الرواية : منحدر يؤدي إلى ..(1)
عثرت على هذه الأسطر،والتي رقمتها نهاية العام المنصرم .. كان ذلك على هامش تفضل أحد أفاضل الناشرين برغبته في نشر "الداروينة حين تتحزم بالقرآن " في كتاب .. وقد اقترحتُ أن يكون الحديث عن الرواية متعاضدا مع مضوع الدارونيية ،لأنني أرى أن الرواية تقدمة "مزلقانا"يؤيدي إلى قبول أفكرا "داروين"المادية .. وعلى هذا الأساس كتبت تحت عنوان طويل هو"الرواية : منحدر يؤدي إلى خلخلة التدين،متوسلا بالشهوات والشبهات".
فضل الناشر الكريم نشر "الداروينية تتحزم بالقرآن "منفردة .. ثم تلاشا المشروع.
حين وقفت على هذه الأسطر .. رأيت أن نشرها – في حلقات - أفضل،طلاما أنها كُتبت!!

جسر بين الداروينية ودور الرواية
بعد أن نشرت نتيجة قراءتي لكتاب الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (جدلية الغيب والإنسان : العالمية الثانية) : الداروينية حين تتحزم بالقرآن ،اقترح علي { أحد أفاضل الناشرين } نشر تلك القراءة في كتاب،مع إشارة لافتة لانتشار الإلحاد في أوساط الشباب .. ألخ.
هذا الاقتراح الكريم .. والحديث عن الإلحاد،أعادني إلى ما كتبته من قبل حول "الرواية"فرأيت أن أجمع ما يتعلق بالرواية، مع " الداروينية حين تتحزم بالقرآن"،في إضمامة واحدة،وذلك لأني أرى ترابطا وثيقا بين الرواية وتقبل نظرية داروين،ومن ثم الأفكار الإلحادية .. بل إنني أزعم – دون أن أنفي وجود الإلحاد - أن صوت الإلحاد خافت قياسا على تلمس بعض مدعي الإلحاد لمخرج يتيح،ويبيح الولوج إلى عالم الشهوات.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكره أحد ضيوف برنامج (سواعد الإخاء)،الدكتور أمجد قورشة، عند الحديث عن الإلحاد،فقد ذكر أنه عند حواره مع بعض طلابه "الملحدين"اكتشف أن معظمهم ليسوا ملحدين فعلا،بل هي وسيلة للفت أنظار الفتيات،كتقليعة جديدة،صادمة،أو جاذبة!!
هذه معنى كلام الضيف الكريم،وانطلاقا من (الإلحاد الرومانسي) إن صح التعبير .. نلج إلى العلاقة بين الرواية والإلحاد ،بنوعيه،الحقيقي،والباحث عن الشهوات.
يجدر التنبيه هنا إلى نقطتين :
النقطة الأولى : أننا حين نقول الرواية،فذلك يعني ضمنا الأفلام والمسلسلات ... إلخ.
النقطة الثانية : إن الجانب الأخطر في الرواية،وغيرها من الأعمال الدرامية أنها لا تخاطب العقل مباشرة،بل تزرع الفكرة – أو الشبهة بمعنى آخر – عبر تشخيصها .. وبعد ما يشبه عملية "تخدير"العقل عبر العري .. أولا،ثم ما يصحب ذلك من موسيقى ،وبقية عناصر العمل الفني.
تقوم الرواية بعمل أولي هو .. إثارة الشهوات عبر سرد لا ينتهي من الوصف الدقيق،بل شديد الدقة – أحيانا - للعلاقة بين الرجل والمرأة،ذلك الوصف الدقيق،والذي يثير الشهوة .. وكما قالت سيدة أمريكية من أصل تركي،اسمها "فاطيما"للأستاذ منير عامر ،وهي تحدثه عن "العلاقات"بين الموظفين والموظفات في أمريكا :
(( إن الجميع يعرف أن قراءة قصة فيها عن الجنس عشرات التفاصيل والأحداث،هذه القراءة تجعل الإنسان يعيش ملتهبا ومشتعلا. وهذا الاشتعال وهذا التوهج يقرأه الرجل في أثناء ركوبه للقطار وهو ذاهب إلى العمل. وهذا التوهج تقرأه المرأة أثناء وجودها في العمل أو بعد أن تعود إلى المنزل،أو تسمع التفاصيل من الرجل الذي يشاركها في المكتب. وعندما يأتي ميعاد الغداء،قد يشتري الرجل والمرأة المشتركان في مكتب واحد سندويتشات ويذهبان إلى غرفة في أحد فنادق الحب السريع.يحدث ذلك حسب درجة الاشتعال.){ ص 153 ( مسفة بين القبلات ) / منير عامر / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الأولى 1990م .}.
هذا الإلتهاب،والاشتعال،حسب تعبير "فاطيما"يذكر بما كتبه أحد المشاركين في تكريم الأديب السوداني الكبير ،الطيب صالح – في مهجران "أصيلة"بالمغرب – وقد اعترف المشارك أنهم كانوا في مراهقتهم يقرؤون "موسم الهجرة إلى الشمال"دون أن يعو أصلا للإشكالات التي تطرحا الرواية،حول الشمال والجنوب .. بل يقرؤونها للجنس الذي فيها!!
ولعل ذلك البحث عن الجنس هو الذي يبرر بعض أسباب انتشار تلك الرواية!{ الطبعة التي بحوزتي هي الطبعة الرابعة عشرة،وقد نشرتها دار العودة سنة 1981م.}
من جهة أخرى تتحدث إحدى الروائيات الإيرانيات،عن "الرواية"أو سبب قراءتها :
(سألت طلبتي : "ما الذي يمكن أن تحققه الروية في اعتقادكم؟ ولماذا على المرء أن يتعب نفسه بقراءة الروية أصلا؟ (..) وبينت لهم أننا في هذا الفصل الدراسي سندرس ونناقش الكثير من الكتاب الذين يختلفون عن بعضهم البعض،ولكن الصفة التي يشترك بها جميع هؤلاء الكتاب هي صفة"الزعزعة"و"التهديم"){ ص 160 (أن تقرأ لوليتا في طهران ) / آذر نفسي / ترجمة : ريم كية / منشورات "الجمل" : "نسخة إلكترونية"}
لعل إغراق الرواية الحديثة بتفاصيل اللقاء بين الرجل والمرأة { وصل الأمر إلى درجة جعلت الأستاذ سمير عطا الله،يقول :
(وظهرت أسماء نسائية غير قادرة على تركيب جملة خالية من أصوات السرير!!} يصحبه دائما – في الروية العربية بطبيعة الحال،الحديث عن "الحرية"في إقامة تلك العلاقات،والكبت الذي يعاني منه المجتمع،وبالتالي دور "الدين"والذي يلطف أحيانا ليصبح حديثا عن"رجال الدين"حتى وإن كان الإسلام – كما هو معروف – ليس فيه "رجال دين"بالمعنى الموجود في"النصرانية".
في إطار الحديث عن بساطة العلاقات في الغرب .. يكتب الطاهر وطار :
(أحدهم يقول إنه اختلف مع صديقة له في طبيعة العلاقة ،هي لا تضع نصب عينيها سوى الزواج بينما هو يسعى إلى إقامة علاقة إنسانية خالية من أغراض الدنيا التافهة . تصوري؟
في أوربا الإنسان هناك تجاوز كل هذه الإشكاليات،فيعيش الرجل مع المرأة دهرا،وقد ينجبون ذرية دون زواج.
البنات عندنا أفسدهم التعليم،وأجهزت عليهن الأمهات .إني أحاول أن أكون ابن عصري،لا ابالي بالإشكالات والقيودات التي يفرضها المجتمع.
هل أنت بكر بعد؟ إذا كان السؤال لا يحرجك){ ص 120 رواية "الشمع والهاليز" للطاهر وطار / روايات الهلال رجب 1416هـ = ديسمبر 1995. }
وتشير "عائشة"بطلة رواية الأستاذة رجاء عالم،إلى روعة الحياة بدون أوراق ،فيقول لها "صديقها" "الألماني":
("زوجيني نفسكِ"
"زوجتك نفسي".. حريصة أن تبلغ كلماتي الشاهدين ،والذين أشرقت ملامحهما بابتسامة،مذهولين وحريصين ألا يفوتهما أدق التفاصيل،حين فاجأتهما بالإضافة،"على أن تكون العصمة بيدي أيضا"لقد صفقا بسعادة باعتقاد أنهما يمثلان في كوميديا ذلك الصباح المشرق.
"لتشهدا على هذا العقد أمام الله.." شدا على أيدينا بحماسة،بينما صمتت ممرات الحديقة المشمسة ،بشاهدينا يوقعان عقد زواجنا اللفظي بزخة من العزف على الكمان عززت تذهيب ذلك الصباح.
"هي زوجتي الثانية ،الأخرى لا تزال على ذمتي أنا هارون الرشيد" قالتها ضاحكا لتصدمهما وتُحفز معزوفتهما الراقصة،(..) منذ البداية لم تصدق حين قلت لك أن "الزواج قبول وإيجاب بحضور شاهدين،وإن مطلقة مثلي لا تحتاج لولي"صرخت يومها :
"كم هي الحياة رائعة بلا أوراق .. ليصعقني الله ميتا إن حنثت بهذا العقد الضوئي"صرختك جمعت أعين المتنزهين علينا،وأطبقت بذراعيك عليّ كسرت ضلعا أو ثلاثة مثيرا البسمات المشجعة حولنا .. أنا حلقت على تلك البسمات،أنت لم تشعر بفرق،لكن جبلا من الإثم انزاح عن كاهلي ..){ ص 323 – 324 (طوق الحمام) / رجاء عالم {نسخة إلكترونية}}
ولا تكتفي إحدى شخصيات "حليم بركات"بالحديث عن "الزواج"بصفته استعبادا،بل تتحدث عن"الحب"نفسه بصفته "استعبادا":
( ثم تدخلت "أميرة"وكانت تحمل كأسا مشعا،:"أنا أعتقد أن الحب،مثل العائلة والزواج،استعباد من نوع آخر. ما نسميه التزام هو في الواقع احتكار .بالحب نلتزم بشخص واحد يحتكر حياتنا ونحتكر حياته (..) لذلك لا أرفض العائلة والزواج فحسب بل أرفض الحب. لماذا أكرس نفسي لشخص واحد وأصر أن يكرس نفسه لي. لماذا نلغي العلاقات مع أناس آخرين قد نغني حياتهم ويغنون حياتنا .التفاهم والمتعة والصدق ،هذا ما ابحث عنه.(..) أفضل الصداقة على الحب .لم الأقنعة؟ لم التمثيل؟ بالصدق نغني بعضنا البعض دون تعقيد ووجع راس وغيرة وخداع وعواطف مهترئة ){ ص 180 – 181 رواية "الرحيل : بين السهم والوتر" لحليم بركات}.
ولا تنس الرواية أن تحرض المرأة بصفتها الجانب الأضعف .. فنجد إحدى شخصيات "علاء الديب" تقول :
(هاني قبطان .. عشيقي،رفيقي،وأنا .. هه .. أقترب من الخمسين،يريدني زوجة ثانية ،محظية بيضاء،مخدعا إضافيا،وفراشا"استبن"عادي،لا شيء جديد){ ص 11 رواية "قمر على المستنقع" لعلاء الديب : روايات الهلال }.
وفي الرواية نفسها :
( أنا "تابع"بالزواج بذلك الرباط غير المقدس ،هل كل النساء هكذا .. حتى في الجرم والذنب تابعات أكره نفسي،جسدي ..){ ص 100 ( السابق)}.
وتؤكد إحدى شخصيات "بركات"على أن الزواج "اغتصاب"فتقول،وهي تحاور نفسها،لتقنعها بالدخول في علاقة خارج إطار الزواج،وهي المرأة المتزوجة :
(لقد زوجوك غصبا ،ألم تقتنعي بعد أن الزواج اغتصاب دائم؟ ){ ص 24 "الرحيل بين السهم والوتر"}.
ما بين سقوط "الإثم"على بطلة "رجاء عالم" .. و"الزواج"بصفته"اغتصابا دائما"عند "حليم بركات"ننهي هذه الحلقة .. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إن شاء الله

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي