يوم الهجرة المنعطف الأول الذي بدأ به المسلمون تقويم تاريخهم للانتقال من مرحلة الدعوة الدينية إلى مرحلة الدولة
طه الولي
271 العدد


ابتداء التقويم الإسلامي بيوم الهجرة تقرر في السنوات الأولى من تثبيت دعائم الإسلام وإشهار دولته في مهاده الأولى.




والذي عليه المعول من الأقوال التي وردت في هذا الموضوع، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثاني الخلفاء الراشدين، جمع جلة الصحابة وأعيان المسلمين، وفي جملتهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقبل عليهم يشاورهم في أمر التأريخ الذي يحسن بالأمة الإسلامية أن تعتمده في توقيت معاملاتها وتحديد زمان أحداثها وأعمالها.




وسأل عمر من حضره رأيهم في أي المناسبات التي يرون التأريخ بها، لكيلا لا يكونوا عالة في هذا الشأن على من كان قبلهم من الأمم، مثل الفرس المجوس والعبرانيين اليهود، والروم النصارى، وذلك للتعبير عن استقلال الشخصية الإسلامية بكيانها ومنطلقاتها وسائر معطياتها.




فقال بعض الحاضرين : تؤرخ بمبعث النبي (صلع)، أي في الوقت الذي صدع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأمر ربه معلنا أنه رسول الله، وطلب من قومه أن يبادروا للإعلان برسالته السماوية القائمة على عبادة الله وحده ونبذ ما كانوا يعبدونه من دونه من الأصنام والأوثان والكواكب.




وقال آخرون : بل نؤرخ بمولده يوم تشرفت الحياة الإنسانية بوجوده الشريف.




وقال غيرهم : بل نؤرخ بوفاته وانتقال روحه إلى جوار ربه أكرم الأكرمين.




وبعد تداول الرأي وتقليبه على مختلف وجوهه، استصوب بعض الموجودين أن يكون بدء التاريخ الإسلامي يوم هجرته عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، معللين ذلك بأن الهجرة هي أول ظهور للإسلام وبداية انطلاقه في دروب القوة والنماء والازدهار.




وجد هذا الرأي الأخير عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه القبول فأصدر أمره باعتماده وأخذ الناس به واجتمعت الأمة عليه.




ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يحدد الشهر واليوم والابتداء بالتأريخ على أساس الهجرة، عاد فبسط الموضوع من جديد للشورى بين أهل الحل والعقد من المسلمين في أيامه. وكانت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، من شهور السنة وأيامها : المحرم وصفر وأيام من أكرم الربيعين، ربيع الأول، فابتدر عمر القوم قائلا : بأي شهر نبدأ تاريخنا فنصيره أول السنة ؟.




قال بعضهم نبدأ بشهر رجب، فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه.




وقال آخرون : بل نبدأ بشهر رمضان، فإن القرآن جعله شهرا معظما.




وقال غيرهم : بل نبدأ بشهر ذي الحجة، فإن فيه الحج إلى بيت الله الحرام.




وقالت طائفة : بل نبدأ بالشهر الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم


من مكة المكرمة لحماية دينه بالذين نصروه في المدينة المنورة واقترح أن يبدأ التاريخ في الشهر الذي قدم النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلى المدينة المنورة حيث وجد القوة والمتعة.




ولما سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن وجهة نظره في هذا الموضوع أجاب : أرخوا من المحرم، فهو أول السنة عند العرب، وهو شهر الله الحرام، وأول الشهور في العدة أي في التقويم السنوي المعمول به آنذاك، وهو منصرف الناس إلى الحج.




وبالفعل، كان لرأي عثمان رضي الله عنه القول الفصل، فلما وضع عمر رضي الله عنه التاريخ الهجري رده لليوم الأول من المحرم، بمعنى أنه ابتدأ حساب التاريخ الإسلامي، لا من اليوم الذي استقر فيه القرار على وضعه بل من مستهل شهر المحرم الواقع في عام الوضع، مع اعتبار المدة التي مضت قبل ذلك من يوم الهجرة إلى يوم غرة المحرم على الوضع.




وهكذا يكون التقويم الهجري قد بدء به عند المسلمين الأولين في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثاني الخلفاء الراشدين، وهذا سعيد بن المسيب، من أفاضل التابعين الموثوقين في أخبارهم زوج بنت أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر الصحابي الجليل رضي الله عنه، وقد توفي سعيد على القول الراجح سنة 53 هـ (711 م) وهي السنة التي أطلق عليها اسم "سنة الفقهاء" لكثرة من توفي فيها فقد نسب هذا إلى التابعي الكريم قوله :
"أول من كتب التاريخ عمر رضوان الله تعالى عليه، لسنتين ونصف السنة من خلافته".




قال المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" : وكان ذلك في السنة 17 أو 18 للهجرة، يتنازع الناس في ذلك، أي يختلفون في اعتماد أي من السنتين المذكورتين.




بعد هذا الذي قدمناه حول اجتماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأهل الشورى من جلة الصحابة، وأهل الحل والعقد من المسلمين لتقرير التقويم الإسلامي، يمكن القول بأن اختيار الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة موعدا لبدء التقويم الإسلامي، نتيجة لحوار شخصي بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أدى إلى الاتفاق على ما اتفقوا عليه، والتزم المسلمون بهذا التقويم منذ ذلك الحين حتى اليوم، وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.




وهل يقبل منطق بناء الأمة وتنظيمها أن يكون هذا البناء والتنظيم من وحي المصادفات العابرة ؟ إن هذا التساؤل أصبح واردا في هذه الأيام التي يشهد فيها المسلمون تحركا عالميا يشمل سائر أمصارهم للاحتفال بمرور أربعة عشر قرنا على حادثة الهجرة النبوية وإهلال القرن الخامس عشر. وإنه مما لاشك فيه أن هذا التحرك وثيق الاتصال بهذه الحادثة من حيث دلالتها المعنوية على الأثر المباشر الذي رتب عليها، وهو : قيام الشخصية الإسلامية على الأسس الدولية التي أصبحت اليوم قانونا عالميا بحسب الأعراف السياسية السائدة في الأمم المعاصرة.




وهذه الأسس التي ارتبطت بالهجرة النبوية هي : الأرض، والشعب، والحكومة، هذه الأقاليم الثلاثة التي يتمثل في وجودها المادي المفهوم القانوني والدستوري لوجود الدولة، وبالتالي الشخصية الاعتبارية للأمة. وإن أي نقص في هذه الأقاليم المذكورة يجعل الكلام عن وجود الدولة والشخصية الاعتبارية للأمة ضربا من اللغو العاطفي الذي لا سند له من الواقع المادي.




ومن خلال هذا المفهوم القانوني والدستوري لقيام الدولة وكيان الأمة، فإن الهجرة النبوية قد أعطت الحركة الإسلامية التي حمل لواءها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه عز وجل، الإطار الذي أفرزها حيزا مستقيلا ومتحيزا في قلب الجزيرة العربية، وخولها بالتالي حق محاورة الآخرين في داخل الجزيرة وخارجها، وذلك من منطلق الجماعة التي تتمتع في كيانها الخاص بالعناصر الأساسية اللازمة لوجودها كدولة قائمة بذاتها، ويخولها الانطلاق على قاعدة التناظر المتقابل مع الكيانات الدولية الأخرى، كيفما كانت هذه الكيانات وأينما كانت.




وهذا ما أقدم عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل، فور استقراره بالمدينة المنورة، وانتظام شؤونه فيها حين أرسى قواعد حركته الدينية على الأقاليم الثلاثة التي بيناها وهي :
أ- المهاجرون والأنصار، بوصفهم الشعب الإسلامي.
ب- المدينة المنورة بوصفها الأرض التي يعيش فيها هذا العب.
ج- وأخيرا، التشريع الإسلامي الذي يعكسه القرآن الكريم بوصفه القانون والدستور اللذان يطبقان على الشعب وعلى الأرض في آن واحد.




فلقد بادر النبي محمد صلى الله عليه وسلم آنذاك، إلى ممارسة الاتصالات المباشرة مع القبائل العربية عن طريق الرسائل التي طلب فيها من هذه القبائل اعتباره طرفا مستقلا في العلاقات القائمة بينه وبينها، على أساس مبادئ واضحة وشرائط محددة، كما بادر، في نفس الوقت، إلى توجيه مندوبين يمثلونه لدى رؤساء الدول المجاورة، ومحل هؤلاء المندوبين رسائل رسمية تتضمن مطالبة هؤلاء الرؤساء بالاعتراف بنظامه الجديد القائم على الشريعة الإسلامية، كما طلب إليهم في هذه الرسائل الاعتراف به شخصيا كرئيس أعلى لهذا النظام، وهذا ما يسمى بلغة العصر الديبلوماسية : الوثائق السياسية المتبادلة بين الدول عبر رؤسائها الشرعيين لتبادل الاعتراف القانوني فيما بينهم.




وإذا عدنا إلى الوثائق التي توالت على المدينة المنورة فور هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليها، وخلال السنوات الأولى بعد هذه الهجرة فإننا نلاحظ كيف أن المجتمع الإسلامي الذي شكله النبي محمد صلى الله عليه وسلم من المكيين الذين رافقوه ومن المدنيين الذين آووه ونصروه، سرعان ما تحول إلى وحدة شعبية، التصقت بوطنها القومي الجديد والتفت حول عهدها النبوي تحت لواء الدعوة الإسلامية، إلا والذي أعطى النبي محمد صلى الله عليه وسلم القدرة على اهتبال هذه الفرصة، ليتعرف دون أي إبطاء في الاتجاه الذي يترجم انطلاقته الدينية إلى كيان سياسي، بكل ما في هذه الكلمة من معنى على المستوى الدولي المعروف اليوم.




إذن، فإن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، كانت في الواقع بداية ونهاية، في آن واحد، أما النهاية فكانت لمرحلة إعلان الدعوة الدينية، وأما البداية، فإنها كانت لمرحلة إعلان الدولة الإسلامية.




ولعلنا لا نحتاج إلى مزيد من التفصيل، من أجل إيضاح الظروف المبدئية والجوهرية القائمة بين المرحلة التي شهدت ظهور الدعوة الدينية، وبين المرحلة التي شهدت نشوء الدولة الإسلامية. ذلك أن المرحلة الأولى كانت، بما لابسها من مبادرات قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم على المستوى الإفرادي والقبلي كانت في مجملها مجرد إرهاص بتحول فكري هدفه نشر العقيدة الدينية الجديدة بين الآخرين من الأهل والمواطنين، بينما المرحلة الثانية بما تمخضت عنه من وقائع صدامية، وأحداث ذات صفة عامة، كانت إيذانا بتأسيس عناصر الدولة القومية الجديدة بمعالمها الواضحة ونظمها المركزية داخليا وخارجيا، وهي العناصر، والنظر التي تعكس المعطيات القانونية الحديثة المتواضع عليها في العرف الدولي السائد اليوم، وهي :
الأرض والشعب والسلطة (أي الحكومة).




وانطلاقا من هذا المفهوم التحليلي لواقعة الهجرة النبوية، من بلد الدعوة إلى بلد الدولة، فإننا نؤكد بأن الحوار الذي تبادله أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم انتهى إلى إقرار التقويم الإسلامي ابتداء من الواقعة المذكورة، لم يكن وليد التأويلات الافتراضية، لتلك الواقعة المذكورة، كحدث مادي عارض، بل إن هذا الحوار كان مرتبطا ارتباطا عضويا أكيدا بالأغراض التأسيسية التي أوضحناها، والتي كانت وقائعها الحسية لا تتجاوز الظاهرة العرضية فقط.




وعليه، فنحن نقول بأن التاريخ الهجري، كان، في الواقع تعبيرا مدروسا من قبل الذين وصفوه لأول مرة، عن إنشاء الدولة الإسلامية بكامل ما تعنيه هذه المؤسسة العامة من أبعاد في التنظيم الداخلي، ومن توثيق للسيادة القومية ومن توضيح للعلاقات الخارجية مع التجمعات القبلية في داخل الجزيرة العربية، وفي نفس الوقت مع الأمم الأولى في الأقطار الأجنبية المجاورة.




وهكذا، فإنه يمكن القول بأن التقويم الإسلامي حين اتخذ من مناسبة الهجرة النبوية منطلقا له، قد لحظ الناحية المبدئية وليس الناحية الشخصية، وبذلك يمكن الانتهاء في كلامنا عن هذا التقويم بأنه : يعبر عن بدء انطلاق الرسالة الإسلامية في مسيرتها الخالدة، من أجل حضارة إنسانية، لا تتقيد بالاعتبارات الفردية التي تقوم على عبادة الذات، أي عبودية الإنسان للإنسان.




ومن أجل هذا الشعار، وتحت ظل لوائه، وضع المسلمون تقويمهم الزمني بالتاريخ الهجري.




وهو التاريخ الذي يعتبر في الواقع : النقلة النوعية التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة الدينية في مكة المكرمة إلى مرحلة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
من موقع دعوة الحق