من راقب النّاس ..
مقالات ملفقة 5\3
بقلم – محمد فتحي المقداد


يعتبر الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، ورقيبة تصغير رقبة، وهي مؤخرة أصل العنق، وهو أول رئيس للجمهورية التونسية بعد توقيع وثيقة الاستقلال في 20 مارس 1956، وفي فترة لاحقة لذلك في 25 يوليو 1957 أصبح رئيساً، وفي 3 يناير 1984 حدثت ثورة الخبز، التي سقط خلالها الضحايا بالمئات، وشهدت صراعات دموية حادة بين المواطنين ورجال الأمن؛ بسبب زيادة في سعر الخبز، واستخدمت فيها القوة ضد المتظاهرين ولم تهدأ تلك الثورة إلا بعد تراجع الحكومة عن الزيادة بعد يوم واحد فقط من إقرارها، واستدعي المخلوع زين العابدين بن علي من وارسو ليشغل منصب مدير عام الأمن الوطني. وخلال ثلاث سنوات من مجيئه، وضع يده على مفاصل الدولة، وفي 7 نوفمبر 1978 قام ابن علي بعزل رئيسه بورقيبة، وفرض عليه الإقامة الإجبارية، وعندنا في المثل الشعبي، يقولون: (كل شيء تزرعه تقلعه، إلا بني آدم تَزْرَعَهُ فيقلعك).
و من العبارات التي لا قت رواجاً شعبياً واسعاً على ألسنة الناس: (من راقب الناس مات همّاً)، وهي مكتوبة على شكل لوحة بخط جميل مزخرف في أماكن عامة، ومن راقب الله فقد خافه في السرّ و العلن، وكثيراً ما يصاب الناس في حالة قلق و ترقب من أمر غامض مجهول يتوقعون قدومه في أية لحظة، ومن كان ينتظر أمراً ما فهو يترقبّه.
في حالات الطوارئ، تنشر نقاط المراقبة للتفتيش على البطاقات الشخصية للمسافرين عبر الطرقات العامة، وأمتعهم للتأكد من خلوّها من الأشياء الممنوعة، نقاط المراقبة المتقدمة تنشر على طول حدود الدول، وهي ما يعرف الاستطلاع لرصد تحركات العدو، و التنصت على اتصالاته، ويباشر هذه المهمات العسكرية و الشرطيّة، من هم برتبة رقيب، ذات مرة سمعتُ أن بدوياً سأل مجموعة عساكر عن رتبهم، فقال أحدهم أنا رقيب، ردّ البدوي: إيْ بالله، الرقيب يراقب، والآخر أجاب: بأنه عريف، ردّ البدوي: إيْ بالله، العريف يعرف، وأجاب ثالهم: بأنه ملازم، ردّ البدوي: الملازم مو لازم.
ومن أسماء الله الحسنى الرقيب، وهو الحافظ و المنتظِرْ، وقد وردت بأوجه عديدة في القرآن الكريم، [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (سورة قّ:18)، أي ما يتكلم الإنسان من كلام فيلفظه ويرميه من فيه إلا لديه، أي ذلك اللافظ، رقيب، أي ملك يرقب قوله ويكتبه، وورد كذلك [فلما توفيتني كنتَ أنتَ الرقيب عليهم] (سورة المائدة 117)، وهي وردت على لسان نبي الله عيسى، والرقيب هنا، أي المطّلع على سرائرهم و لحفيظ لأعمالهم.
في العصر الحديث، ومنذ قيام ونشأة الدول الحديثة بأجهزتها الإدارية الكثيرة والمتعددة المجالات، وتشعب اختصاصاتها، لجأت الحكومات جميعها لإنشاء أجهزة الرقابة و التفتيش على دوائرها، لمكافحة الفساد و المفسدين، وقمع المخالفات الظاهرة للقوانين النافذة، وهذه الأجهزة الرقابية لها سلطات واسعة في تنفيذ القانون، و من المفترض أن لا يحدّ من سلطاتها أي عائق. (ولكن هذه الأجهزة نفسها لا بد لها وهي تقوم على تنفيذ القانون من رقابة الضمير، وإلا اختل في يدها الميزان - على نحو ما هو شائع ومشاهد! - وتحول القانون إلى أداة تميل بها الأهواء حيث تشاء. وكذلك أفراد المجتمع ليسوا دائما وفي جميع الحالات تحت أعين أجهزة الرقابة أو في متناول قبضة القانون. ولهذا كانت رقابة الضمير هي السند الأسمى لسلطان القانون على الناس، والضمان الأكيد لاتباع أوامره واجتناب نواهيه) حسب الأستاذ محمد حلمي عبدالوهاب.
كثيراً ما يكفل شخصاً صديقا له، عند شخص آخر، فيقول له: (رقبتي سدّادة) أي إذا لم يوفيك حقك في موعده فأنا سأسدد عنه. وللتعبير عن العلاقة العميقة مع شخص ما، فيقولون: (فلان من عظام الرقبة) أي أنه قريب لدرجة كبيرة، وهو من عظام الرقبة.
و الرقبة هي مؤخرة أصل العُنُق، وجمعها (رِقَبْ و رقبات و رِقاب)، ومن الممكن أن نطلق لفظة الرقبة على العبد المملوك و الأسير، ولما جاء الإسلام لتحرير الإنسان من عبوديته لأخيه الإنسان، جعل تحرير أو عتق الرقبة من العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله، وهي التي يُعَبَر عنها بمصطلح الكفّارات، جبراً للذنوب و للمخالفات.
ومن أعطى داراً أو أرضاُ لأحد، فيكون قد (أرْقَبَهُ) إياها، وقال: هي للباقي منّا، لأن كلّ واحد منهما يرقُبُ موت صاحبه. وها أنا أرقب مقالتي أن تنال إعجابكم، وتحظى بقراءتكم، ومن راقب النّاس مات همّاً.



عمّان \ الأردن
18-6-2016