الراتب ...

ذات عصر .. و يوم أن تسلمت راتبي ، عدت إلى البيت و أنا أطير بجناحي البهجة و القلق ، فتارة أفكر بما أود شراءه من مستلزمات و أخرى أحسب كم علي من الديون لأدفعها و كم سيتبقى لديّ ؟؟
و هل سيكفينا حتى يلفظ الشهر آخر أنفاسه ؟؟
خاصة و أن زوجي قد فقد عمله مؤخرا و هو يمكث في البيت منتظرا شروق أمل جديد بالحصول على فرصة في مكان آخر ، كان شديد الحساسية بسبب ذلك ..شديد النقد و التعليق ..يحسب أي صيحة عليه ، و لكي أخفف عنه ضيقه جلبت له معي "كروز " سجائر رغم أني كنت أمقت التدخين ، ولكنه كان شفيعي الأمثل في نيل رضاه و التودد له لإطلاق ضحكته المسجونة أو على الأقل ابتسامته ، فهو مدمن عليه و يتنفسه ، كنت أفكر أن أخفي عنه استلامي الراتب تحرجا له و لكنه يعرف كم معي ، فكيف لي أن أفعل ؟!!
كما أنه علي ان أسلمه الراتب ليقضي ديوننا ، فهو يأبى أن أبادر بذلك بنفسي لأنه هو عمود الأسرة و لست أنا ...

كنت بين السماء و الأرض ففكري يحلق عاليا بعيدا و قدماي تمشيان بخطوات مترددة على الأرض و كأنها تأبى بلوغ العش قبل تنسيق ما أخطط له ..
و بينما كنت أحلق في فضاءات أفكاري قفز إلى منصة الواقع مشهد غريب ..!!

حيث صادفت في طريقي غلاما يجلس على كرسي مقعده الأرض و مسنده الجدار و يبدو من شكله أنه سائل ، فأستقر في نفسي أن أحصن رزقي و أستمطر بركة الله فيه .
وقفت حذاءه و فتحت حقيبتي ، كان الراتب لا يزال كما تسلمته رزمة واحدة ، أدركتني قشعريرة حين استشعرت بأن الله سيرضى عما سأفعله ، و بدأت أبحث بين النقود عن ورقة فئة المئة ليرة ، و بينما كنت أفعل ، لم أشعر إلا و يد قد امتدت بسرعة البرق و اختطفته جملة من بين يدي ، فتبعته عيناي فرأيته شابا يركض كالنمر و لكنه ولى هاربا لا يلوي على شيئ ، شعرت و كأن الأرض خسفت بي ، و أسقط في يدي، و دون تفكير بدأت أنادي عليه : عد يا بني و سيكون لك حظا منها ، و اغرورقت عيناي ، فجريت خلفه كآمل الماء من السراب و لسوء الحظ كان الطريق خالٍ من الناس خلا الذين حطوا على أغصان الشرفات ليعلموا سبب ذاك الصراخ ، كانوا قد نثروا أجنحة الاستغراب و علامات الاستفهام على معالم وجوههم ، لم آبه بهم فمصيبتي أكبر من ذلك ، و لما آيست من عودته عدت أدراجي كئيبة متفطرة الفؤاد ..
و الذي زاد استيائي و دهشتي أكثر أنني لم أجد ذاك الغلام و شدتني ذاكرتي لأمر لم يخطر ببالي !!!
لقد كان بجانب الغلام شجرة إلا أنه لم يكن يجلس تحت الظل ،بل تحت أشعة الشمس ، فأدركت بأنه مخادع يستجلب شفقة الناس و أطلقت العنان لناظري علّي أجد له أثرا و لكني عبثا كنت أحاول !!!