الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية :

في اللغة : بمعنى البيان والظهور قال تعالى : ( وأخي هارون هو أفصح مني لساناً )
في الاصطلاح : عبارة عن الألفاظ الظاهرة المعنى المألوفة الاستعمال عند العرب .
والفصاحة تكون وصفً للكلمة والمتكلم يقال : كلمة فصيحة ، وكلام فصيح ، ومتكلم فصيح .
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى : اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد ، وأصلها من قولهم أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرغوة . وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة ، بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما . ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني ، والفصاحة في الألفاظ ويستدل بقولهم معنى بليغ ولفظ فصيح.
وقد رد الصفدي على من فرق بين البلاغة والفصاحة حيث يقول : إن بين البلاغة والفصاحة عموما من وجه وخصوصا من وجه وبيان ذلك : أما عموم البلاغة فلأنها تتناول الكلام الفصيح أي الحسن المبين ، وغير الفصيح أي الغريب الوحشي . وعموم الفصاحة فلأنها تتناول الألفاظ المركبة فقط وخصوص الفصاحة فلأنها لا تتناول إلا الألفاظ العذبة المستعملة فقط . فثبت أن بين البلاغة والفصاحة عموما من وجه وخصوصا من وجه .
فصاحة الكلمة هي خلوص الكلمة من الأمور التالية :
من تنافر الحروف بأن لا تكون الكلمة ثقيلة على السمع صعبة على اللسان. فالبيت التالي لا يمكن إنشاده في الغالب عشر مرات إلا ويغلط فيه المنشد لأن القرب في النطق يحدث ثقلاً في النطق
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
من غرابة الاستعمال وهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ولا مألوفة الاستعمال عند العرب حتى لا يفهم المراد منها لاشتراك اللفظ أو للإحتجاج إلى مراجعة القواميس.
من مخالفة القياس بأن تكون الكلمة شاذة على خلاف القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب فنحو ( الأجلل ) مخالف والقياس ( الأجل ) بالإدغام.
من الكراهة في السمع بأن تكون الكلمة وحشية تمجها الأسماع نحو (الجرشي ) بمعنى (النفس) .
من التعقيد المعنوي بأن يكون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب إيراد اللوازم البعيدة المحتاجة إلى إعمال الذهن حتى يفهم المقصود قال عباس بن الأحنف :
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الـدمـوع لتجمـدا
أراد بجمود العين الفرح والسرور الموجب لعدم البكاء وهذا خلاف المعنى المتفاهم .
قال يحي بن خالد : ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلم فإن كان فصيحاً عظم في صدري وإن قصر سقط من عيني .
وقال محمد بن سيرين : ما رأيت على امرأة أجمل من شحم ، ولا رأيت على رجل أجمل من فصاحة .
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم من عمه العباس كلاماً فصيحاً فقال : بارك الله يا عم في جمالك . أي فصاحتك .
قال الأصمعي قال معاوية يوماً لجلسائه : أي الناس أفصح ؟ فقال رجل من السماط : يا أمير المؤمنين ، قوم قد ارتفعوا عن رتّة العراق ، وتياسروا عن كشكشة بكر ، وتيامنوا عن شنشنة تغلب ،ليس فيهم غمغمة قضاعة ، ولا طمطمانية حمير قال:من هم ؟ قال : قومك يأمير المؤمنين ، قريش قال صدقت فمن أنت ؟ قال :من جرم قال الأصمعي : جرم فصحاء الناس .
ومر رجل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ومعه ثوب فقال له أبو بكر : أتبيعه؟ فقال: لا، رحمك الله، فقال أبو بكر: لو تستقيمون لقومت ألسنتكم، هلا قلت لا ورحمك الله.
وحكي عن المأمون أنه سأل يحي بن أكثم عن شيء ، فقال : لا ، وأيد الله أمير المؤمنين ، فقال المأمون : ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها .
ودخل الحسن بن الفضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم ، فأحب أن يتكلم ، فزجره وقال : يا صبي تتكلم في هذا المقام ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إن كنت صبياً ، فلست بأصغر من هدهد سليمان ولا بأكبر من سليمان عليه السلام حين قال : أحطت بما لم تحط به ، ثم قال : ألم تر أن الله فهم الحكم سليمان ولو كان الأمر بالكبر لكان داود عليه السلام أولى .
ولما أفضت الخلافة إلى عمربن عبد ا لعزيز، أتته الوفود ، فإذا فيهم وفد الحجاز ، فنظر إلى صبي صغير السن ، وقد أرا د أن يتكلم فقال : ليتكلم من أسن منك ، فإنه أحق بالكلام منك، فقال الصبي : يا أمير المؤمنين لو كان القول كما تقول لكان في مجلسك هذا من هو أحق به منك. قال صدقت . فتكلم ، فقال يا أمير المؤمنين ، إنا قدمنا عليك من بلد تحمد الله الذي مَنّ علينا بك، ما قدمنا عليك رغبة منا ولا رهبة منك ، أما عدم الرغبة ، فقد أمنا بك في منازلنا ، وأما عدم الرهبة فقد أمنا جوارك بعدلك ، فنحن وفد الشكر والسلام.
فقال له عمر رضي الله عنه : عظني يا غلام . فقال : يا أمير المؤمنين إن أناساً غرهم حلم الله وثناء الناس عليهم، فلا تكن ممن يغره حلم الله وثناء الناس عليه، فتزل قدمك وتكون من الذين قال الله فيهم : ( ولا تكونوا كالّذين قالوا سَمعنا وهم لا يسمعون ) . فنظر عمر في سن الغلام فإذا له اثنتا عشرة سنة.
وحكي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك فقدمت العرب ، فهابوا أن يكلموه ، وكان فيهم درواس بن حبيب وهو ابن ست عشر سنة ، له ذؤابة وعلية شملتان ، فوقعت عين هشام عليه ، فقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل حتى الصبيان ، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً فقال : يا أمير المؤمنين إن للكلام نشراً وطياً ، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره ، فإن أذن لي الأمير أن أنشره نشرته ، فأعجبه كلامه ، وقال له : أنشره لله درك ، فقال : يا أمير المؤمنين إنه أصابتنا ثلاث سنون سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم ، وفي أيديكم فضول مال ، فإن كانت لله ففرقوها على عباده ، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم ، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم ، فإن الله يجزي المتصدقين ، فقال هشام ، ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً فأمر للبوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم ، ثم قال له : ألا حاجة ؟ قال : ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين ، فخرج من عنده وهو من أجل القوم .
ومما يحكى عن نوادر الفصحاء أن عبد الملك بن مروان جلس يوماً وعنده جماعة من خواصه فقال : أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه وله على ما يتمناه، فقال سويد بن غفلة : أنا لها يا أمير المؤمنين ، قال : هات ، فقال : نعم يا أمير المؤمنين . أنف بطن ترقوه ثغر جمجمة حلق خد دماغ ذكر رقبة زند ساق شفة صدر ضلع طحال ظهر عين غبب فم قفا كف لسان منخر نغنوغ هامة وجه يد وهذه آخر حروف المعجم .
فقام بعض أصحاب عبد الملك وقال : يا أمير المؤمنين أنا أقولها من جسد الإنسان مرتين فضحك عبد الملك وقال لسويد أسمعت ما قال ، قال : أصلح الله الأمير أنا أقولها ثلاثاً فقال : هات ولك ما تتمناه ، فابتدأ يقول : أنف أسنان أذن، بطن بنصرة بزة ، ترقوة تمرة تينة ، ثغر ثنايا ثدي ، جمجمة حنب جبهة ، حلق حنك حاجب ، خد خنصر خاصرة ،دبر دماغ درادير ، ذقن ذكر ذراع ، رقبة رأس ركبة ، زند زردمة زب ، فهناك ضحك عبد الملك حتى استلقى على قفاه، ساق سرة سبابة، شفة شفر شارب، صدر صدع صلعة ، ضلع ضفيرة ضرس ، طحال طرة طرف ، ظهر ظفر ظلم ، عين عنق عاتق ، غبب غلصمة غنة ، فم فك فؤاد ، قلب قفا قدم ، كف كتف كعب ، لسان لحية لوح ، منخر مرفق منكب ، نغنوغ ناب نن ، هامة هيئة هيف ، وجه وجنة ورك ،يمين يسار يافوخ .
ثم نهض مسرعاً فقبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين قال : فعندها ضحك عبد الملك وقال : والله ما تزيدنا عليها شيئاً أعطوه ما يتمناه ، ثم أجازه وأنعم عليه ، وبالغ في الإحسان إليه .

قالوا عن الفصاحة و البلاغة :
أحسنُ الكلام نظماً ما ثقبَته يَد الفكرة، ونظمته الفِطْنة، ووُصِل جَوْهَرُ معانيه في سُموط ألفاظه، فاحتملته نحورُ الرواة.
أطيبُ الكلامِ ما عُجِنَ عَنْبَرُ ألفاظه بمسْك مَعَانيه، ففاح نسيمُ نَشَقِه، وسطعت رائحة عبَقه، فتعلّقت به الرُوَاة، وتعطَّرت به السَّراة.
خيرُ الكلام ما أَحْمَيْتَه بكِير الفِكر، وسبَكْتَه بمشَاعِل النَّظر، وخلَّصته من خَبَث الإطناب، فبرز بروزَ الإبريز، في معنى وَجيز.
خيرُ الكلام ما نَقَدَتْهُ يدُ البصيرة، وجلَته عين الروية، ووزنْتَه بمِعْيار الفصاحة، فلا نظر يُزَيِّفه، ولا سماعَ يُبَهْرِجُه.
أحسن الكلام ما نصبتَ عليه مِنْفَخة القريحة، وأشعلْتَ عليه نارَ البصيرة، ثم أخرجتَه من فحم الإفحام، ورقَّقته بفطِّيس الإفهام.
خيرُ الكلام ما أحكمتَ نَجْرَ معناه بقَدُوم التقدير، ونَشَرْتَه بمنشار التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارِضة لسَقفِ اللسان.
أحسنُ الكلام ما اتَّصَلت لُحمة ألفاظه بسَدَى معانيه، فخرج مُفوَّفاً مُنيراً، وموشَّى محبراً.
البليغُ من أخذَ بخِطام كلامه، فأناخَه في مَبْرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عِقَالاً، والإيجاز له مَجالاً، فلم يَندَّ عن الآذان، ولم يشذَّ عن الأذهان.