لما أن كنا أطفالا ..كانت أمنيتنا أن نكبر ..كنا نقلد تصرفات الكبار في غالب لعبنا ..أصواتهم ...حركاتهم ...حتى أننا كنا نرتدي بعض ثيابهم التي تضيع فيها معالمنا الصغيرة ..و كأننا نستعجل السنين ..
فأحيانا نتبادل أدوار الجوار الذين يتزاورون و يطمئنّون على بعضهم البعض ،و أحيان أخرى نمثل دور الأم التي تطهو الطعام ثم تدعو أبنائها ..و أحيان و أحيان و أحيان ..
و على متن السنين ضاقت علينا تلك الأثواب ..حيث أننا كبرنا ..
كبرنا و تنقلنا على أغصان شجرة الطموح الباسقة كالعصافير تارة و أخرى كالصقور التي لم ترض إلا ذرا القمم ..

فكم من طائر غره جناحاه ليرتفع هاويا في دركات الهلاك

و كم أشغلنا امتداد أجنحة آمال طموحنا ..

و لازلنا نتنقل بين هذا و ذاك حتى وجدنا أنفسنا بين يدي قمة وسطٍ لم نعد نعلم لأي المراحل هي أقرب و إلى أيهم تنتمي ! و لم نعد نعلم أنضحك أم علينا البكاء ؟ ، فعلى كتف المشهد ربيع يموج بالجمال و الألوان ليس بالبعيد و على الكتف الآخر تحيَّات حارة من خريف يلوّح مبشرا بثلوج ستمتد و تمتد _إن قدر الله البقاء_ لن تظهر ألوان الطبيعة ربما ، تغفو تحتها مروج من الأمنيات ..ربما تحقق منها القليل و ربما كان أكثر بقليل و ربما لم يتحقق بعضه أبدا ،
و يراودنا سؤال ما في هذه المشاهد ...

و لكن ... ترى هل نحن نحن أم لم نعد نحن أولئك ؟
هل علينا أن نودع الربيع جملة و تفصيلا لنتكيف مع طقوس الخريف التي باتت قاب قوسين أو ربما كانت أدنى ؟
ما الذي خرجنا به بعد رحلة لم تكن بالقصيرة كما أنها لم تكن طويلة كفاية أيضا ؟؟
كانت ربوع البراءة حينا و ريعان القوة و التمكن أحيانا أخر ..كانت عنفوانا لا يعرف لغة الركون .. كانت قدرة على اقنتاص الفرص و تعبيد دروب ..فهل فعلنا ؟
ترى هل نقول : ألا ليت الزمان ...؟
أم : غنِّ يا أزهار الأماني و أسمعي الزمان ألحان أغنيات الفرح ..؟

تدور رحى الأيام طارحة إيانا بين حجريها ..تديرها يد الأقدار ..تعصرنا و تعصرنا و تطحننا و تطحننا لتخرج أفضل ما عندنا ..
و الآن بين يدينا خلاصة مراحل مضت و انقضت ..خبرات كسبناها تارة بهزيمة و أخرى بانتصار ..و لكنها كلها أصبحت رهن ماضٍ لا شك لن يعود ..
لذا ..ما أحلى أن تذيب نيران إراداتنا تلك الثلوج رغما لتفسح للمروج الطريق بالظهور بطريقة أخرى مجددا..

و ما دامت تخفق الأنفاس فينا فهناك ما علينا القيام به ..فالإنسان مكلف ضمن حدود قدراته و معرفته حتى النهاية و عليه أن يسعى و يسعى

اليوم علينا أن نبدأ من جديد ، نلملم حقيبة السفر و نرتبها من جديد فمحطات أخرى بانتظارنا ..دروب تهفو لسماع خطواتنا على مدارجها ..دروب لم تفتح لأصحاب المراحل التي طويناها ..
دروب جديدة ليست بحاجة لذاك العنفوان أو لتلك القوة ..لا تحتاج إلا لمزيد من الإصرار المجبول بالتروي ..للأفق البعيد ، للمجد المشيد بالمعارف .
الآن بدأت مرحلة الرشاد ..بدأت مرحلة الحكمة ..بدأ العطاء الحر الذي لا تقيدة
أجنحة قوية تعبث في الفضاء ، فالفضاء رغم اتساعه يحتاج لخبرة في اختصار المسافات
الآن ..علينا جمع معارفنا و توظيفها بالشكل الأمثل لنفيد و نستفيد ..
فليست الأمواج مهما علت و اشتدت هي التي تخرج الدرَّ من الأعماق ، إنما غواص ماهر يجيد التعامل مع البحر ...يفهم لغة الأعماق... فيتوغل فيها و يستخرج أثمن ما في القاع من كنوز ، فهل بلغنا سفح خبرة ذاك الغواص ؟
أم سنبقى نمثل الأدوار بأجنحة بات يتعبنا مجرد حملها ؟!!!