قراءة فى كتاب "If the Oceans Were Ink" للصحفية الأمريكية كارلا باور
(الحلقة 2) د. أكرم ندوى

بقلم د. إبراهيم عوض


الكلام فى هذا الفصل يدور حول ما ذكرته الكاتبة فى الفصل الخاص بالدكتور أكرم ندوى بغض النظر عن صحته أو لا. فأنا لا أعرف عن الرجل شيئا يذكر، ولهذا فليس أمامى مناص من الاعتماد على ما كتبته المؤلفة عنه بوصفها من أقرب المقربين إليه، على الأقل: فى فترة من الزمن كتبتْ فيها عنه ذلك الكتاب. والذى جعلنى أهتم بالرجل هو أن هناك تقاطعات بين حياتى وحياته، وإن كان الفارق الزمنى بيينا من ناحية الميلاد بعيدا، إذ ولد عام 1964م بينما ولدت أنا عام 1948م، فهو فى سن بعض تلاميذى، كما أن الفارق الجغرافى بين بلدينا أشد بعدا، فهو من الهند، وأنا من مصر. أما التقاطعات فهى أن كلينا ريفى قروى، وكلينا تعلم تعليما إسلاميا فى صغره، فقد حفظت القرآن فى الكتاب، وانتقلت حين بلغت الثانية عشرة إلى المعهد الدينى بطنطا، وإن كنت قد تركت الأزهر بعد حصولى على الإعدادية وحولت أوراقى إلى المدارس. وبالمثل تلقى طوال حياته تعليما دينيا. وبالمناسبة فإننى، رغم تركى الأزهر، قد عدت فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة إلى دراسة اللغة العربية والتفسير والحديث والتاريخ الإسلامى وما إلى ذلك مما له أشد الارتباط بالدين. كما درس كلانا اللغة الفارسية، إلا أننى قد أهملتها بمجرد تخرجى من الجامعة فنسيت كل ما تعلمته منها.
وفى النهاية أرجو ألا تفوتنى الإشارة إلى أن اسم أخى الشيخ، وهو مُزَّمِّل، يذكّرنى باسم أول شاب مسلم قابلته فى لندن أول يوم لى هناك، إذ كنت قد نزلت بيتا من بيوت الشباب لأقضى فيه ليلتى لقاء خمسة جنيهات إسترلينية، وما إن وضعت شنطتى فى الغرفة المخصصة لى حتى سألتُ فتاة الاستقبال عن الطعام لأنى كنت جائعا، فقالت إنهم لا يقدمون سوى الفَطُور والمبيت. وعلىَّ أن أدبر أمرى بالبحث عن أى محل لا يزال مفتوحا بعد الخامسة والنصف أشترى منه شيئا يؤكل، وهو ما يمكننى أن أجده إذا ما ذهبت إلى الشارع الرئيسى مرورا بالمسجد. وما إن سمعت كلمة "مسجد" حتى قلت فى نفسى: جاءك الفرج يا مشتهى الطعام! فقد كانت إنجليزيتى ضعيفة جدا آنذاك لأنى إنما درست الفرنسية فى المدرسة والجامعة فى مصر، وتوقعت أن أجد عونا فى المسجد على نحو أو على آخر. وقد وجدت هناك الشاب الذى أومأت إليه آنفا، وكان نيجيرى الأصل فيما أذكر، واسمه مُدَّثِر أحد أسماء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مثل "مزمل". والاثنان اسما سورتين قرآنيتين متتاليتن تتحدثان عن النبى عليه السلام فى أبكر مرحلة من مراحل الوحى. وبالمناسبة فقد حل لى مدثر مشكلة الطعام، إذ قدم لى فى المسجد طبقا شهيا من البامية المطبوخة مع السمك، إلى جانب الأرز الأصفر، وإصبع موز هو أكبر إصبع رأيته فى حياتى آنذاك. ومن يومها وأنا أفضل هذا النوع الضخم الطويل من الموز.
وكنت قد أتيت إلى بريطانيا، بعد حصولى على الماجستير فى الأدب والنقد، وحصلت على درجة الدكتورية من أكسفورد عام 1982م، ثم ذهبت إلى السعودية عام 1989م للعمل بجامعة أم القرى- فرع الطائف، وبعد ذلك بعامين تقريبا قرأت بالمصادفة، وأنا هناك، إعلانا فى الصحف عن حاجة مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية إلى مشرفى رسائل جامعية محليين ليَرْعَوُْا الطلاب المنتسبين من منازلهم إلى المركز، فراسلتهم فى المعهد فاختارونى للإشراف على باحث فلسطينى من سنى أو أكبر قليلا، وكانت الرسالة عن د. غازى القصيبى ناقدا أدبيا. وكنت قد أصدرت كتابا كبيرا من 600 ص بعنوان "أدباء سعوديون" احتل القصيبى فيه قريبا من مائة صفحة، فكان مرجعا لذلك الباحث الذى كتب رسالة قوية فى موضوعه. وفى ذلك الوقت تقريبا التحق د. أكرم الندوى بالمركز المذكور.
على أن المشابهة لا تقف عند هذا المدى، بل تمضى أبعد من ذلك. فقد تعرض الندوى، عند تقدمه لشغل وظيفة أستاذ بالمركز، لسؤال من مديره عن موقفه من قضية سلمان رشدى وكتابه عن الآيتين الشيطانيتين بغية استطلاع طِلْعه ومعرفة اتجاهه الفكرى. وكنت فى ذلك الحين قد أصدرت كتابا لى عن ذلك الموضوع. كما أننى قد تعرضت، حين تقدمت لشغل وظيفة مشابهة بكلية التربية بالطائف، لسؤال مشابه، ولكن عن نجيب محفوظ وموقفى من فوزه بجائزة نوبل فى ذلك الحين. فكان جوابى أن محفوظ، شئنا أم أبينا، ينتمى لنا وننتمى له، وهو ابن الإسلام بغض النظر عن السبب الذى دفع الأكاديمية السويدية إلى إعطائه جائزتها السنوية فى الأدب، ومن ثم ينبغى لنا أن نفرح بحصوله على تلك الجائزة التى تأخرت عنه سنوات طوالا، إذ هو بكل يقين أفضل من بعض من فاز بها. كما أن فوزه بالجائزة فخر لنا نحن العرب والمسلمين. وأحسب أن الأستاذ الذى سألنى لم يخطر له أن يسمع هذا الجواب من متقدم لشغل وظيفة فى الجامعات السعودية فى الوقت الذى كان هناك حظر على أعمال محفوظ فى معظم دول العالم العربى، فما بالنا بالمملكة؟ ومع هذا فقد ظهرت علائم الارتياح عليه رغم أنه متخصص فى الدراسات الإسلامية لا الأدبية. وقد أعربت عن رأيى فى عبقرية نجيب محفوظ وتفوقه على كثير من نظرائه فى آداب العالم الأخرى فى أكثر من كتاب لى.
أما د. أكرم ندوى فكان رده على السؤال الخاص بموقفه من رواية سلمان رشدى والتظاهرات المشتعلة التى كانت تعج بها بريطانيا فى ذلك الوقت هو أنه ينبغى تجاهل الرواية تماما كأنها لم تكن، وأن التظاهر لا يفيد بشىء، فالله ورسوله لن يؤذيهما هذا الكتاب، أما المسلمون فإن تلك المظاهرات تؤذيهم بما تم فيها من أعمال شَغْب وحرق للكتاب سَوَّأَتْ صورتهم فى أعين الرأى العام البريطانى. وكان المفروض، على العكس من ذلك، أن يهتبلوا تلك الفرصة ويقوموا بتصحيح صورة الإسلام المشوهة فى الغرب. وأنا معه فى إدانة التظاهرات العنيفة وحرق الكتب، ومعه أيضا فى أنها كانت فرصة أمام المسلمين لتوضيح جوانب العظمة فى الإسلام والرد على ما فى الرواية من أخطاء وإساءات لا تقوم على أى أساس، ولكنى لست معه فى أن الكتاب لا يؤذى الله ورسوله. نعم، إن الله فوق الأذى، لكن المعنى هنا على المجاز، وقد قال الله تعالى فى سورة "الأحزاب": "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم عذابا عظيما"، كما قال فى سورة "التوبة" عن المنافقين: "ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون: هو أُذُنٌ".
كذلك لست معه فى إدانة التظاهرات أيا كانت حتى لو كانت سلمية. ذلك أن المسلم لا يمكن أن يصمت إزاء ما يوجَّه من أذى إلى دينه، وإلا تبلدت مشاعرنا مع الوقت، وتجرأ عدونا على النيل من مقدساتنا مطمئنا إلى أننا سوف نصمت ولا نبالى، علاوة على أن الصمت يترك أثرا ضارا شديد الضرر بنفوس الضعفاء، فيختل إيمانهم مع الأيام: فأما الكاتبون من أمثالنا فينبغى أن يكتبوا مفندين ذلك السخف ومجهضين العدوان الموجه لديننا ونبينا وربنا وكتابه، وهو ما صنعه واحد مثلى عندما وضعت كتابا درست فيه الرواية من ناحية الأسلوب والبناء والتاريخ والجغرافيا وما فيها من بذاءات وألفاظ عارية ومنفّرة تثير الاشمئزاز سواء من ناحية الجنس أو من ناحية الفضلات البشرية وغيرالبشرية والغرام المرضى بذكرها وتكرارها. ولعلى أول من صاغ المصطلح الموازى للكلمة الإنجليزية الدالة على ذلك، وهو مصطلح "الخُرْئِيَّة" فى مقابل "Scatology". كما أرجو أن أكون أول من حلل لغة رشدى فى روايته، وكان ذلك فى خمسين صفحة بالتمام والكمال. وقد ألفيتها رواية متهافتة سخيفة مفعمة بالبذاءات والقاذورات والنفايات والتجديفات، وعملا مفككا من الناحية الفنية لم تستطع بهلوانيات صاحبه أن تنقذه من هذا التفكك وتلك التفاهة.
هذا فيما يخص الكتاب وأمثالهم، وأما العامة فلا تستطيع كتابة ولا خطابة ولا بحثا ولا جدالا، وإنما تحسن التظاهر. وليس فى التظاهر فى بريطانيا أم الديمقراطية من عيب أو حرج. فليتظاهروا إذن معبرين عن موقفهم دون عنف أو تحطيم أو فوضى أو إحراق كتب. وهم فى هذا لا يأتون عملا شاذا ولا غريبا، فالتظاهر عند البريطان أمر اعتيادى كالأكل والشرب والتنفس يلجأون إليه كلما عن لهم أن يعربوا عن موقفهم فى قضية عامة. ومَثَلُهم فى هذا كمَثَل الغربيين جميعا. أم ترى التظاهر حلالا زلالا لهم، وحراما علينا دون البشر جميعا؟ ألم يقل الرسول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان؟ وبطبيعة الحال لا يصح أن يغير المسلم منكرا بيده إذا كان المنكر أمرا عاما تنظمه الدساتير والقوانين، لكنه يستطيع بكل يقين وبكل سهولة أن يغيره بلسانه فى مثل تلك القضية بالهتاف والانتظام فى مسيرة احتجاجية، إذ القانون فى صف المسلمين فى تلك الحالة، وما عليهم سوى أن يتفقوا على ميعاد التظاهرة وحجمها ونظامها ويبلغوا بذلك السلطات البريطانية، وهى من جانبها تؤمن التظاهرة وتحميها وترافقها طوال خط سيرها حتى تنتهى فعاليتها فينصرف كل إلى حال سبيله، وقد أدى واجبه نحو دينه واحترم البلد الذى يعيش فيه والقانون الذى يستظل بمظلته هو وسائر المواطنين والمقيمين، وكان الله يحب المحسنين. أم ترى د. ندوى يريد أن يكمم أفواه المسلمين بالذات حتى لا يعبروا عن أفكارهم ومواقفهم؟ فَلِمَ يا ترى؟
أما إذا كان المقصود من كلامه الذى رد به على مدير المركز الأكسفوردى للدراسات الإسلامية هو إهمال الرواية وعدم الانشغال بها بأى حال فإنى أيضا لا أوافقه فى هذا. نعم أعرف أن من المسلمين من يرى هذا الرأى قائلا إن الرد فى مثل تلك الحالة من شأنه نشر السباب الموجه إلى الدين والرسول على نطاق أوسع ولفت النظر إليه بحيث يتنبه إليه من لم يكن واعيا به. وعوضا عن أن نكون قد أطفأنا النار نزيدها اشتعالا والتهابا. لكن هذا إنما يصح لو كانت الرواية مجرد حديث سمعه عدة أشخاص، ثم ينتهى الأمر بمغادرتهم المكان الذى كانوا يتحدثون فيه، وكان الله بالسر عليما. لكنها عمل منشور على نطاق واسع، إذ طُبِعَتْ منها نسخ بعشرات الآلاف، وحيطت بدعاية رهيبة. فلو سكتنا عن الرد عليها لفُسِّر صمتنا بأنه عجز عن المواجهة وثَبَتَتِ التهم التى فيها على الإسلام ونبيه. ومن ثمرة هذا أن يشك كثير من المسلمين فى أمر دينهم. أى أننا، بدلا من أن نجنبهم الفتنة طبقا لمنطق الداعين إلى الصمت والإهمال، قد عرَّضناهم لها أيما تعريض. ثم إن منهج القرآن الكريم فى هذا الموضوع هو منهج الصراحة والمواجهة وعدم الصمت. فما من كلمة وجهها الكفار أو اليهود أو النصارى أو المنافقون إلى النبى أو دينه إلا انبرى كتاب الله يرد عليها ويفندها ويسخر من أصحابها. وكان الرسول من جهته أيضا يفعل هذا. بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يستعين بحسان وابن رواحة وكعب بن مالك فى الذَّبِّ عنه وعن دينه. ولو كانت خطة السكوت هى الخطة السليمة لكان عليه الصلاة والسلام أول من ينتهجها.
والواقع أن أى كتاب عدائى ضد الإسلام هو بمثابة قنبلة لا بد من تفكيكها قبل أن تنفجر فى الوجوه، وهذا يكون بالرد عليه وإظهار عواره من خلال الكتب والدراسات التى تُظْهِر أخطاء ذلك الكتاب وتبين بالحجة والبرهان والمنطق العلمى الصارم أنه كتاب تافه متهافت حتى تطمئن النفوس إلى دينها فلا تتزعزع عقيدتها. وأخيرا فهل ينتهج الغرب هذا السبيل فى التعامل مع الدعاية المضادة لسياساته؟ إنهم فى الغرب يستبِقون الأحداث ويخططون لمواجهة ذلك قبل الهنا بسنة. ولهم فى ذلك خطط وبرامج شيطانية تدل على يقظة لخصومهم وعمل دءوب على إفشالهم قبل أن يفكروا مجرد تفكير فى مناوأتهم. فلم يقال لنا نحن بالذات إن التجاهل هو الوسيلة المثلى لمواجهة أمثال رشدى وروايته؟
وهنا أود أن أتريث قليلا أمام نقطة تتصل بهذا الموضوع، وهى عَزْوُ د. أكرم الندوى الفتوى التى أهدر بها الخمينى دم رشدى إلى دوافع سياسية، إذ كان الخمينى، كما يقول، قد باء بكراهية المسلمين حول العالم بعدما كانوا متحمسين له فى بداءة أمره، فأراد أن يسترد شعبيته المتقلصة من خلال فتوى تُظْهِره بمظهر المدافع عن الإسلام والرافض لأية إساءة توجَّه إليه. وأنا معه فى أن الفتوى لا معنى لها، ولكن باعتبار مختلف. فالفكر لا يواجَه إلا بالفكر. ثم إن رشدى رعية بريطانية، ومعنى الفتوى أننا نتدخل فى شؤون رعايا الدول الأخرى. فهل نحب أن تتصرف الدول الأخرى مع رعايا بلادنا بنفس الطريقة؟ كذلك فمن المعروف أن بريطانيا، بل والغرب كله، سوف يضربون نطاقا من الحماية حول سلمان رشدى يجعل الوصول إليه شبه مستحيل، وهو ما حدث، إذ لم تستطع يدٌ أن تنال منه منالا. ثم انتهى الأمر تماما مع الأيام ولم يعد هناك إهدار لدمه.
وقد غاب عن د. ندوى، فى تفسيره لإصدار تلك الفتوى، أن رشدى قد صور الزعيم الإيرانى تصويرا بشعا، إذ رسمه على هيئة وحش خرافى بشع يبعث على النفور والاشمئزاز. ذلك أن رواية سلمان رشدى تتألف من أربع قصص لا تربط أيّةً منها بالقصص الأخرى صلة فنية أو مضمونية البتة. وتدور القصة الثانية من هذه القصص الأربع حول إمام يعيش فى لندن عيشة متقشفة حيث لا يوجد فى المبنى الذى يشغل هو وأتباعه ثلاثة طوابق منه خمر ولا قمار ولا نَرْد ولا حتى صُوَر، اللهم إلا صورة امرأة فى غرفة نوم الإمام العجوز. وهذا الإمام يمجد الماء، ويلعن الإمبراطورة (صاحبة الصورة) شاربة الخمر ودماء البشر، ويلعن كذلك أغاخان، ويعلن أنه عندما ينتصر الماء سوف تسيل الدماء. ويبرز رشدى أثناء ذلك كيف أن كل ما يقوله الإمام فى غرفته المغلقة الشديدة الحرارة إنما هى أوامر تتحكم فى مصائر الآخرين.
وهو يصف الإمام بالضخامة وعدم الحركة قائلا إنه "حجرٌ حَىٌّ". كما يذكر أن رأسه كبيرة ولحيته رمادية. ثم يمضى قائلا إن التاريخ هو عدو الإمام ولعبته، وإنه يرى فى "التقدم والعلم وحقوق الإنسان" ثلاث أكاذيب كبيرة، وإن العلم فى نظره ليس سوى وهم لأن خلاصة العلم موجودة فى القرآن، وليس هناك ما يمكن أن يضاف إليه بعد انتهاء الوحى على ماهوند. ويُنْطِق المؤلفُ بلالًا المؤذنَ مخاطبا الجموع بصوت هادر: الموت للإمبراطورة والنبيذ! أحرقوا كل الكتب، واستمسكوا فقط بالكتاب الذى أنزله جبريل على ماهوند، والذى يفسره لكم إمامكم. ويسخر المؤلف من الإمام بقوله إنه يحرك العالم، لكنه هو نفسه لا يتحرك، وإن لحيته تبلغ الأرض، وتطيرها الريح فى كل اتجاه. ويصوره وقد تلفع بتلك اللحية وأرسلها على كتفه، ثم طار فى الجو ودار قليلا قبل أن يستقر على كتفى جبريل منشبا "براثنه" فى رقبته. وفى أثناء ذلك تظهر ساقا الإمام المغزليتان، وقد غطاهما شعر وحشى كثيف. كما يصوره مبغضا للإمبراطورة مرددا أنها سجينة الزمن بخلافه هو الذى يتجسد فيه الخلود. وفى مشهد آخر نراه يتحول إلى وحش يرقد فى الفناء الأمامى للقصر وقد فتح فمه متثائبا، وأخذ يبتلع الجموع التى تعبر بوابة القصر. وهنا يبدأ عصر "اللاوقت".
وأول ما يلفت النظر فيما يخص الإمام هو ذلك التصوير الهزلى المؤلم المهين الذى لا بد أنه كان أحد الأسباب الرئيسية وراء فتواه بإهدار دم سلمان رشدى، إذ ليس من السهل أن يقال عن زعيم روحى وسياسى له فى قلوب الملايين من أتباعه ذلك الحب والإجلال الذى كان ولا يزال يتمتع به إنه حجر حى، وإن له ساقين كالمغزلين يغطيهما شعر وحشى كثيف، وبراثن ينشبها فى رقبة جبريل فاريشتا، وإنه لطول لحيته قد تلفع بها وأرسلها على كتفيه، وإن حاجبيه يرفرفان فى الهواء كأنهما رايتان. إن هذه ليست صورة إنسان بل وحش أسطورى آت من خارج الزمن. فهذه الحواجب المرفرفة وتلك السيقان المغطاة بالشعر الكثيف تدل على أن صاحبها لا يشعر بمرورالزمن ولايفكر فى تشذيبها. وقد ذكر المؤلف صراحة أن الإمام قد استحال فعلا فى نهاية القصة وحشا فاغرا فاه وشرع يبتلع الجموع. كما ذكر بصراحة أيضا أنه، بانتصار الإمام، قد ابتدأ عصر "اللاوقت". إن سلمان رشدى يريد أن يقول إن هذا الرجل لا يصلح أن يكون زعيما روحيا، بل هو وحش مفترس، وإنه لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية، إذ هو لا ينتمى إلى عصرنا، كما أن دعوته تتجاهل التاريخ والتطور وظروف البيئة ومتغيرات الزمان والمكان، ولا تعترف بشىء اسمه العلم أو التقدم أو حقوق الإنسان. والآن هل كان أكرم ندوى قد قرأ الرواية؟ لا أدرى. ثم هل كان هذا رأيه الحقيقى أم هل أراد أن يريح نفسه من النقاش الذى يمكن أن يضيع عليه فرصة الانخراط فى التدريس بمركز أكسفورد المذكور؟
وقد احتارت الكاتبة فى تصنيف د. ندوى كما احتار، طبقا لكلامها، كل من حاول من معارفها هذا التصنيف: سواء كان المصنِّف مسلما أو غير مسلم، شرقيا أو غربيا. فهو فى نظر هؤلاء سلفى، وفى نظر أولئك منفتح. وهو فى نظر هؤلاء متشدد، وفى نظر أولئك متساهل. وهو فى نظر هؤلاء محب لدينه، وفى نظر أولئك متابع للغرب على ما يريد بالمسلمين من تفسخ وابتعاد عن دينهم. أما هو فيقول إنه كان مستقلا لا ينتمى إلى جماعة أو اتجاه بعينه، مؤثرا أن ينتسب فقط للإسلام فى وقت كان على الشخص فى بريطانيا أن يحدد موقفه فيعتزى إلى هذه الجماعة أو تلك، وإلا ضاع وطاردته التهم من الجميع.
والحقيقة أن هذا يصيب كل من سار على درب الاستقلال. وقد عانيت وأعانى من هذا أنا أيضا، فلا أذكر أنى فكرت يوما فى الانضمام إلى جماعة أو حزب، إذ لا أجد نفسى إلا فى فرديتى على ما فى الفردية من عيوب أراها تتضاءل بجوار الانتساب إلى هذه الجماعة أو إلى ذلك الحزب. فهناك من يتهمنى بالانغلاق والتشدد بعد كل ما كتبته عن حرية الفكر والضمير. ومع هذا فإنى فى ذات الوقت أحب أن يكون الناس جميعا مسلمين رغم معرفتى بأن هذا مستحيل بناء على أن الله قد خلق البشر، كما قال فى كتابه المجيد، مختلفين. وهناك من يتهمنى بعكس ذلك. كما أننى لا أتباطأ شعرة واحدة فى الرد على من يهاجم الإسلام أو يسىء فهمه وينشر سوء فهمه على الناس بل أنبرى له وأعرّى نقاط ضعفه بالعقل والمنطق والوثائق والشواهد.
وهناك من يرى أنى معتزلى مع أنى انتقدت المعتزلة كثيرا. وهناك من قد يظن أنى آخذ صف بنى أمية ضد الحسين، وجوابى هو أن ظُفْر قدم الحسين برقبة يزيد. ولعن الله من قتل الحسين وحرض عليه ورضى به. إن قلب المسلم ليشتعل نارا كلما فكر فيما حدث آنذاك، إلا أن الحسين لم يسلك سبيل النجاح السياسى منذ البداية، فكانت النتيجة هى فاجعة كربلاء. فمن الواضح أنه لم يكن خبيرا فى ميدان السياسة ودهاليزها وما تحتاج إليه من دهاء، فدارت الدائرة عليه وخلق مقتله بين المسلمين ميراثا من الضغائن والعداوات. وهناك من يظننى كذا، وهناك من يظننى كذا، ولكنى أقول دائما: إننى مسلم، وكفى. وإذا صح ما نسمعه من أن الإيرانيين نهضوا فى العقود الأخيرة نهضة صناعية قوية فهذا يحسب لهم رغم إنكارنا على الشيعة فى ذات الوقت تنطعهم فى موقفهم من الصِّدّيق والفاروق وابنتيهما وحرصهم على إخراج زوجات النبى كلهن تقريبا من دائرة أهل البيت مع أنهن يدخلن فيها بكل جدارة، وبنص القرآن؟ ألم تقل الملائكة لسارة زوجة يعقوب: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت"، فجعلوها من أهل البيت كما نرى؟ ألم يخاطب الله سبحانه زوجات النبى فى الآيتين 32- 33 من سورة "الأحزاب" بوصفهن من أهل البيت فقال: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، اللهم إلا إذا مزقنا رباط الآيات وفككناها لتذهب منا شَذَرَ مَذَرَ كما يفعل مفسرو الشيعة تخلصا من دخول نساء النبى عليه السلام فى أهل البيت؟
ويا ليتهم قد وقفوا هنا، بل مَضَوْا بكل أسف يخرجون معظم الصحابة من الدين ولم يُبْقُوا به إلا على من رافأ عليا كرم الله وجهه. ولو جرينا على هذا النهج لأمكن إخراج جميع المسلمين من دينهم، إذ مَنْ مِن الناس لم يخرج فى هذا الأمر أو ذاك على ما تقتضيه أوامر الإسلام أو نواهيه؟ كذلك فالخوارج محقون فى القول بأن الحكم لا يورَث، بل هو شورى بين المسلمين . صحيح أن الأمر فى التاريخ قد جرى على خلاف ذلك. بيد أننا إنما نتحدث الآن فيما ينبغى وكان ينبغى أن يكون لا فيما وقع وكان. لكنى مع هذا لست مع الخوارج فى تنطعهم وخروجهم على علىّ بن أبى طالب والعيب عليه والظن السىء فيه وفى دينه وتصورهم أنهم يفهمون الإسلام، وهو لا يفهمه، وأنهم أعظم تدينا منه. خيبة الله على التنطع والغباء وضيق الأفق. ومن الواضح أنهم يناقضون الشيعة مناقضة شديدة.
ولو حاولت الآن أن أعرف كيف تم انعتاقى من شرنقة المذاهب لكان أول ما ينبغى أن أتذكره وأذكره هو وعيى لأول مرة فى الثانية عشرة أن قريتنا تدين فقها بالمذهب الشافعى. كان ذلك حين تقدمت إلى المعهد الأحمدى بطنطا فى العام الدراسى 59- 1960م، إذ رأيتهم يذكرون فى أوراقى الرسمية أنى شافعى المذهب. وهذا مسجل أيضا فى الشهادة الإعدادية التى حصلت عليها من المعهد المذكور والتى كانت آخر عهدى بالأزهر. أما القرية المجاورة لقريتنا فمالكية. وكان لكل مذهب كتابه الفقهى الذى يدرسه الطلاب المنتسبون إليه. وقد تنبهت، بعد أن حصلت على الدكتوراه، أن صيغة التشهد عندهم تختلف فى بعض الكلمات عن صيغتنا. كذلك أذكر، وأنا فى الإعدادية، أننى صليت المغرب ذات مرة خلف طالب من دار العلوم أصله أزهرى، فكنت أقرأ الفاتحة بعد أن ينتهى هو من قراءتها فى الوقت الذى لم يترك هو مسافة زمنية بين الفاتحة والسورة القصيرة التى كان يقرؤها فى الركعتين الأُولَيَيْن بعدها. وقد سألنى بعد الصلاة باستنكار عن الحكمة من قراءتى الفاتحة وأنا مأموم، فقلت له: لأن قراءتها ركن فى الصلاة بحيث تبطل إذا لم أفعل. فأفهمنى أن قراءة الإمام فى الركعات الجهرية تجزئ عن المأموم، فلم أقتنع. لكننى عرفت عقيبها أنه حنفى المذهب. فكان هذا درسا لى فى اتساع الأفق ما دامت المذاهب مختلفة فى بعض التفاصيل، وكلها مقبولة عند الله. وحين دخلت الجامعة قرأت عند الشيخ محمد عبده وغيره أن التيمم يجوز لمطلق السفر سواء وُجِد الماء أو عدم رغم ما كنت أعرفه من الفقه الشافعى أنه لابد من انعدام الماء فى السفر حتى يصح التيمم. لكنى عندما تفكرت فى الأمر ألفيت محمد عبده أصح فهما للمسألة.
وفى هستنج كنت أسكن مع أسرة بريطانية، ومعنا شاب إيرانى أرسله أبوه ليتعلم الهندسة هناك. ورغم أنه لم يكن يصلى أو يصوم فقد عرفت منه أن الشيخ فى المسجد عندهم فى إيران قد علمهم أن التيمم يكون بالمسح على الوجه واليدين فقط دون أن نصل بالمسح إلى المرفقين. وفى البداية بدا لى الأمر غريبا، إذ كان كتاب الفقه الشافعى الذى درسته فى الأزهر يقيس مسح اليدين فى التيمم على غسل اليدين إلى المرفقين فى الوضوء. لكن سرعان ما ألفيت الآية لا تقول شيئا من ذلك. إنما هو فهم بعض الفقهاء. ولما ذهبنا للحج للمرة الثالثة، أيام كنت أعمل بتربية الطائف فى النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم أردنا أن نعرف تفصيل شعائره فى المذاهب المختلفة، فتبين لنا أن هناك من لا يوجب المبيت بمنى ومن لا يوجب تحديد رمى الجمار بالزوال، فأخذنا بهذا وذاك تيسيرا على أنفسنا ومن معنا من النسوة والأطفال. بل كنت أقوم نيابة عن كل أفراد أسرتى برمى الجمار وفَشّ غِلِّى كله فى اللعين ابن اللعين... وبهذا انهدم الاستمساك الأعمى بمذهب بعينه فى الفقه. وعلى نفس الشاكلة سار الأمر معى فى المذاهب الكلامية، وبخاصة عندما كنت بصدد تأليف كتابىَّ عن مذاهب التفسير ومناهجه، إذ انبسطت أمامى الآراء المختلفة للمذاهب الإسلامية والفِرَق الكلامية فى تفسير كتاب الله، فصرت لا أبالى بأى الآراء أخذت ما دمت مقتنعا به ويقبله تفسير الآية دون تمحك أو تمحل. بل كثيرا ما يكون لى تفسيرى الخاص بالنص مؤسسا على الدليل الصلب والشواهد الكافية والروح العامة للدين.
وهكذا يرى القارئ أننى مسلم، وكفى. لكن هل معنى هذا أننى أمثل الإسلام الصحيح مائة فى المائة؟ أكون مغرورا إن قلت: "نعم" رغم تصورى أننى أفهم الإسلام فهما سليما. لكنى مع هذا أعرف أنه ما من إنسان يمكنه أن يمثل فكرة ما تمثيلا دقيقا تامّ الدقة، إذ هناك دائما فجوة بين النظر والعمل، وفجوة أخرى بين الحقيقة وتصورنا لها. إننا جميعا ندندن حولها، أما هى فبمثابة امرأة مختفية خلف نقاب، فضلا عن أننا لا نستطيع الكلام إليها إلا من وراء حجاب. ومع اجتهادنا فى معرفة ملامحها لا نستطيع الادعاء بأننا متأكدون من تلك الملامح. وإنى لعلى يقين من أنه سوف يأتى اليوم الذى ينتقدنى فيه المنتقدون قليلا أو كثيرا حسب اتجاه كل ناقد. ولماذا أقول: "سوف"، وأنا من الآن أسمع أصواتا انتقادية لا ترى لى فضلا كبيرا، وربما: ولا فضلا صغيرا، على الإطلاق فى دراساتى وبحوثى؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك تقاطعات متعددة بينى وبين د. ندوى. إلا أنى أختلف عنه فى أنه، كما يصف نفسه، لم يعد يستطيع الغضب إلا إذا بذل جهدا فى أن يغضب، وذلك من كثرة ما اجتهد وهو شاب فى تعويد نفسه الهدوء والسكينة حتى نجح فى ذلك، وهو ما أفتقر أنا إليه، إذ إنى عصبى. وليس معنى هذا أننى نارى الطبع، بل معناه أننى كما أرضى أغضب، وكما أنفعل تمر على أوقات أكون فيها هادئا ساكنا. لكن فى كل الأحوال هو يتميز علىَّ بهذه الفضيلة. كما يتميز، طبقا لكلامه، بمراعاته المستمرة لما كان يفعله رسول الله فى حركاته وسكناته مما ليس فرضا على المسلم الالتزام به، وإن كان الأفضل التزامه. فأنا مثلا حين أدخل المرحاض قد أستعيذ بالله من الخبث والخبائث، وقد أنسى فلا أهتم بذلك...
وقد ذكرت الكاتبة، بناء على ما أخبرها به أكرم ندوى، أنه قد أثار غبارا كثيفا جراء إفتائه فى بريطانيا بأن ارتداء الطاقية فوق الرأس خلال الصلاة غير وجوبى، إذ هو مجرد عادة محلية عند الهنود المسلمين وأمثالهم، ولا علاقة له بقبول الصلاة أو عدم قبولها البتة. وهو كلام صحيح تماما دون أى نقاش. والرأس ليست داخلة فى عورة الرجل بأى حال. وأقصى ما تبلغه العورة الذكورية أثناء الصلاة فى المذاهب الفقهية الإسلامية هو المساحة التى تقع بين السرة والركبة. فأين هذا من الرأس حتى يظن الظانون أن تغطيتها جزء من شعائر العبادة؟ بل إن هناك من يقصر عورة الرجال فى الصلاة على السوأتين ليس إلا. وأيا ما يكن الحال لقد كان ينبغى أن يطالب المعارضون الرجل بالدليل الذى يستند إليه وألا يركنوا إلى الغباء والتنطع فيحولوا الحبة قبة ويجعلوا من التراب الذى يخرجه حيوان الخلد من جحره تلا ضخما كما يقول المثل الإنجليزى. والملاحظ أن جماهير المسلمين، بتأثير من الوعاظ والدعاة الشعبيين التافهين المتنطعين الذين يبحثون عن جماهيرية زائفة أو الذين يعملون بوحى من ترتيب خارجى يصب فى مصلحة أعداء الإسلام عن طريق شغلهم بالتفاهات عن لباب الدين وجوهره الأصيل، قد حولوا الدين إلى طقوس وأشكال وممارسات فولكلورية مضحكة، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. وقد كنت، فى صباى وشبابى أيام صعودى المنبر لأخطب الناس يوم الجمعة متصورا، حُمْقًا منى وخُرْقًا، أن لدىَّ ما يمكننى أن أفيد به الناس فى دينهم ودنياهم، أضع على رأسى طاقية أو أعصبها بمنديل، وإلا تعرضت للاحتجاج والنكير وظَنّ من يصلّون خلفى أن صلاتهم باطلة. وكنت، حين أصنع ذلك، إنما أجارى الجو لا غير. والآن، بعدما عقلت وأفقت من أوهامى السابقة، لم أعد أصعد منبرا ولا أفكر فى وعظ أو دعوة. وماذا أستطيع أن أفعل، والعوام المسلمون يظنون أنهم أعرف منك بالدين وأقوم سبيلا وأهدى منهجا، ويفهمونها وهى طائرة؟ وبالمناسبة فالدكتور ندوى يرتدى فى الصور التى رأيتها له على المشباك طاقية فوق رأسه وملابس بلاده رغم فتواه بصحة الصلاة من دون غطاء رأس. وقد كنت وأنا طفل وصبى بالقرية ألبس أنا أيضا طاقية، لكن من طراز مختلف، ثم لما كبرت قليلا خلعتها ولم أعد إليها بتاتا بعد هذا.
كذلك أثار د. ندوى عليه مسلمى بلاده فى بريطانيا حين بين لهم أن قص المرأة المسلمة شعرها متى أرادت لا غبار عليه ولا حرج فيه، إذ كيف يقول ذلك والمرأة الغربية تقص شعرها؟ أفيريد من المسلمات أن يتشبهن بالغربيات الكافرات؟ والحق أننى، حين أقرأ أمثال تلك الحكايات، تشتعل النار فى جسدى وعقلى ونفسى، وأتساءل: أية لُوثَةٍ اعترت العقل الإسلامى حتى وصل إلى هذه الدرجة من التساخف؟ وقد سبق أن أثار الشيخ محمد عبده هوجة هائلة عندما أفتى منذ أكثر من قرن بجواز لبس المسلم القبعة فى الصلاة. وها نحن أولاء بعد كل تلك العقود المتطاولة لا نزال نراوح أمكنتنا: مَحَلَّك سِرْ! ترى ما وجه الخطإ فى أن تقص المرأة المسلمة شعرها مثل المرأة الغربية؟ أهى تتشبه بها فى الانحلال الجنسى مثلا أو فى الكفر والإلحاد؟ أبدا. ثم إن المرأة الغربية تأكل وتشرب وتنام وتمشى وتطبخ وتتكلم مع زوجها وتمارس الجنس معه وتربى أولادها وتتعلم وتقرأ وتكتب، فهل يحرم على المسلمة ان تفعل ذلك نأيا بنفسها عن تقليدها؟ كذلك فالمرأة الغربية تضع الطعام حين تأكل فى فمها، وتتنفس حين تتنفس من منخريها، وتسمع بأذنيها وتبصر بعينيها، فهل يتوجب على نظيرتها المسلمة أن تقلب أمرها رأسا على عقب توخيا لمخالفتها، فتسمع بفمها وتأكل بعينيها وترى بأذنيها ولا تمشى على قدميها بل على رأسها وتتنفس من منخر واحد فقط مع سد الفتحة الأخرى بالأسمنت والرمل والزلط اتباعا للمثل القائل: المنخر الذى يجىء لك منه الريح، سُدَّه لتستريح؟ ألا إن هذا لهو العجب العجاب.
ومع هذا فقد اضطر د. ندوى إلى الاستشهاد بما صنعته نساء النبى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من قصهن لشعورهن. وهذا هو الحديث كما وجدتُه فى "صحيح مسلم": "كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ". وكان يكفى أن يقول للمتنطعين إن الدين لم يتعرض لذلك الأمر بخير أو شر، فهو إذن باقٍ على حِلِّيَّته جريا وراء القاعدة الفقهية التى تقول: ما سكت عنه الشرع فهو عَفْو. أى أنت فيه بالخيار، ولا إثم عليك: فَعَلْتَه أو لم تفعله. لكن إياك، عزيزى القارئ، والظن بأن المسألة قد حُلَّتْ هكذا، فها هو ذا شيخ مطمطم يزيد المسألة تعقيدا وإرباكا وتفصيصا وتفعيصا كأنه إزاء فتح عكا، إذ يقول ما نصه: "قص المرأة شعر رأسها إن كان على وجهٍ يشبه أن يكون كرأس الرجال فإن هذا حرامٌ ولا يجوز. بل هو من كبائر الذنوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء. وأما إن كان على وجه يخالف ما يكون عليه من شعر رؤوس الرجال فإن المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله أن ذلك مكروه. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك محتجا بما يروى عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يقصصن رؤوسهن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون كالوفرة. ولكن أجيب عن ذلك بأنهن يفعلن هذا من أجل أن يُعْلَم عزوفهن عن الأزواج لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يحل لأحدٍ أن يتزوجهم كما قال الله تعالى: "ولا يحلّ لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تَنْكِحوا أزواجَه من بعده أبدا. إن ذلكم كان عند الله عظيما". وقول السائل إنها لا تريد التشبه ينبغي أن يعلم أنه إذا حصلت المشابهة حيث لا تحل فإنه لا يشترط فيها القصد لأن المشابهة صورة شيءٍ على شئ فلا يشترط فيها القصد. فإذا وقعت المشابهة على وجهٍ محرَّم فإنها ممنوعة سواءٌ قصد ذلك الفاعلُ أم لم يقصده. وكثيرٌ من الناس يظنون أن المشابهة المحرمة لا تكون محرمةً إلا بالنية والقصد. وهذا خطأ، بل متى حصلت صورة المشابهة المحرمة كانت محرمة سواءٌ قصد الفاعل هذه المشابهة أم لم يقصدها".
لقد سد سيدنا الشيخ، كما نرى، كل المنافذ وخنقنا خنقا دون أية بارقة من الأمل فى التنفيس عنا. ثم انظر تنطعه حين يقول إن أمهات المؤمنين إنما قصصن شعورهن كى يعلم الناس أنهن لا يفكرن فى الزواج. الله أكبر! وكأنهن إذا لم يفعلن ذلك سوف يتوافد الخطاب على الأبواب طالبين أيديهن. ترى ماذا يمكن أن يقال لهذا التنطع؟ أيمكن أن يدور فى عقل مسلم أن يفكر مجرد تفكير فى التقدم لخِطْبة أية من أمهات المسلمين؟ إن هذا خروج ساطع على نهى القرآن المجيد للمسلمين أن يتزوجوا نساءه رضى الله عنه بعده، اللهم إلا إذا فقد الصحابة عقولهم وصاروا جهالا بدينهم إلى مدى لا يحتمل. ولو افترضنا أن هذا يمكن أن يكون، وما هو بممكن، فكيف ظنت أمهات المؤمنين أن الزواج بهن جائز فأحببن من ثم أن يقطعن الطريق على كل من يخطر له ذلك؟ وعلى كل حال كيف يشغل الشيخ وأمثاله أنفسهم بهذا الأمر إلى هذا الحد المعنت، وهو لا يقدم ولا يؤخر، إذ المرأة المسلمة التى تقص شعرها إما أن تكون من اللاتى يغطين رؤوسهن طبقا لأمر الدين فى مسألة التحجب أو لا: فإن كانت الأولى فالعبرة فى أنها تلتزم أمر ربها ورسوله فتغطى شعرها حتى لا يراه غير المحارم، ومن ثم لا تكون متشبهة بالمرأة الغربية، إذ المرأة الغربية لا تعرف شيئا اسمه التحجب. ولا يهم بعد ذلك ما تفعله المسلمة بينها وبين زوجها وسائر محارمها، إذ هى حرة آنذاك ما دامت لا تنكشف على غير المحارم. وإما أنها لا تلتزم بأمر دينها فيما يخص تلك المسألة، فهى تكشف رأسها وشعرها أمام غير محارمها، وفى هذه الحالة تكون آثمة لتعرية هذا الجزء من رأسها لا لقصها شعرها، إذ العبرة كما قلنا بالتزام الواجب لا بممارسة المباح الذى يحق لها أن تفعله أو لا تفعله. ومن هنا نرى أن المسألة لا تعدو أن تكون زوبعة فى فنجان. أرأيتم الآن لماذا تخلف المسلمون وما زالوا يزدادون تخلفا؟ ذلك أنهم شغلوا أنفسهم وعقولهم وحياتهم كلها بهذه التوافه، وتركوا أهل الغرب يركبونهم ويضربونهم بنعالهم لما يَرَوْنه من ضعفهم وهوانهم وتخلفهم وعجزهم عن مجاراتهم واعتمادهم فى كل شىء تقريبا عليهم بالإضافة إلى الفروق الهائلة الشاسعة التى تفصل بين الغربيين فى السماء السابعة والمسلمين فى الحضيض فيما يخص أمور الدنيا من قوة وصناعة وعلم ونظام ونظافة وتخطيط وطموح إلى المعالى والتفوق والسيادة وإتقان وحرص على أن يكون كل شىء يخصهم جميلا معجبا وممتعا.
ومن مظاهر هذا التساخف فى السنوات الأخيرة بمصر، حسبما لاحظتُ، انتشارُ عبارة "إن شاء الله" لدى الحديث عن الماضى أو الحاضر أو الوضع الدائم الذى لا يتغير، كقولهم مثلا: أتيت الأسبوع الماضى من القرية إن شاء الله، أو أنا أقطن حدائق القبة إن شاء الله، أو أنا هذا العام فى السنة الثالثة إن شاء الله، أو أنا فلان إن شاء الله، أو اسمى كذا إن شاء الله. ثم زادوا فى الطنبور نغمة فقالوا: فلان المرحوم إن شاء الله، أو المغفور له بإذن الله. وكأنك هنا تَسُوق خبرا ولا تدعو الله أن يغفر لفلان أو يرحم فلانا. وغاب عن المتنطعين قول الرسول: "إذا دعا أحدُكُم فلْيَعْزمِ المسألةَ، ولا يقولنَّ: اللَّهمَّ إن شئتَ فأعطني، فإنَّهُ لا مستَكْرِهَ لَهُ"، "لا يقولَنَّ أحدُكُم: اللَّهمَّ اغفِر لي إن شِئتَ، اللَّهمَّ ارحمني إن شِئتَ. لِيَعْزِمِ المسأَلة، فإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ". فإذا كان هذا هو قول الرسول فهل بعد قول الرسول قول؟ خيبة الله على التنطع والمتنطعين! والمضحك المبكى فى الأمر أنك حين تقول لأحد هؤلاء المتنطعين: لماذا تقول فى هذا السياق: إن شاء الله؟ فيجيبك وهو يظهر التقوى والورع والوقار مع أن كل ما فيه ينضح بالغباء والجهل: إنى أقدم المشيئة اتباعا لأمره تعالى: "ولاتقولَنَّ لشىء إنى فاعلٌ ذلك غدا إلا أن يشاء الله"، فأقوم أنا بهجوم مضاد من جانبى قائلا: لكن ذلك إنما يتعلق بما سوف يحدث غدا. فيقول فى تنطع لا يحتمل: "للمزيد من التحرز". ألا تعسا للأغبياء المغفلين!
وكنا، ونحن فى بريطانيا فى سبعينات القرن الماضى، نتلقى بين الحين والحين مطبوعات صغيرة ترشد المسلم إلى كيفية تحرى الطعام الحلال. وهو أمر طيب ومشكور، لكن بعض المسلمين كانوا يغالون مغالاة سمجة كأن يحرموا شراء اللحم من الجزارين البريطانيين، فيقال لهم إن طعام أهل الكتاب حِلٌّ لنا، لتأتى الإجابة على نحو لا يتوقعها أى عبقرى لأنها لا يمكن أن تخطر إلا لذهن يريد التضييق والتنكيد على عباد الله متلذذا بذلك تلذذا مرضيا، إذ تقول الإجابة: أليست السكين التى يقطع لك بها الجزار الإنجليزى لحم البقر أو الجاموس أو الغنم الذى تظنه حلالا بلالا هى نفس السكين التى يقطع بها لزبائنه غير المسلمين لحم الخنزير. وأضحك من أعماق قلبى قائلا لنفسى: فعلا، فاتتنا هذه، بل فاتت سيدنا النبى، الذى لم يذكرها فى أحاديثه. لكن بالله ألم يكن سيدنا محمد عليه السلام يعلم ذلك، ورغم هذا أحل طعامهم لنا؟ ثم هل سيأكل المسلم اللحم الذى اشتراه دون أن يغسله؟
كذلك أنا مع د. ندوى فى دعوته الملحة لطلابه الذين يعقد لهم دروسا خاصة يعلمهم فيها أمور دينهم والذين يفدون عليه رجالا ونساء وشبانا وفتيات من كل أنحاء بريطانيا بالاعتماد على أنفسهم فى التفكير والتحليل والتفسير والرجوع مباشرة إلى القرآن والحديث ذاتهما دون أن يتركوا أقاويل الفقهاء والمفسرين تتدخل بينهم وبين هذين المصدرين فتعرقلهم عن تشغيل عقولهم. وأنا فى محاضراتى أحاول محاولات مضنية تحريك عقول طلابى وطالباتى، الذين تعودوا على الدروس الخصوصية فى المنازل والمراكز التعليمية حيث يحفظِّهم المدرس الخصوصى الفتات الضئيل الذى لا يعرف هو نفسه غيره تقريبا، فيحفظونه ويرددونه كما هو دون تفكير بل دون فهم فى كثير من الأحيان وينجحون فى الامتحان محرزين درجات عليا لم نكن نحن نحصل عليها رغم أننا كنا أفضل تعليما وأعكف على العلم وأقرأ للكتب حتى إن أوائل الجمهورية فى القسم الأدبى فى امتحان التوجيهية على أيامى مثلا كانوا لا يتجاوزون منتصف الثمانين بالمائة على حين يقتربون الآن من النهاية الكبرى فى الدرجة، وحتى إنى أنا الذى أحرزت المركز الأول فى مادة اللغة العربية فى التوجيهية فى منتصف ستينات القرن الماضى لم أحصل على أكثر من 46 درجة من خمسين بينما نظيرى الحالى كفيل بالحصول على الدرجة النهائية.
والمؤلم أن طلبتى عموما يكرهون هذا الاتجاه ولا يُقْبِلون على المحاضرات كما أتوقع رغم تصفيقى لمن أشعر أن عنده شيئا مهما ضؤل، ومكافأتى بالحلوى والشيكولاتة والكيك والفلوس من يشارك فى المحاضرة بالسؤال والجواب على ما أطرحه من أسئلة والثناء الجم عليه، وتكريرى القول بأنى أستفيد من كل طالب وأتعلم منه ومن أسئلته وأن كثيرا من كتبى قد تم تأليفها انطلاقا مما يثار فى المحاضرات وأننى لست سوى طالب علم مثلهم رغم ما قرأته من آلاف الكتب وألّفته من عشراتها ورغم سنوات عمرى التى تشارف السبعين. بل إن بعضهم يقول لى بصراحة تامه كلما حدثتهم عن وجوب القراءة خارج الملخصات والرجوع بأنفسهم إلى الكتاب الذى ألفتُه لهم والذهاب إلى المكتبة للاستزادة من العلم: إنهم يكرهون القراءة ويصيبهم الصداع كلما فتحوا كتابا. وعبثا أُفْهِمهم أنه لا تحضر ولا تقدم ولا قوة ولا سعادة حقيقية بدون القراءة. وعبثا أقص عليهم آيات القرآن وأحاديث الرسول حول أهمية القراءة وتحصيل العلم فى الإسلام من مثل وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم تواضعا وإكراما، واستغفار الأسماك فى البحار له، وإعلاء شأنه على العابد، ومساواته بالمجاهد فى سبيل الله. كما أننى أجتهد بكل طاقتى فى تشجيعهم على التفكير المستقل، لكن دون أن يهملوا ما قاله علماؤنا القدامى بل لا بد من عودتهم إليه وقتله بحثا وتقليبا ثم التفكير بعقولهم هم بعد أن تكون قاماتهم قد طالت جراء وقوفهم فوق جهود أولئك العلماء العباقرة الذين دائما ما أقول لطلابى إننى على استعداد لأن أجلس فى تواضع تام عند أقدامهم وتقبيلها مع احتفاظى بفكرى مستقلا تمام الاستقلال رغم هذا.
ولعل هذه نقطة الخلاف الوحيدة بينى وبين د. الندوى، فهو يريد من طلابه، كما فهمت من كلام كارلا باور الصحفية الأمريكية التى ترجمت له، أن يقصدوا إلى القرآن رأسا دون التعريج على ما قاله العلماء، مهملين تلك الغنيمة الباردة التى أتتهم جاهزة لمعونتهم، فكأنه يريدهم أن يبدأوا من نقطة الصفر مع أن العلم ككل شىء فى الدنيا هو تراكمات وطبقات: كل طبقة منه تضيف شيئا. ومن شأن الاطلاع على تلك التراكمات، التى صنعتها هذه العقول الكبيرة، أن يزيد علمك بالنص القرآنى غنى، وشعورك بقدرتك على الفهم اتساعا وعمقا، وحريتك على الانتقاء والاختيار قوة واستحصادا. ثم أنت بعد ذلك بالخيار: تستطيع أن تختار أحد الآراء أو أن تؤلف بين هذا أو ذاك أو ذلك منها أو أن تختط طريقا جديدا. وسوف يساعدك على هذا تحققك بنفسك من خلال هذه الخطوة أن الآراء كثيرا ما تختلف وتتفاوت فى تفسير النص القرآنى بما يعزز عندك ميلك إلى الاستقلال ما دام ذلك النص لا يعرف تفسيرا واحدا لا غير. أما البدء فى كل من مرة من جديد دون الاطلاع على ما قاله السابقون فيجردك من هذه الفرصة العظيمة ويوقفك وحيدا أمام النص دون معونة من أحد. ونحن نعرف أن النص القرآنى نص ثرى ذو جوانب متعددة وأبعاد عميقة. فكيف تواتى الإنسانَ نفسُه على إدارة ظهره لهذا كله؟ وإذا كنا نحن الأساتذة بسننا الكبيرة وتجربتنا الطويلة ولغتنا العربية التى تَعَمَّقْنا وتخصَّصْنا فيها نحرص، عند دراسة القرآن، أشد الحرص على الاطلاع على أكبر قدر من التفاسير فما أحرى الطلاب أن يفعلوا ذلك حتى لا يضلوا أو على الأقل: حتى لا تفوتهم تلك الفوائد العظيمة. وإذا كان محمد عبده، كما قال هو نفسه، قد رجع إلى عدد من كتب التفاسير ليتبين له وجه الصواب فى أن السفر مطلقا يجيز للمسلم أن يتيمم حتى لو توافر الماء، فما بالنا بطلابنا بصغر سنهم وقلة اطلاعهم، وبخاصة إذا كانوا طلابا غير عرب كما هو الحال مع طلاب د. ندوى؟ ولكن ثمرة كلامى مع طلابى، فيما أرى، ضئيلة مزعجة الضآلة بوجه عام. وعبثا أُفْهِمهم أن الحساب سيكون عسيرا يوم القيامة على كل من كان فى استطاعته أن يقرأ ويتثقف ولم يفعل. فإذا صح ما تقوله الكاتبة عن تحمس طلاب أكرم ندوى لطريقته وانطلاقهم فى القراءة والاستقلال الفكرى تبعا لتوجيهاته فإن د. الندوى أفضل حظا منى رغم أنى أجد طريقتى أحرى بأن تقودنا، لو طبقناها، إلى ما لا يستطيع الإنسان وحده أن يلتقطه من جواهر الأفكار، إذ إن طلابه يثنون عليه وعلى منهجه فى التدريس كثيرا أمامها. أما أنا فالذين يحبون محاضراتى من طلابى قلة.
لكن لا ينبغى أن ننسى الفارق الكبير بين بريطانيا ومصر فى الفترة الحالية التعيسة من تاريخ العرب والمسلمين. ولا ننس أيضا أن د. الندوى، من خلال ما فهمتُه من ترجمة الكاتبة له، أطول بالا منى وأصبر وأهدأ طبعا وأقل عصبية. صحيح أن من طلابى من يقول لك عنى: إن طريقة تعليم هذا الدكتور لنا طريقة ممتازة، وإننا قد صرنا نقرأ بفضل استحثاثه إيانا ونخسه لنا، لكنهم فيما أتصور قليلون جدا. ولكن قرائى على المشباك (النت) كثيرون، أو بالأحرى: كانوا كثيرين، وإن تقلصوا بعد ثورات الربيع العربى، التى فشلت كلها تقريبا حتى الآن. لقد فهمت من كلام كارلا باور أن طلابه وطالباته الخصوصيين فى بريطانيا هم بلديوه وبلدياته، أى من جنوب قارة آسيا، بيد أنه لا ينبغى أن يغيب لحظة واحدة عن الخاطر رغم هذا أنهم يعيشون فى بريطانيا، فضلا عن أنهم قد حصلوا على شهادات جامعية، فهم خريجون لا طلاب ليسانس وبكالوريوس صغار قليلو الخبرة والتجربة والثقافة. كما أنهم يقبلون على دروس الدكتور الدينية برغبة شخصية منهم، فهم محبون لما يسمعون. أما عندنا فحين أدخل قاعة المحاضرة فى الجامعة فكأنى قد أقبلت على عشة فراخ هيصة وزمبليطة ومشيا فوق البنشات وأوراقا وأكياسا فارغة، فضلا عن تناثر علب المشروبات ولفائف الساندويتشات الفارغة فى كل مكان، وبخاصة فوق البنشات، مما يضيِّق صدرى رغم ما أردده بينى وبين نفسى وأنا فى طريقى إلى القاعة من وجوب التحلى معهم بالصبر وطول البال، فأجدنى غصبا عنى أنفعل وأصر على تنظيف المكان ولو ظاهريا. المهم أن يبدو لى مكان الدرس وكأنه نظيف حتى لو اكتفَوْا بإزاحة الزبالة من فوق البنشات إلى ما تحت أقدامهم بعيدا عن عينى فقط. ناهيك عن سرعة مللهم ونفورهم من أى شىء جاد وانصرافهم فى أول فرصة عن متابعة ما نقول عبثًا بالمحمول أو مسارَّةً مع زملائهم أو سرحانهم مع لاشىء.
إلا أننى لا أفهم موقف د. ندوى من الأمر التالى، فقد اتصلت به أسرة مسلمة فى بريطانيا فزعة أشد الفزع لاكتشافهم أن ابنتهم العَزَبَة حامل، فكان رأيه أن الله هو الذى يحاسب الخطاة فى الآخرة (إلى هنا ولا خلاف بيننا)، وأن الأهل عليهم مساندة ابنتهم لا الحكم عليها (الجزء الأول من هذا الكلام أفهمه وأتقبله، ولكن الجزء الأخير غير واضح، إذ ما معنى الحكم عليها هنا؟ إذا كان يقصد حكم الأسرة عليها بالقتل وتنفيذ هذا القتل كما نسمع أحيانا عن بعض المسلمين المقيمين بأوربا غسلا للشرف الملطخ فأنا أيضا معه لأن هذه مهمة السلطات لا الأهل. أما إذا كان يقصد ألا تحكم الأسرة عليها بأنها آثمة فهذا ما لا أوافقه عليه. لقد أثمت البنت فعلا، وإن لم يعن هذا أن الله سوف يعاقبها فى الآخرة بالضرورة، فقد يتوب عليها ويردينا نحن فى النار لدواعٍ يعلمها هو وحده). لكن أكرم ندوى صمت عن الحد الذى يطبق فى هذه الحالة ولم يقل لنا: كيف نتصرف؟ فبدا الأمر وكأنه لا يعتقد فى الحدود.
لا أقصد أن الأسرة يجب عليها إخبار السلطات حتى تطبق على ابنتهم العقوبة التى حددها الدين؟ وهذا إن كانوا فى بلد مسلم يطبق الشريعة، وهو ما لا يتوافر فى حالتنا هذه، إذ البنت وأهلها يعيشون فى بريطانيا حيث لا شريعة ولا يحزنون، بل حيث الحرية الكاملة تقريبا فى أمور الجنس من كل نوع بعد البلوغ. بل إنى أحبذ الأخذ فى هذا الموضوع بما قاله الرسول لرجل رأى زانيين فجاء متحمسا يخبره بما شاهد، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: هلا سترتَهما بثوبك؟ وجاءه ذات مرة أحد المسلمين يقر بانه زنى، فأخذ يسأله: لعلك قبَّلتَ؟ لعلك فاخَذْتَ؟ هل أنت مجنون؟ وهو ما أفهم منه أنه عليه الصلاة والسلام يومئ من طرف خفى أن ينصرف الشاب ويتوب إلى الله وينتهى الأمر عند هذا الحد بدلا من توقيع الحد، والحد شديد. وهناك واقعة أخرى، إذ جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة تعترف بأنها اجترحت الزنا، فكان أن أجل الكلام فى أمرها إلى أن تضع حملها، فلما وضعت عادت إليه فكان أن طلب منها أن تذهب فترضع وليدها إلى أن يحين وقت فطامه. والملاحظ أنه لم يقل لها مثلا: "لا تَنْسَىْ أن تأتى حتى أوقع بك الحد" أو يكلف أحدا ممن حوله بمتابعة موضوعها واستدعائها حين تفطم وليدها كى يُحِدّها، بل اكتفى بصرفها من حضرته، فكانت تعود هى من تلقاء نفسها فى كل مرة بغية تلقى العقاب، وهنا لم يجد صلى الله عليه وسلم فى نهاية الأمر بدا من الأمر بحدها قائلا ما معناه أنها قد تابت توبة تكفى أهل الأرض جميعا. ولا أظنه كان يطلبها لو لم تأت من تلقاء نفسها. كما أن عُمَر رضى الله عنه قد هدد أسرة كانت لها ابنة عملت ما عملته هذه الفتاة وحُدَّت فى الإثم الذى اجترحته، ثم تقدم شاب لخِطْبَتها فارتبكت الأسرة وفكرت فى أن تخبر الخاطب بما حصل، لكنهم قبل تنفيذ ما اعتزموه أرادوا أن يستشيروا عمر، فكان أن أمرهم بالستر على الفتاة وتزويجها زواج المحصنة مهددا إياهم بالعقاب لو خالفوا عن هذا.
فكان ينبغى أن يتطرق د. ندوى إلى هذه الجوانب بدلا من الاكتفاء بما يُفْهَم منه أنه لا يوجد فى أمر تلك الفتاة إلا العقوبة الأخروية. وكان الله يحب المحسنين! ثم شىء آخر شديد الأهمية والخطر. ألا وهو: ما مصير الجنين الذى فى بطن الفتاة؟ ماذا سيفعلون به؟ أسيتركونه حتى ينزل؟ أم هل سيجهضون الفتاة؟ وإذا كان إجهاض أفليس هذا إثما أشنع؟ وإذا تركوه حتى يرى نور الحياة فإلى من سينسبونه؟ هل سيرضى الشاب الذى زنا بالبنت أن يتزوجها ولو مؤقتا فيُعْزَى إليه المولود وتنحل المشكلة الخاصة بالولد؟ أم هل سيكون نذلا جبانا كما يحدث كثيرا فى مثل تلك الحالة ويرفض إصلاح غلطته تاركا شريكته المسكينة لمصيرها التعيس؟ لقد ترك د. أكرم كل ذلك وحصر نفسه فى أن الأسرة لا ينبغى أن تحكم على البنت وأن عقاب الآثمة الصغيرة سيكون فقط فى الآخرة. ربما لم يكن فى ذهن الدكتور سوى المجتمع البريطانى حيث لا يجد الشعب ولا السلطات ولا القانون أى ضير فى زنا فتاة أو إجهاضها لنفسها أو فى تسمية الولد الذى سيأتى. لكن هل الدنيا كلها بريطانيا؟ وماذا عن الجالية الهندية أو الباكستانية المسلمة هناك؟ كيف ستواجهها البنت دون شعور بالعار والشنار بسبب الولد الذى ستضعه دون أن يُعْزَى إلى أبيه؟ وماذا سيكون موقفهم من الولد، وبخاصة حين يكبر ويريد أن يتزوج إحدى بناتهم مثلا؟
ومما أجدنى لا أتفق معه فيه أيضا قوله إن المسلمين الذين يشغلون الرأى العام بما تكتبه الصحف عنهم، يقصد النشطاء والمتشددين الإسلاميين وأمثالهم، يركزون على الرسول كزعيم سياسى، أما بالنسبة إليه هو فمحمد عليه السلام فى المقام الأول معلم يتحدث عن الجحيم وكيف ننقذ الناس منه، ولم يكن يدعو الناس إلى حيازة السلطة أو لإنشاء حكومة إسلامية، بل كان يعلم الناس شيئا واحدا هو كيفية نجاتهم من النار بالتزامهم الخطة التى وضعها الله لهم. كما أنه عليه السلام لم يُكْرِه أحدا على تغيير معتقده، بل كان التعلم عنده يقوم على الفهم والاقتناع لا الإجبار. كما كان يعرف حدوده كزوج فلم يُمْلِ على أية من زوجاته كيف تتصرف. وبالمثل كان يعرف حدوده مع الآخرين فلم يكن يتدسس إلى قلوبهم ليطلع على ما فيها ولا كان يسمح للآخرين بأن يفعلوا ذلك. ولا شك أن الرسول مأمور فى القرآن مرارا وتكرارا بألا يتدخل بين ضمير الشخص وربه، فهو ليس بحفيظ ولا مسيطر ولا وكيل على أحد، بل مجرد بشير ونذير لا نذير فقط كما هوواضح من كلام أكرم ندوى. وهذا فى الفترة المكية، أما فى المدينة فقد اختلف الوضع، إذ صارت هناك دولة تعمل على تطبيق الإسلام حتى لا يبقى مجرد دعوة فى الهواء لا يأخذها الناس مأخذ الجد، وأصبحت هناك علاقات سياسية مع غير المسلمين تنظمها المعاهدات والاتفاقيات، وأضحت هناك معارك وحروب داخلية وخارجية، وأمست هناك مؤسسات إدارية تنظم حياة المسلمين الشخصية والاجتماعية والأخلاقية طبقا لأوامر القرآن ونواهيه. فقول د. ندوى إن الرسول فى كل أطوار حياته لم يكن سوى معلم يعمل على إنقاذ الناس من النار فى الآخرة هو كلام غير دقيق ولا منضبط ولا مقبول. والقرآن، حتى فى مكة حيث لم يكن هناك سوى الدعوة والدعوة وحدها، لم يصفه بأنه نذير فحسب، بل قال: "بشيرا ونذيرا". أما إن كانت هناك بعض الآيات التى يقول فيها صلى الله عليه وسلم عن نفسه: "إنما أنا نذير مبين" فهناك آيات أخرى تركز فقط على التبشير. وكيف يكون النبى مجرد نذير، والقرآن والحديث مفعمان بالكلام عن الجنة أيضا وأوصافها وما فيها من وجوه النعيم المختلفة؟ كما أن الله غفور رحيم أكثر منه معاقبا جبارا، ورحمته سبقت غضبه، والحسنة فى الإسلام هى بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة بينما السيئة بمثلها لا غير، بل كثيرا ما تُمْحَى فلا تُذْكَر يوم الحساب. لكل هذا وغيره أجدنى مستغربا ما قاله أكرم ندوى فى هذا المضمار استغرابا بعيدا وشديدا. الواقع أن كلام د. ندوى فى هذا الصدد لا يعنى سوى أن الرسول لم يكن يجد أمامه طوال الوقت أينما اتجه غير المشركين والمنافقين واليهود والنصارى، ولهذا كان كلامه كله إنذارا، وكأنه لم يكن هناك مؤمنون على الإطلاق يستحقون الطمأنة والتبشير. ترى هل هذا معقول؟ ثم من يا ترى كان يرفع الشعار التالى: "بَشِّروا ولا تنفِّروا" ويوصى أتباعه به دائما؟ أليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وقد سبق أن قالت كارلا باور إن لشخصية الرسول عليه السلام جوانب مختلفة، وكل واحد من الذين كتبوا عنه ركز على الجانب الذى يرضيه أو يهمه: فهو رب أسرة، وهو زعيم سياسى، وهو قائد عسكرى... إلخ. فلو قال د. ندوى إنه يركز على الرسول كمعلم، ولكن دون أن يخرج الجوانب الأخرى من الاعتبار، لفهمت موقفه، لكن كلامه يعنى أنه ينكر قيام الرسول بإنشاء حكومة إسلامية أصلا. أفلم يكن الرسول هو حاكم دولة المدينة أولا ثم العرب جميعا بعد ذلك فى آخر حياته؟ ألم يكتب صحيفة المدينة كى ينظم علاقة طوائفها بعضها ببعض بوصفهم مواطنى الدولة الجديدة التى كان هو حاكمها؟ ألم يكن يقوم بالقضاء بين مواطنى تلك الدولة؟ ألم يكن يجّيش الجيوش ويقود المعارك؟ ألم يكن يقوم بتوزيع الغنائم والأنفال والصدقات؟ ألم يستقبل وفود العرب فى العام التاسع للهجرة؟ ألم يرسل الولاة والعمال لتدبير شؤون المناطق البعيدة عن المدينة من بلاد العرب؟ ألم يبعث بسفرائه إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام؟ ألم يبشر المسلمين بفتح فارس والروم والاستيلاء على القسطنطينية والانتصار على الأديان جميعا مع تحذيرهم فى ذات الوقت مخاطر الترف والانشغال الضار بالدنيا؟ أم تراه صلى الله عليه وسلم قد أخطأ حين أقام دولة تحت رئاسته ولم يتنبه أحد منا إلى ذلك الخطإ حتى جاء د. ندوى فنبهنا إليه؟ ألم يسر الصحابة على نهج الرسول فيحافظوا على الدولة التى أنشأها ثم زادوا فمدوا حدودها شرقا وغربا وشمالا؟ أم تراهم هم أيضا قد أخطأوا كما أخطأ الرسول؟ ثم إذا لم يُقِم المسلمون حكومة إسلامية فكيف يأمنون على أنفسهم وعلى دينهم فى دولة لا يحكمونها هم؟ ومن يضمن لهم أنهم لن يُمْنَعوا من ممارسة دينهم أو يُعْتَقَلوا أو يُقَتَّلوا أو يُعَذَّبوا؟ ولو لم يكن الرسول حاكما فى المدينة وكان عليها ابن أبى بن سلول مثلا، ثم أراد هذا المنافق سجن الرسول أو طرده من المدينة فماذا كان الرسول فاعلا؟
لقد كان اليثربيون على وشك تقليد ابن سلول المُلْك على مدينتهم لولا هجرة الرسول إليهم وتحول القيادة السياسية إليه. فأنا، حين قلت ما قلت عما كان هذا الرجل حريا أن يصنعه حين يكون الرسول واحدا من رعاياه، لا أفترض شيئا مستبعدا بل شيئا محتملا. ولقد ترك الرسول مكة هو وأتباعه حين وجد ألا مستقبل لهم هناك نظرا للتضييق البشع الذى كان يضيِّقه عليهم أهلها، فهل كان المفروض أن يظل عليه السلام متنقلا فى بلاد العالم مهاجرا من وجه الإجرام والطغيان بدلا من أن يفكر فى الحل الناجع الشافى الذى يمكن أن يضع نهاية لكل تلك المتاعب، وهو إقامة دولة إسلامية؟ ونحن نعرف أن الإسلام ليس مجرد نظام أخلاقى كالنصرانية مثلا يمكنه أن يتعايش مع الأوضاع السائدة فى المجتمع دون أن يعنى نفسه بتغييرها، بل هو دين شامل أتى بأنظمة مختلفة فى السياسة والاقتصاد والأخلاق والعبادات لا بد أن تطبَّق. فماذا كان الرسول فاعلا لو لم تكن للإسلام دولة؟ وأخيرا فكلام د. ندوى هنا يذكرنا بما جاء فى كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهرى على عبد الرازق، ذلك الكتاب الذى أقام العالم الإسلامى ولم يقعده من يوم صدر منذ نحو قرن حتى الآن، والذى يقول بعض من كتبوا عنه إن صاحبه قد عاد عن رأيه الذى عرضه فى هذا الكتاب قبل وفاته، وبعض آخر إنه ليس مؤلفه الحقيقى بل شخصا آخر أراد أن يتخفى وراء شيخ معمم حتى يكون لوقع كلامه فى العقول والنفوس تأثير كبير.
على أن هذا شىء، وانتهاج البعض سياسة العنف فى سبيل الوصول إلى سدة الحكم شىء آخر مختلف تماما، ودون أن يكون هؤلاء المتحمسون مستعدين للقيام بمهام الحكم مكتفين بما هم عليه من غشم وسذاجة وجهل سياسى ينتهى دائما بهم نهايات مأساوية، إن لم تكن غاية كثير منهم هى التسيد والتسلط والتجبر باسم الإسلام، والإسلام منهم براء. لقد ظل الرسول يدعو قومه فى مكة بالحسنى حتى أمسى طريق الدعوة مسدودا انسدادا مؤلما، فهاجر إلى المدينة حيث وجد استقبالا كريما، وترحيبا من أهلها نبيلا، واستعدادا للعمل تحت رئاسته زعيما سياسيا، وقائدا عسكريا، وقاضيا شرعيا. ولو كانت الانقلابات وسيلة مقبولة إسلاميا لانتهجها الرسول والمسلمون فى أم القرى بدلا من هجر مراتع صباهم وممتلكاتهم وأموالهم وأقاربهم ومغانى ذكرياتهم بكل ما يعنيه هذا من إيلام نفسى شديد وخسارة مالية فظيعة. أما فى المدينة فاختلف الأمر. ولو وجد صلى الله عليه وسلم الجو فى يثرب مثله فى مكة تلبدا وغيوما وانسداد أفق لهاجر منها كما هاجر من مسقط رأسه ولما فكر البتة فى إكراه أهلها على قوله حاكما. فيمكنك القول، وأنت مطمئن، إن الرسول قد حاز زعامته السياسية والدينية بما يشبه الديمقراطية، إذحين رفضه المكيون ترك لهم البلد مهاجرا إلى يثرب، التى قبلها أهلها زعيما وقائدا بملء حريتهم وإرادتهم.
ثم ما العمل أمام قوله تعالى فى النصوص التالية: "وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيتَ ويسلِّموا تسليما"، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول"، "وإنْ جَنَحُوا للسَّلْم فاجْنَحْ لها وتَوَكَّلْ على الله. إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ. هو الذى أيَّدك بنصره وبالمؤمنين"، "يا أيها النبى، حَرِّض المؤمنين على القتال"، "يا أيها النبى، جاهِدِ الكفارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم"، "براءةٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحجِّ الأكبر أن اللهَ برىءٌ من المشركين ورسولُه"، "كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؟ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"، "ما كان للمشركين أن يَعْمُروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر"، "يا أيها الذين آمنوا، إنما المشركون نَجَسٌ، فلا يقرَبوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وإن خفتم عَيْلَةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء"، "خذ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكيهم بها"، "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله"، "فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم. ولو كنتَ فظا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر. فإذا عزمتَ فتوكل على الله"، "وأطيعوا الله واطيعوا الرسول"، "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، "وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط"... إلخ؟ ولا داعى للاستشهاد فى هذا المجال بأحاديث النبى، فهى كثيرة ومعروفة.
ومن بين ما قالته كارلا باور أيضا فى كتابها الذى نحن بصدده والذى تترجم فيه د.أكرم ندوى إن التاريخ ليس نسخة واحدة بمعنى أنه إنما يعتمد على من يرويه، ومن ثم تتعدد رواياته بتعدد أصحابها حسب اتجاه كل واحد منهم. إلى هنا أنا معها، وإن كان هناك دائما من يحرصون على أن يذكروا الحقيقة كما بلغتهم مهم كلفهم ذكرها من أثمان وتضحيات. ثم ضربتْ مثلا على ما تقول من النساء المحدِّثات اللاتى كشف عنهن د. أكرم الحجاب فى عمله الضخم المكون من أربعين مجلدا بعدما ظللن وقتا طويلا بعيدات عن الأعين والآذان لا يحس بهن ولا بوجودهن أحد، وكأنما لم يعرف تاريخ الإسلام أن هناك نساء محدِّثات بالألوف، مضيفة أن ذلك كان كذلك لأن التاريخ الإسلامى إنما رواه الرجال. وهنا أحب أن أعترض على طريقة تفكير الكاتبة المعوجة، إذ كيف تتهم الرجالَ بإخفاء دور النساء فى مجال علم الحديث، والرجال هم، وهم وحدهم، الذين كتبوا عنهن وترجموا لهن ومدحوهن وأكبروا من شأنهن وذكروا ما لهن من فضل على الرجال وأبرزوا تلمذة كثير من الرجال لهن، إذ لا أعرف معجما أو موسوعة فى القديم كتبتها امرأة عن بنات جنسها من المحدِّثات أو من غير المحدِّثات؟ وأكرم ندوى، الذى كشف الحجاب عن هؤلاء النسوة كما تقول، أليس رجلا من الرجال؟
وقد فات الكاتبة أيضا أن السبب الذى منع هؤلاء النسوة من الاشتهار شهرة المحدِّثين الرجال كمالك والبخارى ومسلم والتزمذى مثلا أنهن لم يتركن وراءهن كتبا حديثية كالتى تركها هؤلاء المحدِّثون، فضلا عن أن هناك من الرجال المحدِّثين آلافا مجهولين لا يعرفهم أحد مثلما أن هؤلاء النسوة غير معروفات لأنهم لم يتركوا خلفهم كتبا تخلدهم كما فعلت كتب الصحاح والمسانيد وغيرها مع أصحابها. فهل نقول إن أمهاتهم أوزوجاتهم أو أخواتهم أو بناتهم هن المسؤولات عن هذا؟ كما فات المؤلفة كذلك أن أولئك النسوة المحدثات قد تلقين تشجيعا ودعما من آبائهن أو أزواجهن أو إخوتهن، وإلا لما استطعن، اللهم إلا فى حالات نادرة أو شاذة، أن يطلبن الحديث فيتعلمنه ويُعَلِّمْنه بدورهن للرجال والنساء.
وهنا أيضا مجال للكلام عن التقاطع بين جهود الرجل العلمية وما بذلته أنا كذلك من جهود فى إبراز دور المرأة فى مجال العمل العقلى، وإن كان تقاطعا صغيرا هذه المرة. لقد أعد د. الندوى موسوعة من أربعين مجلدا رصد فيها آلاف النساء المحدِّثات عبر التاريخ الإسلامى. وهنا أذكر أننى، وأنا بالدوحة أعمل بجامعتها فى أوائل القرن الحالى، قد أُسْنِد إلىَّ تدريس مقرر النثر العربى الحديث، فحاولت فى الفصل الأول من الكتاب الذى عكفت أوانذاك على إعداده أن أتحدث عن الجديد الذى انفرد به هذا النثر عن نظيره القديم، فوجدت ضمن ما وجدت أن المرأة العربية الحديثة قد دخلت ذلك الميدان، الذى لم أجد فى حدود علمى واجتهادى أنها قد ولجته قديما رغم أنه كان هناك محدِّثات كثيرات، وفقيهات وشاعرات أيضا. وقد أنفقت أياما وليالى أقرأ تراجم النساء المسلمات فى كل ما وجدته فى مكتبة جامعة قطر من موسوعات ومعاجم، فلاحظت أن كثيرات منهن كن محدثات، وكان هذا من الوضوح البارز بمكان مكين. وهو ما رصده د. الندوى أيضا. وللأسف لم أعلم وقتها بصنيع د. الندوى بل ولا بالندوى نفسه، وإلا لأشرت إليه ولو إشارة عابرة كما صنعت بعد ذلك فى بعض كتبى حين علمت بإنجاز الرجل.
وهذا ما سجلته عن هذا الموضوع فى الكتاب المذكور، وهو بعنوان "المرأة ناثرة": "ويدخل فى مظاهر التطور الذى لحق بالنثر العربى الحديث أيضا مشاركة المرأة فى الكتابة النثرية. لقد كان بين نساء العرب القدماء شاعرات منذ الجاهلية، وإن كان عددهن وإنتاجهن قليلا جدا بالنسبة للرجال وأشعارهم، إذ كانت المرأة لا تزيد فى شعرها عادة عن بعض الأبيات أو المقطوعات والقصائد، ولم يمر بى فى قراءاتى فى أدبنا القديم أنه كان لامرأة ديوان شعرى كامل حاشا الخنساء. لقد كان هناك مثلا جليلة بنت مُرّة وليلى الأَخْيَلِيّة ورابعة العدوية ونَزْهُون الغرناطية وولاّدة بنت المستكفى، إلا أن ما وصلنا عنهن من الشعر قليل قليل قليل. أما فى النثر فقد حاولت أن أستعرض ما فى ذهني من أسماء الجنس اللطيف، غير أنى لم أوفَّق إلى تذكر شىء. لقد كانت هناك محدِّثات وفقيهات مثلا، أما أديبات يكتبن النثر رسالةً أو مقامةً أو حكايةً فلا. لكن الوضع قد اختلف فى العصر الحديث، الذى سمع منذ فترة مبكرة انطلاق أصوات المصلحين الداعين إلى تحرير المرأة من قيودها والعناية بتعليمها. بدأ هذا رفاعة الطهطاوى رائد النهضة الثقافية الحديثة. وفى بداية القرن العشرين أصدر قاسم أمين كتابيه: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، اللذين أقاما الدنيا ولم يقعداها منذ ذلك الحين. وكانت هناك أصوات أخرى فى مصر وفى غير مصر كلُّها تعطف على المرأة وتدعو إلى احترام إنسانيتها وإعطائها نفس الفرص التى يتمتع بها الرجال.
وكان من ثمرة هذا أنْ دخلت المرأة المدرسة ثم الجامعة بعد ذلك، وخرجت إلى الدنيا ولم تعد قعيدة المنزل، وعملت مع الرجل فى كل المؤسسات والمصالح، وأصبحت هناك نساء كاتبات مثلما هناك رجال كتّاب، فرأينا عائشة التيمورية الشاعرة المعروفة تكتب الرواية، ومَلَك حفنى ناصف تدبّج المقالات وتلقى الخطب، ومىّ زيادة تخطب وتكتب نثرا وجدانيا مجنَّحا وتتبادل الرسائل مع بعض مشاهير الأدباء كالعقاد وجبران، وبنت الشاطىء تمارس الكتابة الإصلاحية والنقد الأدبى والإبداع القصصى والترجمة الذاتية والغيرية وتلقى المحاضرات فى الجامعة، ومثلها فى ذلك سهير القلماوى، وكذلك نعمات أحمد فؤاد ولطيفة الزيات ورضوى عاشور. وهذا الكلام يصدق على البلاد العربية الأخرى كفلسطين، التي يمكن أن نذكر منها كلثوم عودة وسلمى النصر ونجوى قعوار وأسمى طوبى ووداد سكاكينى وعنبرة سلام الخالدى وفدوى طوقان وسميرة أبو غزالة وامتثال جويدي وثريا ملحس، وسوريا ولبنان حيث ظهرت وردة اليازجية ونديمة المنقارى وألفت إدلبى وسلمى الكزبرى وضياء قصبجى ونجاح العطار وبثينة شعبان ومارى عجمى ونازك بيهم وروز غريب وليلى البعلبكى وغادة السمان وليلى عسيران، والعراق، ومنها بولينا حسون ومليحة إسحاق ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجى ولميعة عمارة وديزى الأمير وسليمة خضر وسهيلة الحسينى. كما نستطيع أن نضيف إلى هذه الأسماء ليلى أمين دياب وآسيا جبار وزهور ونيسى (من الجزائر)، وباحثة الحاضرة (ملكة الفاسى) وفتاة تطوان وآمنة اللوة وفاطمة الراوى وخناتة بنونة (من المغرب)، وزينب الكعاك وناجية ثامر وعروسية النالوتى وهند عزوز وحياة بنت الشيخ (من تونس)، وزعيمة البارونى وحميدة العنبرى وجميلة الزمرلى (من ليبيا)، وزينب الكردى وشرقية الراوى ودُرَر (من السودان)، وخديجة السقاف ورقية الشبيب ولطيفة السالم و سميرة بنت الجزيرة العربية وصفية عنبر (من السعودية)، وزهرة المالكى ودلال خليفة وكلثم جبر وهدى النعيمى وشمة الكوارى (من قطر)، وخولة القزوينى ومنيرة الفاضل ومعصومة المطاوعة (من البحرين)، وسلمى مطر سيف وليلى أحمد ومريم فرج وأمنية بو شهاب (من الإمارات)، وأمل عبد الله وشفيقة زوقرى ورمزية الأريانى وأمل اللوزى وبلقيس الحضرانى (من اليمن)، وزكية بنت سالم العلوى وبدرية الوهيبى (من عمان). بل لقد أصدرت المرأة العربية المجلات ورأست تحريرها، وأورد أنيس المقدسى فى كتابه: "الاتجاهات الأدبية فى العالم العربى الحديث" بضع عشرات من المجلات التى كان يتولاها عدد من النساء العربيات فى مصر والشام وأمريكا فقط حتى عام 1955 فحسب".