سندريلا وثوبها الضيق:
تقف سندريلا قرب المرآة وهي تبكي ... تتنهد بصوت عالٍ.
لا أحد يصدق أنها مازالت تنتظر فارسها الذهبي...حتى الآن..
تعودت على الجوع وقلة الزاد منذ زمن ليس بقصير، حتى تآلفت معه وباتا صديقيها المخلصين وباتت لهفة الخروج من عنق الزجاجة واردا جدا، فالضيق يولد الانفجار..
تكتفي بقليل متاح رغما ، ليسكت نداء معدة خاوية غالبا، تصيح ليل نهار
مازالت تنتظر عودة زوجة أبيها وبناتها من جولاتهن اليومية ككل يوم ، وزياراتهن غير الضرورية، ويتعالى صوتها يوما بعد يوما، و عندما يحضرن تستمتع بقصصهن التي تعبر عن حيوية البشر وفعالياتهم الحياتية، وقصصهم التي لا تنتهي أبدا ، محركة العالم ودينامو الإبداع.
قد طال الوقت ولم تسمعها عن قرب سوى من نافذتها الوحيدة، التي تسمح لها أن ترى العالم من خلالها ..
تنظر جيدا لثوبها المهلهل، حيث تذكرت عندما خاطته أمها رحمها الله، وبها اختتمت دروس الخياطة الممتعة، قد كان تاجر قماش معروف.
كان صوته يجلجل في هذا المنزل الفاره، لكنه عندما توفي صارت تسمع صوته في الأحلام...
متى يرق قلب زوجة أبيها، وكيف يرق قلبا ما عرف الله أبدا...
وبين تنهداتها دعت ربها ان يجبر قلبها الكسير. ..
ينفقن النقود يمنة ويسرة، بلا حكمة، إذن لا بأس من إصلاحه فهي أقرب الحلول، الآن على الأقل.
سجدت ودعت الله وناجته ليمنحها صبرا جديدا تحلق به ومن جديد:
متى سيأخذها أميرها إلى قصره المنيف؟ لقد وعدها ورسم لها قصورا من ماس وغيوم ما أمطرت بعد..
متى سيحل لغز حياتها الثقيل؟ لقد طال العهد على الوعد .. وضاق صبرها كثوبها تماما، فقد كان قد بدا يوما ما هذا الصبر مطاطا جدا، محلقا في غيوم الحلم الجميل الذي كلما استطال زادت مشاهده الباهتة ليصبح أكثر حداثة وتكرارا مملا، عيوبه لا تنحصر، وحساسينه غابت عن العيون ولم تعد تأت زرافات.
حتى الأحلام تبلى وتضيق بأصحابها، كثوبها تماما... وعلينا الإصلاح من جديد...
مازالت تلك النافذة تواسيها، يراها الناس جميلة مزركشة برسومات عريقة، لكنها تبطن جروحا غائرة وأخاديد قديمة مازالت نابضة بالألم والذكرى... فالذكرى غيوم كسالى تريدنا ألا نتحرك. كشاهد على شبه عتمة لا ضوء بعدها.
لكنها مازالت تسمح لها بالنزول عند الحاجة لأمر ملح فقط. قفزت بهدوء الحذر، ومن حافتها العالية، وعبر ذلك الطريق الموارب الذي يوصلها لدكان البزاز قائلة:
- ثوبي يحتاج ترقيعا، فكيف سنفعل دون أن يلفت الأنظار؟.
- سأضيف له من مكان خفي بعض رقع ليغدو أكثر راحة وسعة من الآن .
-إنه يخنقني ، وأظن أن بعض إضافات من الحواف ممكنة ليبدو بذلك معقولا أكثر، فيغطي قدمي العاريتين، وربما اقتنيت جوربا جديدا يختفي أثره وراء ثوبي الطويل....
بعض قطرات مطر باردة، تشي بهطول شديد قريب، فتتعجل أمرها .
- هل لديك نقود كافية لذلك؟
- كلا
- وهل عرفت زوجة أبيك بذلك؟
- ليس ضروريا، أو لنقل: بعد أن ننتهي سوف أخبرها بطريقتي الخاصة. فاكتم عني... أرجوك.
صمت البزاز وانصرف عنها لشؤونه فهو كعادته لا يرى إلا مصالحه المادية، وقد منعه ذلك من التعامل مع تلك السندريلا التعسة فما معنى الجمال في دنيا الفقر...؟
تلك الدريهمات التي تعطيها له تلك المرأة الظالمة، يسد بها ثغرات في جدار نفقات هذا الدكان القديم... فلم يسبب لنفسه نتوءا في علاقة العمل هذه؟ فأنا الطرف غير المضمون بالنسبة له.
نظر إليها من جديد من وراء نظارات سميكة تظهر عينين مخيفتين جدا، فقال:
-هل تجلسين معي تعينينني في بعض أعمالي بينما أنتهي من ترقيع ثوبك هذا؟ وبذلك أجد متسعا من الوقت لمساعدتك.
وانهال الزبائن من كل حدب وصوب، وكأنه كان على موعد معهم.. وعيونهم تنظر إليها وتحكي دون أن تحكي.. لتجمع ثوبها المهلهل على بعضه
بصمت..
عيون الحي تلك التي تنظر إليها بحدة عيون الصقر وفضوله الجارح... وكأنهم وجدوا غنيمة يتسامرون حولها هذا المساء..
وسألت نفسها:
-هل فعلا أميرها سيأتي؟
ولكن كيف سيراها بهذا الشكل الأكثر سوءا ووجهها الأكثر اصفرارا؟
هل فعلا باتت تثير الشفقة؟

دقت باب صديقتها القريبة، التي كانت تراها من النافذة يوميا، فلم تفتح لها الباب، فبابها مقفل مثل قلبها تماما، لكنها تبقى خيرا من الوحدة.
تذكرت ذلك الأمر بألم وضيق.. وهي تشعر بالاختناق أكثر فأكثر، وصدرها مسجون في نسيج يكاد أن يتمزق عنها بتمرد.
تجد مزقة قماش ملقاة على طرف الرصيف، و في جانب حاوية القمامة القصي، فأمسكتها بلهفة ، فربما غسلتها جيدا و خاطتها بطريقة ما حسب ما عرفت من طريقة الترقيع من والدتها.. عندما كان والدها يناقش كثيرا في أمور القماش واختياره لكثرة الأنواع والأجناس، لكن القماش في هذه المرة لم يكن مناسبا أبدا، والأمر ملح جدا. عادت للبزاز وطلبت منه بعض بقايا قماش لديه لتخيطه هي وبنفسها... فلم يمانع لكنه نظر إليها من فوق نظارته القديمة:
-أنت تجعلين السهل صعبا... لا بأس.. لك ما أردت.
مازالت تحسد زوجة أبيها وأختيها على ملابسهن الفاخرة، وتنأى بنفسها عن الثرثرة في قرارة نفسها، فيا حسرة من لا يسمع نداؤه.
تمزق طرف ثوبها من جديد عندما اصطدمت بحجر ناتئ ما انتبهت له، لتسمع قهقهات متلصصة من بعض أولاد الحارة...
- كيف حدث، وهي سندريلا الحكايات؟
تصنعت سلوكها بشراء بعض حزم من البقدونس والنعناع لتغطي خروجها الطويل... ذلك إن وشى أحدهم بسرها..
وهرعت للنافذة بخفة وخطى متسارعة... قفزت بعنف مبتعدة عنهم... سقطت على الأرض بقوة.
سمعت عبارة لم تفهمها جيدا وسمعها الجميع:
- مازالت تعتقد أنها سندريلا...!!!
تغاضت وابتلعت وجعها... وأغمضت عينيها عن موضع الألم...
لتنتظر أميرها الذي كان يتابع خطواتها خطوة بخطوة، وبصمت تام غريب!!!.
نامت على حافة نافذتها الحزينة، وهي مازالت بانتظاره لينتشلها من عذابها المستمر... ومازال يراقب من بعيد... مبتسما...وبصمت أيضا ومازالت تنتظر...!!! وتنتظر..
ومازالت زوجة أبيها في عرش سطوتها. لكنها، وبعد هذه المغامرة الاختبارية، عرفت حلا لمشكلتها الحزينة.... ستبقى هنا حتى تعرف السر الذي يمنع الأمير من دخول هذا الصرح التعس... وستكون أميرة المستقبل.. شاءت زوجة أبيها أم أبت...إنما هي غمامة ظلم.
فخائب من لم يعرف الطريق لحل مشكلته...
عيناه المراقبتان تكفيانها كي تضع أشعة صبرها نصب نظراته ... فتنفذ إلى حيث كان يجب أن تكون...
ابتسم.. ابتسمت... رفع سبابته معللا نجاحها.. ومشيعا له، قفزت من الفرح.. وغابت في المنزل من جديد...

ريمه الخاني 9-3-2014
------------------------------------------------------------------------------------------------------------

تعليق نقدى
إبراهيم عوض:


قصة قصيرة للأستاذة ريمة الخانى قرأتها مرة منذ عدة أيام ثم أعدت قراءتها هذا الصباح صباح عيد الفطر السعيد، ووقفت أمام أسلوبها الجميل ما عدا بعض الهنات التى أصلحتها. وهو أسلوب يختلف عن الأسلوب الذى نراه فى تعليقاتها على ما ينشر فى موقعها الكريم، إذ تبدو تعليقاتها هناك متعجلة وغير معنىّ بها كما ينبغى. بل إنى لاحظت أنها ربما تكتب تعليقاتها أحيانا من الموبايل بما فيه من وجوه نقص فى كتابة بعض الحروف. المهم القصة طريفة، فقد حولتها المؤلفة من جوها الأسطورى إلى جو عربى مسلم: فجعلت سندريلا تسجد لله، وهذا لا وجود له فى القصة الأجنبية. كما جعلت بطلتها تشترى نعناعا وبقدونسا كيلا يعرف الجيران أنها خرجت فى غياب زوجة أبيها القاسية للخياط فتعاقبها عندما تعود مع بنتيها من الخارج. كذلك تصور القصة الأمل ورسوخه فى القلوب حتى بعد أن تغيب كل مبشراته. فها هى ذى سندريلا رغم كل شىء ورغم فقرها وتغضن بشرتها وصفرة وجهها وتمزق ثيابها وانتشار الرقع فيها ورغم سخرية أهل الحى منها ومن تدهدى حالها ما زالت مقيمة على الأمل تنتظر حبيبها أن يأتى ويأخذها على حصانه المجنح ويطيرا معا فى أجواز الفضاء. وأى حبيب؟ إنه أمير من الأمراء. ترى من أين يأتيها كل هذا الأمل؟ ومن أن تستمد كل تلك الثقة؟ إن فى القصة تهويمات غائمة، وهذه المسألة من بينها. إنها تهويمة من تهويمات سندريلا تتركنا حيارى. كذلك تخلط القصة فى السرد ما بين ضمير الغائب وضمير المتكلم خلطا بارعا بحيث ينتقل السرد من طريقة إلى أخرى ثم يعود إلى الطريقة الأولى بغتة دون تمهيد، ومع هذا لا يحس القارئ أن فى الأمر شذوذا أو خطأ. القصة جميلة، وقد قرأتها مرتين، وكل ما أرجوه ألا أكون أخطأت الشرح والتحليل، وإن كان عذرى أن النظريات الحديثة تلغى المبدع وتضع القارئ مكانه، فمن حقه أن يقول فى العمل الأدبى ما يشاء حسبما يعن له. وقد عن لى ما كتبت، فلا أظن المؤلفة تستطيع أن تغضب منى أو تخطئنى بعدما رفعتُ راية الحداثة فوق رأسى أستظل بها من كل ملام وعتاب أو تقريع. وكل عام والمؤلفة وأنتم جميعا بخير، وبلاش أنا!