غادية من العمل و مرهقة ،حيث أمضي أكثر من نصف يومي متأرجحة بين السلالم صعودا و نزولا لأتفقد أحوال المرضى و أعطيهم لزوماتهم ، و أقابل كل يوم الكثير من طباع الناس المختلفة منها ما يوجب الاحترام و يستجلب الشفقة و منها ما يسبب الاستياء و النفور ، و رأسي ممتلئ تماما من كثرة الحديث و الشرح ما بين المرضى و مرافقيهم ، كنت قد وقفت على الرصيف القريب من المشفى الذي أعمل به أنتظر سيارة أجرة تقلني إلى البيت ، لأنني تأخرت عن باص الدوام الذي ينقل الموظفين نتيجة ضغط العمل ، و الشمس حولت وجهي إلى رغيف قد خرج توا من الفرن و العرق يتصبب مني و قد أخذ التعب مني كل مأخذ ..
كان جل همي هو بلوغ جنتي الصغيرة لآخذ حمام باردا و أنعم ببعض الراحة و الاستلقاء لبعض الوقت لأنفض عن جسدي و روحي ما ألم بها من إرهاق لأنني أعرف بأن واجبات أخرى تنتظرني في البيت ..
كان الطريق واسعا "أوتوستراد" و فيه مسارين ذهابا و إياب ، و السيارات الكبيرة و الصغيرة تمر منه ، و بينما كنت أنتظر السيارة حصل ما لم أكن أتوقع سماعه لا أن أراه ، لقد حصل شيئ مريع، فأثناء انتظاري لمحت رجلين و معهما طفل لم يتجاوز الخامسة من العمر و كان الرجلان منغمسان في حديث ، فتوقفا ليعبرا الطريق إلى الجانب الآخر وسط مرور كثيف للسيارات و أغلبها يسير بسرعة ، و فجأة و كأن القضاء يغشي العيون أخذ الطفل يركض أمامهما ليسبقهما و هو يضحك مسرورا ، انتابني شعور القلق الهائل فشعرت بأن قلبي يضرب ضرباته في حنجرتي ، و بلمح البصر التقفته سيارة كانت كالريح العاصفة في سرعتها فصدمته بشكل قوي حيث طار في الهواء بضعة أمتار و سقط على الأرض دون حراك ، و بشكل لا إرادي توجهت نحو الطفل و ساقاي تكاد لا تحملاني من الخوف ، كان الشارع خاليا من الناس فقد انتهى وقت الزيارات و انصرف جميع العاملين في المشفى فخيم السكون على المنطقة إلا من صوت الزحام الذي سببه الحادث ، وصلت حيث كان الطفل فحاولت احتضانه وسط تحلق أصحاب السيارات التي ركنوها بشكل عشوائي و نزلوا ليروا ما الذي حصل و في هذه الأثناء حانت مني التفاتة فوجدت أمرا عجيبا جدا أذهلني بل جعلني أستغرق في الذهول ، ذلك أن الرجلان اللذان كان الطفل المسكين معهما كانا يركضان بجنون نحو السيارة الصادمة تاركين الطفل مرميا على الأرض مجهول المصير ، بالرغم من أنهما لن يبلغاها مهما ركضا و الذي فهمته من تصارخهما أنهما كانا ينبهان بعضهما على أن لا تضيع منهما نمرة السيارة الصادمة و التي لم تتوقف بعد الحادث بل زادت سرعتها حتى اختفت ..
في هذه الأثناء كنت قد حملت الطفل شارحة للناس الذين أحاطوا بي بأنني ممرضة و هذا هو مشفاي الذي أعمل فيه و قبل بلوغنا باب الإسعاف وجدت الرجلين خلفي يصرخان بشكل جنونيّ و هذا هو القسم الأغرب في الأمر و الذي جرحني في الصميم إلا أنه لم يكن لدي هم سوى إيصال الطفل إلى الأيدي المختصة غير متوقعة ما الذي سأرى و أسمع ..
حيث تقدما نحوي و علامات و الغضب تنطق على وجهيهما فأخذاه مني بالقوة فقال الأول : دعي الطفل أيتها الخاطفة ، ليردفه الآخر : سنخبر عنك الآن و سط حالة اندهاش من الجميع .