الأولياء - الأموات – يجتمع ليقرر في شأن الكون؟!!
في الهامش أقول،توفي المرابط – رحم الله والديّ ورحمه - سنة 1849م،أي أنه لم يدرك سقوط بلاد شنقيط في أيدي الفرنسيين،وبالتالي أعتقد أنه من الصعب أن يقول عن ألئك البدو الرحل،البسطاء،حملة كتابة الله – وإن تكن لهم أخطاؤهم - أنهم "فجار" سلموا للكفار!!
عود إلى العبارة المنسوبة للإمام الشافعي"بني التصوف على الكسل".
قال .. (.. السهروردي في"عوارف المعارف"أنه :"قيل أن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو كتب إليه يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب عليّ مردود،فكتب إليه أخوه لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته اختلت أمور المسلمين وغلب الكفار فلابد من الغزو والجهاد. فكتب إليه : يا أخي لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم على سجادتهم الله أكبر انهدم سور القسطنطينية ){ص 219 (عندما يكون العم سام ناسكا! ..)}.
مرة أخرى،نجد تلك التراكمات التي غطت على التصوف،فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ظاهر،يوم أحد،بين درعين .. وخرج للجهاد،وخرج لفتح مكة المكرمة،ولم يلزم "زاويته"حتى تسقط مكة !!
في الحلقة القادمة،نأخذ شهادة "بيجوفيتش" .. إن شاء الله.

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني